القصور في التسبيب والفسآد في الإستدلآل
إن العدالة الإلهية عدالة مطلقة، لأنها تتطابق مع الحقيقة الواقعية المطلقة وتنفذ إلى الباطن فهي من صنع الله الحكم العدل العليم ببواطن الأمور والأقرب للإنسان من حبل الوريد وذلك بعكس العدالة البشرية التي تُعد عدالة نسبية ، لأنها عدالة من صنع قُضاة بشر معرضين في أحكامهم للصواب والخطأ ، كل بحسب قدرته المحدودة التي تقوم على الظاهر وتعجز عن الوصول إلى الباطن الذي يترك علمه لله وحده لا شريك له ، فدائماً ما تكون هناك اخطاء في الاحكام وهي وارده والا لما تم تتدرج التقاضي لعدة مراحل ومن ضمن هذه الاخطاء هي (( القصور في التسبيب والفساد في الاستدلال )) ….
أولا : تعريف القصور في التسبيب وتمييزه عن غيره من العيوب :
يعني القصور في التسبيب أن القاضي في حكمه لم يُبين وقائع الدعوى والظروف المحيطة بها والأدلة ومضمون كل منها بياناً كافياً ، بما يشكل نقصاً في الأساس القانوني للحكم يتعذر معه على محكمة النقض أن تراقب صحة تطبيق القاضي للقانون ، ويترتب على هذا القصور بطلان الحكم ، ” والقصور في أسباب الحكم الواقعية والنقص أو الخطأ الجسيم في أسماء الخصوم وصفاتهم ، وكذلك عدم بيان أسماء القضاة الذين أصدروا الحكم وعضو النيابة الذي أبدى رأيه في القضية ، يترتب عليه بطلان ذلك”.
وهذا العيب لا يُعد عيباً في الشكل وإنما يُعد عيباً في المضمون ، فالقاضي يعجز عن بيان الأسباب الواقعية لحكمه وبالتالي تمتد رقابة المحكمة العليا على حكمه ، ولهذا يُعبر الفقه عن هذا العيب بإصطلاح عدم كفاية الأسباب الواقعية.
فإذا كان الواقع هو المحل الذي يرد عليه تطبيق القانون فإنه يجب على القاضي أن يفهمه فهماً صحيحاً وأن يأتي بيانه لهذا الواقع كافيا وواضحاً بحيث يصلح لأن يكون مقدمة كافية لمراقبة صحة تطبيقه للقانون ، وإلا كان عُرضة للطعن فيه بالنقض ، وهناك فرق بين القصور في التسبيب وبين عيوب التسبيب الأخرى ، فإنعدام الأسباب هو عيب شكلي تستطيع محكمة النقض أن تفطن إليه بمجرد إطلاعها على الحكم فإذا لم تجد له أسبابا أو كانت له أسباب ولكنها سواء كنا بصدد إنعدام للأسباب أم القصور في التسبيب فهو عيب موضوعي لا يقف عند ظاهر الأسباب وإنما يتعلق بمضمون هذه الأسباب وهل هي كافية لبيان الواقعة والظروف المحيطة بها وبعدم بيان الأدلة ومضمون كل منها كما يختلف القصور في التسبيب عن الفساد في الاستدلال ، فالقصور في التسبيب يتعلق بشرط كفاية أسباب الحكم لبيان الواقعة والظروف المحيطة بها والأدلة مضمون كل منها ، أما الفساد في الاستدلال فيتعلق بشرط منطقية أسباب الحكم ويتحقق ذلك إذا فهم القاضي الواقعة والظروف المحيطة بها فهماً خاطئاً لا يتفق مع حقيقتها ومع ما يجب أن يؤدي إليه الفهم الصحيح لها .
أو يستخلص القاضي من دليل أورده بأسباب الحكم نتيجة لا يؤدي إليها الدليل حتماً وطبقاً لقواعد الاستنتاج الصحيحة وهو ما يُطلق عليه اصطلاح التعسف في الاستنتاج .
