البعثة الدبلوماسية بين الحصانة ومقتضيات الأمن الوطنـــي
أ / عصام أحمد علي السنيدار
استقر العمل الدولي منذ العهود الأولى للعلاقات الدبلوماسية بين الدول على تمتع المبعوثين الدبلوماسيين بحصانات وامتيازات تكفل لهم الحرية والاستقلال في القيام بالمهام المنوطة بهم. فقواعد الحصانة الدبلوماسية تعد من أول المبادئ القانونية المستقرة في القانون الدولي.
وطالما أن البعثات الدبلوماسية ملتزمة حدود مهامها ووظائفها المعترف لها بها من قبل القانون الدولي، وطالما ألتزمت الدولة المستقبلة للبعثة الدبلوماسية بواجباتها في رعاية حصانات وامتيازات هذه البعثات فلا إشكال هنا حيث تتماشى القواعد الدولية المتعلقة بالحصانات الدبلوماسية مع الممارسة العملية نحو هدف واحد هو تمكين اداء البعثة لمهامها الدبلوماسية بحرية واستقلال.
ولكن الإشكال يثور عندما تتجاوز البعثات الدبلوماسية حدود مهامها فتخرج بذلك عن نطاق المشروعية.
فظاهرة إساءة استعمال الحصانات والامتيازات الدبلوماسية، وعدم إحترام قوانين دولة الاستقبال باتت تلعب دورا مهما في رسم إطار الحصانات والامتيازات الدبلوماسية خاصة في الآونة الأخيرة بعد ازدياد الدول الحديثة الاستقلال وبالتالي ازدياد عدد المبعوثين الدبلوماسيين.
كما عمق من حرص الدول على أمنها الوطني ووسع أبعاده أن معظم الدول تلجأ إلى الجاسوسية بدرجات متفاوتة وغالبيتها تستخدم بعثاتها الدبلوماسية في ممارسة أنشطة التجسس تحت الغطاء الدبلوماسي. مما لا شك فيه أن أي نشاط من هذا القبيل يمثل تهديدا لأمن الدولة المستقبلة للبعثة، ومن ثم فإنه لا يمكن التسليم بأن الحصانات والامتيازات الممنوحة للمبعوثين الدبلوماسيين تحول أو تمنع حق الدولة في حماية أمنها إذ أن هذه الحصانات لا يجوز أن تصل إلى حد استغلالها في تهديد أمن الدولة المستقبلة للبعثة الدبلوماسية.
وهكذا يمكن القول بأن الحصانات والامتيازات الدبلوماسية انما هي حصانة مقيدة بمقتضيات الأمن الوطني للدولة صاحبة الإقليم، وأنها عندئذ قد تضطر إلى التجاوز عن الالتزام بالقواعد الدولية التي تطلق العنان للحصانات والامتيازات الدبلوماسية، حفاظا على أمنها وسلامتها الوطنية.
ذلك أن هناك حقيقة مؤداها أنه حيثما لا يمكن تحقيق نوع من التوازن بين أمن الدولة من ناحية والحصانة والامتيازات الدبلوماسية من ناحية أخرى، فإن الجانب الذي ينبغي أن يرجح هو أمن الدولة المستقبلة.
فالقانون الدولي يعطي الدولة صاحبة الإقليم الحق في الحفاظ على أمنها وسلامتها مستندة في ذلك إلى نظرية السيادة، التي تفرض هذه الحقيقة، وهو ما أكده واقع العمل الدولي الذي يشير إلى أن الدول تميل إلى تقديم مقتضيات أمنها الوطني على أي اعتبارات أخرى.
على أن ذلك لا يعني أن لهذه الدولة أن تتعسف في استعمال حقها إذ عليها أن لا تغالي في تفسير مقتضيات أمنها الوطني، حتى لا تصبح أداة لتعطيل تطبيق الحصانات والامتيازات الدبلوماسية، وتؤثر بالتالي على مهام البعثات الدبلوماسية، وعلى العلاقات السلمية بين الدول.
ولعل من المناسب الآن أن نختم دراستنا هذه بتبيان النتائج والتوصيات التي توصلت الدراسة بكل التواضع إليها، وذلك على النحو التالي:
1) كانت الدبلوماسية من أهم الوسائل التي استخدمها صلى الله عليه وسلم في تقدم الدعوة الإسلامية وانتشارها وإخراجها إلى الدائرة الدولية حيث أولاها جل اهتمامه، وقد برز هذا الاهتمام في عنايته باللغة الدبلوماسية، وفي اختيار السفراء وحسن استقباله للوفود، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من اتخذ الخاتم الرسمي في المراسلات الدبلوماسية.
2) يعد العرف المصدر الأساسي للحصانات والامتيازات الدبلوماسية. فالقانون الدبلوماسي يشمل العادات والأعراف الموجودة منذ آلاف السنين. وهو ما أكدته اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 في ديباجتها على ضرورة استمرار قواعد القانون الدولي العرفي في تنظيم المسائل التي لم تنظمها صراحة أحكام هذه الاتفاقية.
3) يمكن الجمع بين نظرية مقتضيات الوظيفة ومبدأ المعاملة بالمثل لوضع أساس فلسفي لتبرير منح الحصانات والامتيازات للبعثات والممثلين الدبلوماسيين، إذ أن دور مبدأ المعاملة بالمثل جاء ليسد الفراغ الذي تركته نظرية مقتضيات الوظيفة عندما لم تفسر سبب منح الحصانات في الحالات التي لا علاقة لها بالوظيفة الدبلوماسية.
