عـلم القضاء
القاضي شهــــــاب احمد ياسين - عضو محكمة التمييز الاتحادية
دأبت الانسانية ومنذ بزوغ فجرها ، الى قهر الظلم وصون الحق، أي تحقيق العدل بين افراد الجماعة في الحياة الانسانية، أي اقامة العدل بينهم، وبعبارة أخرى القضاء بينهم بما يرفع الظلم ويصون الحق وتحقيقه ، ولما كان الامر كذلك فقد كانت فكرة القضاء قديمة قدم الحضارات الانسانية وما مرت به فكرة القضاء من صور ممارساتها عبر تاريخ الأمم والمجتمعات الانسانية وعبر تاريخ القانون في مختلف الازمنة ومنذ الغابرة منها.
والقضاء بعد هذا في ممارسته يقوم على فكرة علمية صرفة تمارس بصيغة عملية وهي تطبيق حكم القانون بفهم ودراية على الوقائع المعروضة في المنازعات المختلفة وسواء كانت المنازعات جنائية ام مدنية او شرعية او ادارية او دستورية وبمختلف صور هذه المنازعات وتطبيق حكم القانون هنا لا ينصرف الى القوانين الموضوعية الماسة بأصل النزاع المعروض فحسب، بل هي تمتد الى القوانين الشكلية والاجرائية التي تؤطر الدعوى عند النظر في موضوع نزاعها.
وبالتالي فأن الفكرة العلمية للقضاء تقوم وفق الوصف المتقدم على منهاج علمي يتمثل بمسألة تكييف الوقائع المعروضة في الدعوى والطلبات الواردة فيها وصيغ الشكاوى التي تضمنتها والانتهاء منها بتكييف او توصيف لموضوع الدعوى لتنهض بعد ذلك مرحلة اخرى هي مرحلة تطبيق القانون بفرعيه الشكلي والموضوع على النزاع المعروض بغية الوصول الى الفصل السليم لموضوع النزاع بحكم قضائي يمثل عنوان الحقيقة القضائية التي توصلت اليها المحكمة في حكمها المذكور.
وعمل القضاء في هذا الشأن كعمل الطب والطبيب عندما يضع يده على موطن الداء بغية وصف العلاج للداء المذكور واستئصاله وبالتالي شفاء الجسم المريض منه، لذلك كان القضاء علم وبكل ما تحمله هذه الكلمة الكبيرة من معنى فهو علم تطبيق القانون على الوقائع المعروضة في الدعاوى والمنازعات المختلفة. وهو بذلك فلا يمكن ان يوصف بكونه فن كما ذهب البعض لوصفه بـ(فن القضاء) اذ ومع احترامنا الكبير والشديد لمن ذهب لهذا الوصف من أساتذتنا الاجلاء من رجال القانون والقضاء.
حيث لا يمكن ان يوصف القضاء بوصف الفن بشأن ممارسة مفرداته المشار اليها آنفاً. اذ هو ليس بالخطابة ولابفن النثر ولابفن البلاغة وهو كذلك ليس فلسفة ما يمكن ان توصف بالفن. بل هو علم قائم بذاته يمارس وفق المفردات المشار اليها فيما تقدم وهو علم قديم قدم الإنسانية وحياة الجماعة اذ لا يمكن من قيام الجماعة من دون قيامه _ أي قيام القضاء _ لأنها _ أي الجماعة الإنسانية _ حاولت ومنذ بدء الخليقة الى تشريع مجموعه قواعد وأحكام تنظم حياة افرادها وتطبق عليهم أحكامها في كل ما يخص حقوقهم وواجباتهم والعقاب الذي يفرض على المخالف لهذه القواعد. وبخلاف ذلك فلا نكون أمام جماعة انسانية او أمام حالة الانسانية في الجماعة.
لان من نواميس الانسانية التزامها بأحكام القانون وخضوعها للقضاء سواء عندما كان اختياراً في بدائية الحياة الانسانية ام إلزامي بتطور فكرة الجماعة الانسانية وقيام فكرة المجتمع المدني المتحضر وقيام فكرة الدولة والمؤسسات في الدولة القانونية.
وعلم القضاء يوجب بالجامعات والكليات وكافة المؤسسات التعليمية ذات الاختصاص القانوني ان تتولى تدريس مفرداته من حيث الآلية العلمية لفهم الوقائع في الدعوى والتكييف القانوني للدعاوى المختلفة بما فيها الدعاوى العمومية وآلية ومفردات هذا التكييف والمحاكم التي تمارس فيها هذا العلم وصورها ودرجاتها والجهة والأشخاص الذين يمارسون هذا القضاء وكيفية تولي ذلك وواجباتهم عند ممارسة القضاء وحقوقهم وماهية السلطة القضائية ومفرداتها وطريقة ممارستها وأداتها والقوانين المنظمة للعمل القضائي ودراسة ذلك يؤدي الى خلق كوادر متميزة تساهم وبفهم عال للقانون واعمال القضاء في تحقيق العدالة في المجتمع عند تخرجهم من كليات القانون والحقوق والانخراط سواء في حقل المحاماة او الوظائف القانونية او القضائية في الدوائر والمحاكم المختلفة وكذلك عند تولي القضاء.
ومعرفة ذلك أيضاً من قبل الأفراد في المجتمع ذات فائدة كبيرة لخلق مجتمع يؤمن بسيادة القانون وعلوية القضاء في الدولة بوصفه من سمات الدولة القانونية وبالتالي معرفة المواطن للدور الذي يقوم به القضاء في تحقيق العدالة بينهم على وفق احكام القوانين السارية، وبالتالي تحقيق فكرة المواطنة الحضارية بين الافراد والمجتمع المتحضر القانوني.. ومن هنا كانت فكرة اعلاء مدلول علم القضاء في المجتمع ضرورة حتمية توجب على الجميع ان يتولها بوصفها من الصفات اللصيقه لانسانية المجتمع تحقيقاً للغايات المشار اليها في اعلاه .
والله ولـــي التوفـــــــيق وهو مــــــن وراء القصـــــــــد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً