اعداد: الدكتور محمود صالح العادلي المحامي
أستاذ القانون الجنائي
ورئيس قسم القانون العام بجامعة الأزهر بمصر
والمحامى أمام المحاكم العليا بمصر وسلطنة عُمان
حدود التدخل الإنساني … في القانون الدولي العام
باستقراء التاريخ الإنساني نجد أن ظاهرة التدخل الإنساني ليست جديدة في العلاقات الدولية ؛ بيد أنها صارت بارزة ومميزة بصورة كبيرة في اعقاب انتهاء الحرب الباردة وبروز النظام الدولي الجديد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، فقد نجم عن سقوط المنظومة الاشتراكية تفشي الصراعات الداخلية في الكثير من الدول مما أدى إلى انتشار العديد من المظالم والحروب والصراعات الداخلية والإقليمية وخاصة ما يتعلق بالعرقيات، الأمر الذي نجم عنه ظهور صور عديدة لتدخل الدول والمنظمات الدولية تحت مبرر التدخل لحماية هذه الأقليات ووفقاً لما تقتضيه حماية حقوق الإنسان وحماية الأقليات وتقديم المساعدة الإنسانية، ومما ساهم في زيادة هذه التدخلات : سعي الدول الرأسمالية وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية إلى نشر القيم الغربية والفلسفة الرأسمالية المتمثلة في الليبرالية والديمقراطية وآليات اقتصاد السوق وخصوصاً في الدول الناشئة والمتحولة.
ويضم التدخل الإنساني بين دفتيه : المساعدة الإنسانية والتدخل العسكري بشقيه السلمي والعنيف، ويتحقق ذلك في الغالب الأعم تحت غطاء قانوني من الأمم المتحدة.
غير ان ذلك يتصادم في بعض جوانبه مع مفاهيم ثابتة في القانون الدولي والعلاقات الدولية مثل مفهوم السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول المستقلة المنصوص عليها في القانون الدولي.
التدخل الإنساني:
وجدير بالذكر ان التدخل الإنساني برز بصفة أساسية مع الدور الذي لعبته المنظمات الإنسانية في النزاعات الدولية ، ثم أمتد ليشمل التدخل العسكري الجماعي في إطار هيئة الأمم المتحدة في الدول التي تنتهك فيها حقوق الإنسان على غرار التدخل شمال العراق، هايتي الصومال، و البوسنة والهرسك …الخ (وفقا للمادة 42 من الفصل السابع من الميثاق).
صحيح أن الفقرة الأولى من المادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه ” لا يجب القيام بأي فعل إكراهي سواء تحت ترتيبات إقليمية أو منظمات إقليمية بدون موافقة مجلس الأمن” .
غير أن العديد من التدخلات الخارجية – التي تمت تحت لواء شعار حقوق الإنسان – تمت بدون قرار من مجلس الأمن ؛ وذلك مثل تدخل حلف الناتو في كوسوفو1999 و تدخل بريطانيا في السيراليون 2000 …الخ .
ومن هنا ظهرت الفكرة القائلة : أولوية المشروعية مقدمة على مبدأ الشرعية في التدخل الخارجي.
وعلى أية حال فإن مفهوم التدخل الإنساني يشير إلى أنه:
” التدخل القسري في الشؤون الداخلية لدولة ما لحماية انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب على نطاق واسع. بهذا المعنى يجب تمييزه عن “المساعدة الإنسانية” التي لا تنطوي على القسر والتي تحدث عادة بموافقة الدولة المعنية. بعبارة أخرى، ينطوي التدخل (لدوافع) إنسانية على استخدام القوات المسلّحة من قبل دولة أو مجموعة من الدول أو منظمة دولية من منطلق الدوافع الإنسانية بغرض محدد هو منع أو تخفيف الآلام واسعة الانتشار أو الموت”.
ووفقاً لتعريف آخر التدخل الإنساني هو :
استعمال القوة العسكرية أو التهديد باستعمالها من طرف دولة أو منظمة دولية و ذلك لحماية حقوق الإنسان “.
نماذج التدخل الإنساني:
لقد ذهب العديد من الباحثين إلى تصنيفات متعددة لأشكال التدخل، وذلك يرجع إلى معايير التصنيف في حد ذاتها، فنجد مثلا JEMES KURTH الذي يذهب إلى أنه يوجد أربعة نماذج للتدخل:
أ- نموذج الامتناع( the abstentionmodel):
ويثور هذا النموذج، في حالة تصعيد لعمليات الإجرام والعنف ضد المدنيين، وتقارب تلك الجرائم نسبات عالية وتحدث كوارث إنسانية،فلا المجتمع الدولي ولا النظام الدولي ولا القوى الكبرى يملك أي غطاء قانوني للتدخل في هذه الحالات، رواندا 1994 ، يمكن إسقاط هذا النموذج أيضا على السودان، الكونغو، الشيشان، كولومبيا.
فعلى سبيل المثال نجد أن دور كل من هيئة الأمم المتحدة وفرنسا في رواندا، منذ صيف 1994 مابين 500.000 و800.000 رواندي من أغلبية التوتسي قد قتلوا في ظرف 3 أشهر ؛ الأمر الذي أثار حفيظة المجتمع الدولي، وتلك المجازر كانت نتيجة الصراعات الدولية التي كانت بين الهوتو والتوتسي في 1959،1963،1966،1973،1990،1991،1992،1993.
