تأثير حماية حقوق الملكية الفكرية على صناعة النشر
تعيش الانسانية اليوم تسارعا مذهلا نحوعالم الفكر والمعرفة ، وقد أصبحت معايير قياس تقدم الأمم ورقيها بمقدار ما تملك من معلومات وتنتج من أفكار ، بعد أن كانت تقاس بمقدار ما تملكه من قوة المال وترسانة السلاح.
كما تشهد بمقتضى هذا التحول تقدما كبيرا ومتزايدا في الانتاج الفكري والابداعي.وقد نجم عن ذلك نموا مذهلا في الحصيلة المعرفية ، حتى أصبحت تنمو وتتضاعف خلال سنوات قليلة ، بعد أن كان تضاعفها يحتاج إلى قرون…
ذلك هو عصر المعلومات والتطور المعرفي الذي نعيش ، والذي أخذت فيه المنتجات المعلوماتية تشكل أرقاماً اقتصادية ضخمة لها ألف حساب في الميزان التجاري ومعدلات الدخل القومي للأمم التي أحسنت استخدامها .
فعجز دولنا عن تطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية لا يؤهلها لدخول عصر المعلومات.
ما مستقبل الإبداع في دولنا ؟ بل ما مستقبل دولنا ، إذا أهدرت حقوق الملكية الفكرية فيها ، وعُدَّ الإنتاج الفكري مشاعا،مثل الماء والهواء ، لا تترتب لمنتجه حقوق ولا لسارقه عقاب؟!
إن قوانين الحماية لحقوق الملكية الفردية ، تشكل التربة الصالحة لدعم وتشجيع الابداع والمبدعين في شتى الميادين،
وما لم تدعم قوانين الحماية بوعي اجتماعي عميق ، ترسخه في ضمير المجتمع منظومة فقهية تربوية إعلامية متضافرة ، فإن هذه القوانين ستظل حبراً على ورق ، وستظل قرصنة الأفكار في تفاقم وازدياد وستزداد المعاناة من فقر الإبداع ، ومن الجمود والتخلف .
إن الدول التي تحمي حقوق الملكية الفكرية إنما هي تحمي مستقبلها الثقافي والحضاري وتحافظ على تقدمها العلمي والتكنولوجي في شتى الميادين.
فما الذي يدفع الشركات ومراكز البحث لإنفاق الملايين وقضاء السنين المضنية في البحث لاكتشاف علاج لمرض فتاك أو حتى علاج يعيد إليك القوة والحيوية لو لم تكن هناك حماية لحقوق الإبداع فهل كنت تجد وسائل الراحة والرفاهية التي تنعم بها في حياتك.
لم يعد خافياً على أحد ، استفحال ظاهرة قرصنة النشر ، والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية ، يتصيد قراصنة النشر أكثر الكتب ابداعا وانتشاراً ، يعيدون طبعها وتوزيعها دون رقيب أو حسيب ، فيحرمون المبدعين من استثمار جهودهم ، ومن متابعة تطويرها وتنميتها .
إن سكوت أصحاب الحقوق عن جرائم الاعتداء على هذه الحقوق وتهاون الجهات المعنية في تطبيق القوانين ، واعتماد آليات رادعة يشجع قراصنة النشر على استباحتها ، والإساءة إليها مادياً ومعنوياً .
إن ما يتعذر به قراصنة النشر من المغالاة في الأسعار بحد يفوق طاقة القراء الشرائية فيعمد القراصنة إلى سد الثغرة ، بتوفير الكتاب وتخفيض سعره نيابة عن أصحاب الحقوق ، مدعين شرف الغاية ، ونبل المقصد ، وخدمة الِعلم ، ومتجاهلين الأثر المدمر الذي يترب على فعلتهم .
هذه المشكلة التي تستفحل ضمن ثقافة عامة مهيمنة ، تسود المجتمع بكل فئاته ، من القارئ إلى بائع الكتب ، إلى الموزع ، إلى المؤسسات الرسمية والثقافية والجامعات ، وتدفع الجميع إلى الاهتمام بالسعر الأرخص ، دون مبالاة بحق التأليف .
ان احلال ثقافة الاحترام لحقوق الملكية الفكرية محل ثقافة الاستباحة لها ، لا يكفي له إصدار التشريعات الرادعة ، بل لابد من إقراره في ضمير الأمة ، وهذا يتطلب تضافر الجهود من جميع الأجهزة المعنية ( الإعلام والتربية والثقافة والتعليم العالي والإفتاء والقضاء ).
انه دور متكامل وثقافة وطنية عامة يساهم المجتمع بأسره في التصدي لها. بقوة القانون أولاً، وبسهولة الإجراءات التي تكفل تنفيذه إذا اقتنع المشرع والسلطات القضائية والتنفيذية أن الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية سرقة وجريمة لا تقل خطورة وبشاعة عن أي سرقة مادية.
إننا نرى في احترام الملكية الفكرية علامة تحضر أساسية ، يسعى العالم أجمع لتطبيقها ، ومطلوب من كل أطراف صناعة الكتاب بدءاً من القارئ إلى المؤلف والناشر والطابع إلى الشاحن والموزع ، ليساهم كل منهم بدوره في فرض الاحترام لهذه الحقوق .
فحق الملكية الفكرية حق من حقوق الإنسان تصونه القوانين العامة والحقوق الطبيعية ، والاعتداء عليه جريمة تحرمها الشرائع السماوية وتعاقب عليها القوانين الجزائية العامة .
فالناشر صاحب رسالة نبيلة، يساهم في نشر العلم والمعرفة. فالإبداع الذي يمارسه الناشر لا يقل شأنا عن دور المؤلف في صناعة الكتاب
والناشر ملتزم بميثاق شرف يتعهد بموجبه الالتزام بأخلاقيات مهنة النشر واحترام حقوق النشر والتأليف والإخلال بهذه الحقوق هو بمثابة الجريمة المخلة بالشرف.
لكن الواقع الذي نعيشه اليوم في عالمنا العربي مرير ،والحقائق مذهلة فيما يتعلق بشبكات القرصنة المنتشرة في العواصم العربية والوسائل التي تتبعها باحتراف يوظف التقنيات المتطورة أشبه ما يكون بشبكات المافيا .
ان أهم معوقات تطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية رسوخ ثقافة الاستباحة لحقوق الملكية الفكرية تحت ذرائع وأوهام شتى استغلها قراصنة الفكر ، ، وغفل المجتمع عن أضرارها.
وأول هذه الذرائع فتاوى شرعية قاصرة ، أفتت بشيوع العلم والمعرفة.
وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم (5 / د) في 5/ 9 / 1988 حاسماً في إسقاط هذه الذريعة ، فقد نص في مادته الثالثة على أن ” حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً ، ولأصحبها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها ”
ومن المعلوم كذلك أن بعض الأعمال الموسوعية أو المعجمية التي يستنفر لها عشرات المؤلفين والباحثين، يستغرقهم البحث والاعداد والتحقيق سنوات مضنية وتنفق علية المبالغ الطائلة. حتى إذا اثمر عملا مبدعا غير مسبوق ، تلقفه القراصنة من دون كلفة ولا عناء مستخفين بكل ما أنفق على إعداده من نفقة وجهد .
ومن العوائق التي نلمسها على ارض الواقع في العديد من الدول عجز النظام القضائي عن تطبيق قوانين الحماية ، نتيجة لضعف الخبرة ، وقلة السوابق الفضائية وندرة الاجتهادات في هذا المجال ، إلى جانب عدم تشكيل الوعي الكافي والقناعة التامة بأهمية هذه الحقوق لدى القضاة … كما أن الخبرة التي تكونت لدى قراصنة النشر ، جعلتهم أكثر ما يكونون سعادة عندما تقام على أحدهم الدعوى بشأن اعتداءاتهم على هذه الحقوق ، فهذا يعني لديهم سنوات كثيرة من التأجيل ، وفرصة سانحة لمتابعة أعمالهم على أساس أن الزمن كفيل بحل المشكلات ، وإصابة المدعين من أصحاب الحقوق بالملل واليأس والإحباط
ومما يتعذر به مستبيحو حق المؤلف انخفاض مستوى الدخل ، وضيق ذات اليد عن امتلاك العلم والمعرفة .. يتخذون ذلك ذريعةً لتجاهل حق المؤلف ، واستباحته وتسويغ سرقته ،
في المقابل لابد من التصدي لظاهرة الاحتكار المفروض علينا بطريقة فعالة تتبناها الأنظمة والجهات المعنية لتحقيق التوازن بين كفتي تلك المعادلة الصعبة التي تحفظ الحقوق وتمنع الاحتكار.