4) لا تعد البعثة الدبلوماسية من أشخاص القانون الدولي، بل هي جزء من الدولة الموفدة من الناحية التمثيلية، ولهذا الأمر نتائجه القانونية، خاصة على صعيد المسؤولية الدولية، إذ لا تسأل البعثة عن أعمالها ومخالفاتها، بل إن الدولة الموفدة للبعثة تتحمل كامل المسؤولية عن جميع نشاطات بعثتها لدى الدولة الموفدة إليها.
5) ان الأمن الوطني بالنسبة لأي دولة هو أحد عناصر الوجود وأحد مقتضيات الاستمرار، فهو يمثل جوهر الدولة، وعديدة هي المكونات المؤثرة في تكوين الأمن الوطني. بيد أن المقومات الاقتصادية تعد الدعامة الأساسية التي تكفل إحكام ومكانة بنيان الأمن الوطني، فقد أصبح الاقتصاد هو الموجه للاستراتجيات السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية لكافة الدول.
6) تتعدد أسرار الدولة بتعدد المصالح المرتبطة بها، وقد اختلفت التشريعات الجنائية في تحديدها لأسرار الدولة. فذهب المشرع الجنائي اليمني في نص المادة (21) من القانون رقم (12) لسنة 1994. والمتعلقة ببيان أسرار الدولة أي محاكاة نص المادة (85) من قانون العقوبات المصري. ونتمنى على المشرع اليمني أن يحذو حذو المشرع الأردني الذي أفرد قانونا خاصا لحماية أسرار الدولة ووثائقها، أطلق عليه (قانون حماية أسرار ووثائق الدولة) رقم (50) لسنة 1971.
7) أصبح من الثابت أن الدول تلجأ إلى الجاسوسية بدرجات متفاوتة للحصول على المعلومات اللازمة لها في مختلف المجالات، وخاصة التجسس التجاري الذي صار أكثر شيوعا، ولا شك أن أعمال التجسس التي يكلف بها بعض الدبلوماسيين تعد من أخطر التجاوزات للواجبات الدبلوماسية التي تهدد أمن دولة الاستقبال وسلامتها.
8) لدولة الاستقبال الحق في اعتبار أي موظف دبلوماسي لدى البعثة المعتمدة لديها شخصا غير مرغوب فيه، إذا رأت أن استمرار بقاءه على أراضيها يشكل تهديدا لأمنها الوطني. ولا تلتزم دولة الاستقبال وفقا للمادة (9) من اتفاقية فينا لعام 1961 بتسبيب هذا القرار.
9) أن قطع العلاقات الدبلوماسية هو عمل قانوني أرادي، خاضع للسلطة التقريرية للدولة، فمجرد أن تقرر دولة ما قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة أخرى، فإن هذا القرار ينتج كافة آثاره دون ما حاجة إلى قبول او استجابة من الدولة الأخرى.
10) على الرغم من عدم وجود واجب يلزم الدول بالنص في تشريعاتها الوطنية على عقوبات خاصة توقع على مرتكبي الجرائم الواقعة على المبعوثين الدبلوماسيين، إلا أن وجود مثل هذه النصوص التجريمية يعزز من مهمة الدولة في حماية المبعوثين الدبلوماسيين، ويؤكد التزامها بحمايتهم بصورة جدية وفعالة.
11) إن حصانة المبعوث الدبلوماسي الجنائية هي حصانة مطلقة، فلا يمكن لسلطات دولة الاستقبال أن تتخذ ضده أية إجراءات حتى ولة أقدم على ارتكاب جريمة، كل ذلك من أجل ضمان استقلاله في أدائه لعمله، واحتراما للدولة التي يمثلها من جهة أخرى.
12) يتمتع المبعوث الدبلوماسي بحصانة قضائية مدنية وإدارية مطلقة بالنسبة للأعمال التي يقوم بها نيابة عن دولته والتي تدخل في أغراض البعثة. ووفقا لأحكام المادة (32) من اتفاقية فينا، فإن التنازل عن الحصانة القضائية حتى ينتج أثره القانوني لا بد أن يصدر من الدولة التي أوفدت المبعوث، وأن يكون هذا التنازل صريحا.
13) لقد ظلت الإعفاءات الجمركية المالية التي تمنح للمبعوثين الدبلوماسيين هي من قبيل المجاملة الدولية، وعلى أساس المعاملة بالمثل، وقد تركت اتفاقية فينا للدولة المستقبلة وفقا لتشريعاتها الوطنية تحديد هذه الإعفاءات ومداها.
14) خلصت الدراسة إلى عدم مشروعية منح اللجوء إلى مقر البعثة الدبلوماسية سواء للمجرمين العاديين أم للمطاردين السياسيين.
15) لسلطات دولة الاستقبال إذا ثار لديها شك جدي مستند إلى دليل معقول بوجود أشياء ممنوعة داخل الحقيبة الدبلوماسية، فإن لهذه السلطات استخدام الأجهزة الالكترونية، أو الكلاب المدربة للتأكد من خلو الحقيبة الدبلوماسية من المواد الممنوعة.
16) إقامة مؤتمر دولي تحت رعاية لجنة القانون الدولي على غرار مؤتمر فينا أما للتأسيس لاتفاقية جديدة للعلاقات الدبلوماسية، أو إجراء تعديل في اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 لتواكب التطورات الدبلوماسية المعاصرة والمتغيرات الدولية الجديدة.
17) إقامة محكمة برئاسة عميد السلك الدبلوماسي في دولة الاستقبال وعضوية عضوين آخرين تقوم وزارة الخارجية لدولة الاستقبال بتعين أحدهما، والآخر تقوم البعثة الدبلوماسية المعنية بتعينه للنظر في المشكلات التي تثيرها إساءة استعمال الحصانات والامتيازات الدبلوماسية والفصل فيها.
اترك تعليقاً