غرفة المخاصمة) فيما يتعلق بجرم إساءة الائتمان
بقلم المحامي الأستاذ محمد علي طيارة من فرع حلب
أن تصدر أحكام متناقضة في مسألة واحدة عن غرف متعددة فهذا أمر واقع ونتقبله بسبب اختلاف الفهوم وتعدد زوايا النظر وما إلى ذلك من أسباب الاختلاف ….
وأن تصدر أحكام متناقضة عن غرفة بعينها لدى قضاء الدرجة الأولى ، فهو مما يقبل المراجعة والمعالجة لدى المحاكم الأعلى درجة ….
وأن تصدر أحكام متناقضة عن غرفة من غرف النقض ، فهو أمر غير مقبول أبداً .
أما أن تصدر أحكام متناقضة عن الهيئة العامة لدى محكمة النقض فتلك لعمري مدعاة للنظر .
الهيئة العامة لمحكمة النقض – غرفة المخاصمة – في قرارها رقم 211 في الدعوى رقم أساس 180 الصادر بتاريخ 19/9/2003 (غير منشور) عالجت إساءة الائتمان من زاوية الإثبات وما هو الجانب الذي يخضع لقواعد الإثبات المتبعة لدى القضاء المدني ، وما هو الجانب الذي يخضع لقواعد الإثبات المطبقة لدى القضاء الجزائي .
وقد جاء في حيثيات هذا القرار (ونوردها بحرفيتها لأهميتها) :
« ومن حيث إن الأصل في عقد الأمانة أنه عقد مدني يقوم الدائن بمقتضاه بتسليم المدين مالاً منقولاً تسليماً فعلياً مباشراً لأمر معين أو غرض محدد يتم الاتفاق عليــه لقــاء أجر أو دون أجر ويكون المــدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ترجو المجلة من الجميع المساهمة في هدف هذا التعليق .
بموجب هذا الاتفاق ملتزماً بإعادة ما سلم إليه بعد زوال السبب أو بناء على الطلب ، ويمكن أن يكون هذا العقد محدد المدة ، وعلى هذا فإن المال المنقول موضوع عقد الأمانة يبقى جارياً في ملكية الدائن ، وحيازته من قبل الدائن(**) هي حيازة عرضيةتهدف في إطارها الكلي إلى وجوب المحافظة عليــه وإعادتــه إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(**) الصواب هو : المدين تمشياً مع متن القرار (المجلة) .
الدائن حين انتهاء المدة أو حين الطلب » . ومن حيث إن أمر النظر في المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ العقود من حيث المبدأ يعود إلى القضاء المدني المختص ، بيد أن الشارع خرج عن هذا المبدأ في المنازعات الناشئة عن عدم الوفاء في عقد الأمانة لما لهذا الأمر من أثر على الثقة التي تستند إلى القواعد الأخلاقية والأدبية وحتى الدينية في المعاملات ، فاعتبر أن عدم وفاء المدين بالتزامه تجاه الدائن في عقد الأمانة وردّه ما كان قد سلم إليه على هذا السبيل جرماً له مؤيده الجزائي على النحو الذي نصت عليه المادتان 656 – 657 عقوبات ، وعلق الملاحقة الجزائية على اتخاذ صفة الادعاء الشخصي مع إبقاء الحق للدائن بإقامة دعواه أمام القضاء المدني على ما هو الأصل في الاختصاص .
وعلى هذا فإن جرم إساءة الأمانة من الجرائم التي يرتبط وجودها بثبوت الحق الشخصي ، فإذا انتفى هذا الحق انتفت الجريمة وإن أسقط المدعي حقه وجب وقف الملاحقة الجزائية وانقضاء دعوى الحق العام .
ومن حيث إنه تأسيساً على ما تقدم فإن الإثبات في جرم إساءة الأمانة يتشاطره مبدآن : الأول هو مبدأ يقيد الأدلة على ما هي عليه قواعد الإثبات في القضايا المدنية ، والمبدأ الثاني هو مبدأ إطلاق الأدلة وحرية القاضي في أمر تقديرها والموازنة بينها والاستدلال منها إلى ما يكوّن قناعته الوجدانية في الحكم ، وإن حدود إعمال المبدأ الأول هو إثبات الحق أو الالتزام على النحو الذي نصت عليه المادة 177 أصول جزائية التي تنص « إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي وجب على القاضي اتباع قواعد الإثبات الخاصة به » أما إعمال المبدأ الثاني في الإثبات فهو مطلق إلا ما استثنته المادة 177 أصول جزائية .
وعلى هذا فإن إثبات الحق المدعى به في جرم إساءة الأمانة لا يكفي للإدانة بهذا الجرم الذي لا بد من توافر أركانه القانونية التي نصت عليها المادتان 656 – 657 عقوبات من وجوب أن يكون المال المنقول قد سلم للمدين فعلياً مباشراً والتزم المدين برده عيناً أو ردّ مثله إن كان من المثليات إلى الدائن بشرط الإنذار مع توفر القصد الجرمي لدى الفاعل في كتم أو اختلاس أو إتلاف أو التصرف بما سلم إليه مع علمه المسبق أنه لا يمكن الوفاء بالتزامه .
هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن المساءلة الجزائية من الأمور التي يحددها القانون الجزائي ، وإن اتفاق طرفي العقد على ما يخالف النص الجزائي يعتبر باطلاً ولا قيمة قانونية لعنونة العقد على أنه عقد أمانة إذا ثبت للقاضي أنه ليس أمانة ، وهذا من مقتضيات النظام العام ، ومن واجب القاضي الجزائي أن يتحرى حقيقة العقد ويحدد طبيعته ، فإذا وجد أنه عقد أمانة فعلاً قضى بالمساءلة الجزائية حال توفر أركان الجرم ، وإن وجده من نوع آخر من العقود عنون بعقد أمانة فلا مجال لإعمال النص الجزائي ، وإن القول على خلاف هذا يجعل من طرفي العقد سلطة تشريعية فيما بينهما لتجريم فعل اتفقا على تجريمه .
ومن حيث إن التفات المحكمة عن مبدأ إطلاق الأدلة في الإثبات بما يتعلق بمسألة المساءلة الجزائية واعتمادها الدليل الكتابي كدليل للإدانة رغم أنه تضمن إجازة طالب المخاصمة باستعمال المبلغ لنفسه إنما يشكل خطأ مهنياً جسيماً يوجب إبطال الحكم … » … انتهت الحيثيات … ثم بتاريخ لاحق صدر القرار رقم 2021/1659 لعام 2005 عن محكمة أدنى درجة … عن الغرفة الناظرة في قضايا الجنح لدى محكمة النقض ، مخالفاً ما جاء في القرار المساق آنفاً ، حيث جاء في حيثياته :
« الإقرار بالتوقيع على سند الأمانة يلزم المقرّ بما حواه هذا السند من التزامات دون البحث في سبب نشوء هذا الالتزام » .
(منشور عدد 3/4 ص 145 مجلة المحامون لعام 2006) .
… ثم بعد ذلك صدر القرار 1467/588 لعام 2007 عن غرفة المخاصمة لدى محكمة النقض معللاً بأنه : « حيث إن جرم إساءة الأمانة يتحقق بمجرد تحرير سند الأمانة وثبوت صدوره عن المدعى عليه وعدم إثبات عكسه بالبينة الخطية وعدم وفاء المبلغ أو الأمانة العينية الواردة فيه ».
(منشور برقم 40 عدد 3/4 من مجلة المحامون لعام 2009) .
وبذلك نكون أمام اتجاهين متعارضين صادرين عن غرفة المخاصمة نفسها التي تعتبر المرجع الأخير للتظلم من الأحكام ، وإذا كانت الهيئة العامة لمحكمة النقض غرفة المخاصمة هي الموئل الأخير الذي تلتمس فيه العدالة ، فإن المكيال يجب أن يكون واحداً بحيث يكون المتقاضون على بينة من أمرهم ويستتب الاجتهاد ، وبخلاف ذلك فإنه لا يمكن للأحكام القضائية أن تكون محل ثقة وطمأنينة ، كما لا يمكن للمراكز القانونية أن تستقر ، وسيصبح الناس في أمر مريج .
وبغض النظر عن مشكلة التناقض في الأحكام ودواعيه وأسبابه وضرورة معالجته وطرق وأساليب تلك المعالجة … فإن الخطوة الأولى في المعالجة تتجلى في الإشارة إلى مواطن الخلل وتشخيصه … وهي واجب كل من يعمل في الحقل القانوني … فإني أرى أن القرار الأول الذي ذهب إلى بيان وتوضيح ما استغلق واستبهم من أمر الإثبات في معرض البحث في جرم إساءة الأمانة ، إنما أصاب كبد الحقيقة ، وأزال الشبهات التي طالما وقفت حجر عثرة في طريق التطبيق القانوني السليم ، وإذا كان لي أن أضيف إلى ما أورده القرار المنوه به ، فإن القاعدة الكلية تقضي بأن العبرة للمقاصــد والمعـاني وليست للألفـاظ والمبــاني ، وإذا
كانت قاعدة العقد شريعة المتعاقدين هي الأصل فإن قاعدة العبرة للمقاصد والمعاني لا تتعارض معها ولا تتناقض بل هي موضحة ومكملة لها وتدور في فلكها ، فلا بد من البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ المستخدمة ، وهذا من أبرز المهام الملقاة على عاتق القاضي الذي يجب عليه ابتداء أن يتبين – من خلال تكييف واقعة الدعوى – فيما إذا كان مختصاً بنظر النزاع أم غير مختص ، ولا يتم له ذلك إلا من خلال الغوص في عمق العلاقة المعروضة وقراءة ما بين السطور واستكناه حقيقة النوايا ، ومدى مساسها بالنظام العام ، ولا يتأتى له ذلك إلا باتباع الطريقة التي بينها القرار الحصيف المفصل آنف الذكر .
وإذا كان اتجاه الأحكام المعارضة لما ذهب إليه القرار 211/180 لعام 2003 مشوبة بالتعاطف مع الدائن في سند الأمانة ، فإن التعاطف مع القانون في معرض إصدار الأحكام أولى بالرعاية .
وغني عن البيان أن الاختصاص الولائي هو من النظام العام ، وما تعلق بالنظام العام يقبل الإثبات بكافة طرق الإثبات … وإن تسمية الماء بالخمر وتسمية الزواج بالزنى وتسمية بيع الوفاء بالبيع القطعي … لا يغير من الحقيقة شيئاً ، وإذا كان لدى مؤيدي القرارين اللاحقين المناقضين للقرار الأول ما يدحض حجج القرار المنوه به فليتفضلوا مشكورين بإبداء ما لديهم من الحجج ، والله الموفق
اترك تعليقاً