غير أنه في سنة1994 فلا الأمم المتحدة وأعضاؤها لم يتخذوا لا الوسائل الفعالة لتجنب تلك النكبة ولا القيام بالنشاطات الضرورية لإيقاف موجة التقتيل، والنتيجة كانت أن رواندا أصبحت ملحمة لتقاعس منظمة الأمم المتحدة للقيام بأدوارها.
باختصار كانت رواندا محصلة مأساوية لسياسة الامتناع ما ترتب عليه اضطراب الجماعة الدولية بعد ما حصل من مشاكل في حق إنسانية.
ويوصف الموقف الدولي في هذا النموذج بأنه يقف متفرجا ومشاهدا على الكوارث التي ترتكب في حق الإنسانية،كما يذهب البعض إلى اعتبار سياسة الامتناع –عدم التدخل- هي السياسة السليمة على الأقل بالنسبة لصناع القرار لاعتبارات (الكلفة والزمن).
ب- نموذج الإغاثة ـ النجدة ـ(TheRelief Model):
ويمكن أن يتخذ التدخل صورة : تحقيق أو تأمين الإغاثة الفورية والسريعة في حالات الكوارث أو الجرائم الإنسانية ـ في حالات المجاعة ـ على سبيل المثال، وبالتالي لابد و أن يؤخذ جانب من التواضع والحساسية وكذا الحذر في التعامل أو الشروع في التدخل الإنساني، بالفعل إن ذلك ما فكرة به إدارة كلينتون في الصومال 1992، وكذلك ما فكرت فيه كل من الحكومة البريطانية والفرنسية للقيام به في البوسنة .
من أسف ان الفشل الأمريكي في التدخل في الصومال وكذا تدخل الأمم المتحدة في البوسنة (1993-1995) يشير إلى أن نموذج الإغاثة في التدخل الإنساني يمكن أن يكون وبسهولة كارثة إنسانية في حد ذاته.
وفي حقيقة الأمر وواقعه أن المجتمع الدولي ينطق بوجود مصالح متضاربة و أطراف حربية ذات توجهات نزاعية (عسكرية) وهناك تدخلات بالإكراه إلى الدول التي تعرف أزمات أو نزاعات، وبالتالي فهذا النموذج لابد أن يمتد إلى إغاثة أكثر فعالية، ففشل حكومة كلينتون جعلها تتخلى عن الأمر وتعود إلى نموذج الامتناع، وهذا ما قامت به الأمم المتحدة في البوسنة، فهو لايمثل نموذج واقعيا أو عمليا للتدخل الإنساني.
ج- نموذج الإغاثة القصوى(The ReliefPlus Model):
هذا النموذج يظهر في حالة قيام السلطة المحلية بمنع المساعدات والنجدة من الأطراف الخارجية في هذه الحالة تعمل القوى الخارجية على ترميم هذا الحكم أو الإطاحة به وتنصب أصدقائها على رأس السلطة، هذا النموذج نجده فيما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في هاييتي 1994. وبالفعل هذا ما قامت به الو.م.أ في العديد من المناسبات خاصة في الكربين و أمريكا الوسطى في نهاية العقد الماضي(نيكاراغوا1900-1930 ،غرينادا 1983 ،بنما 1989 ).
د- نموذج إعادة البناء أو الإعمار(The Reconstruction Model):
يهدف هذا النموذج إلى التنظيم الكلي والتام للنظام السياسي للدولة المتدخل فيها، وهذا نتاج للتخطيطات الطويلة، لكل من أنصار الاتجاه اللبرالي والديمقراطي وحتى أنصار النظم المتعددة الثقافات، والمشاهير…والذي يهدف إلى خلق نظم ديمقراطية في البلدان المتدخل فيها وبتالي تصبح تؤمن بهذه القيم ولا تتعدى على حقوق الإنسان.
فنجد هذه العمليات المعاصرة الدور الذي قام به الناتو و الأمم المتحدة في البوسنة وكوسوفو، والأمم المتحدة في تيمور الشرقية، كما هناك أمثلة تقليدية لهذا النموذج، الوظائف التي قامت بها الو.م أ بعد الحرب العالمية الثانية في كل من اليابان وألمانيا و إيطاليا.
خلاصة القول :
و نخلص مما تقدم أن النظام الدولي القائم على السيادة المطلقة لا يتيح فرصا مناسبة للتعامل مع العنف الإثني الداخلي، و مختلف أشكال العنف الممارس على الأفراد و الجماعات من إبادة و تطهير عرقي، لذلك استوجبت التحولات التي عرفها النظام الدولي لما بعد الحرب البـاردة ضرورة العمـل على وضع أطــر نظرية و عمــلية تتمــاشى و متطلبات حفظ الأمن و السلم الدوليين.
لذا فقد ظهرت منذ بداية التسعينيات سلسلة من عمليات التدخل لأسباب إنسانية في الصومال وهاييتي وليبيريا و راوندا والبوسنة.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الاستعمال السيء و المفرط لهذا المبدأ جعل الدول تستغله لتبرير مختلف سلوكاتها التدخلية، لذا فلم تنجح أي من هذه العمليات بالمعنى العملي.
ورغم ذلك فقد ظلت قضية التدخل الإنساني تحتل موقعاً متقدماً في الأجندة الدولية. وتعود أسباب ذلك إلى غياب الصراع بين القوى العظمى وانتشار الوعي بحقوق الإنسان وعولمة المعلومات ونزعة مجلس الأمن إلى تفسير “تهديد السلام” بشكل موسع.
اترك تعليقاً