أقول لكم أن الأنظمة وحدها لا تكفي للقضاء على القرصنة وحماية الحقوق الا :
– اذا أصبحت حقوق الملكية الفكرية ثقافة ووعياً تستوعبه أدبياتنا ومناهجنا ومنتدياتنا .
– وإذا أصبحت القرصنة جريمة أخلاقية لا تختلف في نظر المجتمع عن جريمة السرقة المادية التي يمارسها اللصوص في ظلمات الليل أو في وضح النهار .
– وإذا نبذ المجتمع القرصنة وقراصنتها فلا تجد أستاذاً جامعياً يستطيع أن يطأ بقدمه حرم جامعته إذا افتضح أمره ولا ناشراً يتبوأ موقعاً متقدماً في اتحاده مدافعاً عن حقوق زملائه يقدمونه ويحترمونه وهم يعلمون حقيقته وطبيعة أعماله .
– إذا التزمت المؤسسات الثقافية والتربوية بتقديم الأصل على المقرصن حتى وان كان المقرصن يتمتع بالسعر الأقل .
– إذا لم تستبح المعاهد والجامعات الحقوق فتقوم بتشجيع الطلاب على استنتاج المقررات.
– إذ تعاضدت جهود اتحادات الكتاب والناشرين ومدراء المعارض باتخاذ التدابير والإجراءات القاضية بحرمان قراصنة الكتاب ناشرين ومؤلفين من المشاركة والحضور في جميع المحافل الثقافية والمعارض العربية والدولية .
من الظواهر السلبية التي نعاني منها أن الأنظمة والقوانين تنتظر من يتقدم بالشكوى على المعتدين وفي المقابل تجد السكوت والتهاون من أصحاب الحقوق عن جرائم الاعتداء فتضيع الحقوق وتقوى شوكة المقرصنين .
لقد أخذ اتحاد الناشرين العرب على عاتقه مهمة التصدي بحزم لظاهرة الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية. ضمن جملة من الإجراءات أهمها:
أولا : تقديم وتبادل المعلومات حول أعمال الاعتداء على الحقوق بعد التحقق من صحة المعلومات وتوثيقها.
ثانيا : إعداد قوائم بأسماء المخالفين أو المتورطين بالترويج للكتب المقرصنة ( بما يعرف بالقائمة السوداء).
ثالثــا: التعاون مع اتحادات الناشرين في الدول العربية لرصد أعمال التزوير والإبلاغ عنها.
رابعا :إيقاع العقوبات المنصوص عليها في النظام بحق المخالفين والتي تصل إلى درجة الشطب من عضوية الاتحاد القطري والعربي.
خامسا: التنسيق مع مدراء المعارض العربية لمنع المقرصنين من المشاركة في المعارض العربية فضلا عن عدم السماح لدخول ومشاركة الكتب المزورة.
سادسا : التنسيق مع الاتحادات المحلية لشطب المعتدين من عضوية اتحادا تهم المحلية بعد ثبوت اعتداءاتهم.
سابعا : التواصل مع الجهات الثقافية والمؤسسات المعنية من أجل تفعيل القوانين الخاصة بالملكية الفكرية وتطبيقها.
ليكن معلوما للجميع أن الجهود والصلاحيات والإمكانيات التي يمتلكها اتحاد الناشرين العرب لا تكفي وحدها للقضاء على ظاهرة القرصنة فلا تستطيع جهة واحدة استئصال هذا الوباء المستشري. فلا القانون وحده قادر ولا اللجان المتخصصة وحدها قادرة .
انه دور متكامل وثقافة وطنية عامة يساهم المجتمع بأسره في التصدي لها. بقوة القانون أولا، وبسهولة الإجراءات التي تكفل تنفيذه.
وأخيرا فانني أتمنى لهذا المؤتمر أن يوفق في مسعاه لتحقيق نتائج طيبة وتوصيات بناءة تسهم في لجم القرصنة والقراصنة وتساهم في غرس وبناء فكر ايجابي نحو ثقافة الحقوق وحماية الملكية الفكرية في هذا البلد الكريم وفي سائر البلدان العربية .
اترك تعليقاً