ثانيا : صور القصور في التسبيب :
تتعدد صور القصور في التسبيب وفقاً لما تتطلبه الطبيعة القانونية للتسبيب من وجوب استيفائه لبيانات جوهرية معينة سواء فيما يتعلق ببيان الواقعة بياناً كافياً أو الأدلة التي عول عليها في اثبات الواقعة ومضمونها ، ولهذا فإن صور القصور في التسبيب تنقسم إلى قسمين رئيسيين :
الأول : إما أن يكون إثباتاً غير محدد للواقعة والأدلة التي استند إليها أو إثباتاً ناقصاً لها :
1- الإثبات غير المحدد للواقعة وأدلتها :
ويُقصد بهذا العيب أن القاضي لم يحدد هذه الأسباب تحديداً كافياً ولم يبحث بحثاً جذرياً وقائع النزاع ، الأمر الذي تعجز معه المحكمة العليا عن مراقبة صحة تطبيق القاضي للقانون لأن القاضي لم يُبين وجه الرأي الذي كوّنه عن هذه الوقائع والأساس الذي اعتمد عليه في حكمه ، ويتنوع هذا العيب إلى عدة صور منها :
أ) غموض الأسباب أو إبهامها ويعني ذلك عدم وضوحها على نحو يكفي لكي يستبين منه وجه الرأي في الدعوى والأساس الذي أخذت به المحكمة ، ولهذا حكمت محكمة النقض بأنه إذا كان الثابت بوقائع الدعوى أن في الدعوى تقريرين الأول من الخبير المُنتدب ، والثاني من خبيرين استشاريين ، وكانت المحكمة قد فتحت باب المرافعة في الدعوى لمناقشة الخبير المنتدب في تقريره والخبيرين الاستشاريين في تقريرهما ، ومع ذلك أقامت قضاءها على تقريري الخبيرين الاستشاريين دون أي بيان آخر عنهما فإنه يكون من المتعين نقض حكمها لما فيه من التجهيل والقصور.
ب) الاكتفاء بذكر النص القانوني دون تحديد الوقائع الذي يبرر الإشارة إليه فإذا اقتصر الحكم في أسبابه على إيراد القاعدة القانونية دون أن يقول كلمة في وصف الوقائع التي ثٌبت لديه وقوعها وما إذا كانت هذه الوقائع يسري بشأنها النص الذي ذكره فإن الحكم على هذا النحو يكون مُعيباً مستوجباً نقضه.
ج) أن ترد أسباب الحكم بشكل عام ومُجمل ويحدث ذلك عندما يكتفي الحكم بالتأكيد على أمر دون أن يُفسر في الواقع هذا التأكيد كأن يكتفي الحكم بذكر أن المدعى عليه لم يقدم دفوعاً جادة أو أن المدعى عليه يلتزم بالضمان أو أن الطلبات التي طلبها المدعي ليست مُبررة أو لا تقوم على أساس دون أن يذكر الحكم أسباباً أخرى تُفسر ما أخذ به.
2- الإثبات الناقض للواقعة وأدلتها :
ويتحقق ذلك عندما يصدر القاضي حكمه ولم يبحث العناصر الواقعية للنزاع وأدلته بحثاً كافياً بحيث يكون كافياً للتحقق من صحة الحكم ، ويدخل تحت هذه الصورة عدة صور منها :
أ) عدم بحث بعض أو أحد العناصر الواقعية الضرورية للحكم الذي انتهى إليه القاضي ومثال ذلك أن يصدر القاضي حكمه بمسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه دون أن يبحث ما إذا كان التابع يُباشر وظيفته لحظة وقوع الفعل الضار أم لا..؟ والحكم الذي يكتفي في اعتبار أن المورث كان مريضاً مرض الموت وقت صدور التصرف المطعون فيه بأنه قد بيّن مزاولة أعماله خارج المنزل في الشهور الستة السابقة لوفاته بسبب سقوطه من فوق ظهر دابته دون بيان لنوع المرض الذي انتاب المورث وتحقق غلبة الموت فيه وقت صدور التصرف المطعون فيه ، والحكم الذي يقضي بتعويض إجمالي عن جميع الأضرار التي لحقت بالمضرور دون أن يُبين عناصر الضرر الذي من أجله قضى بالتعويض ، ودون أن يُناقش كل عنصر على حدة ويُبين أحقية طالب التعويض فيه أو عدم أحقيته.
ب) عدم بيان مصدر الواقعة ودليل ثبوتها ، ومن أمثلة ذلك أن يكتفي الحكم في بيان خطأ المضرور بالقول بأنه لم يكن حريصاً في سيره دون بيان المصدر الذي استفى منه هذه القاعدة والدليل على ثبوتها.
ج) عدم مواجهة المحكمة للنزاع المطروح ويتحقق ذلك إذا لم تتعقب الأسباب على دائرة النزاع في القضية وإنما كانت منصبة على نقطة غير جوهرية ، وهذا يعني أن القاضي إما أنه لم يفهم جوهر النزاع المطروح عليه ، أو فهمه ولكن يبحث إحدى نقاط النزاع بحثاً كافيا وإنما اكتفى بالحل الذي توصل إليه في نقطة أخرى بما يعيب الحكم بالقصور في أسبابه الواقعية وبالتالي يكون عٌرضة للنقض.
ثالثاً : ماهية الفساد في الاستدلال :
تسبيب القاضي لحكمه يجب أن يُخاطب العقل والمنطق لأن المقصود من الالتزام بالتسبيب الاقناع، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت الأسباب التي يسطرها القاضي بحكمه تؤدي إلى الاقناع ولن تكون كذلك إلا إذا جاء بيانها وفق مقتضيات العقل والمنطق ، فلا يكفي للقول بعدالة الحكم أن تكون أسبابه كافية وإنما يجب أن تكون منطقية أيضاً ، بأن يكون استخلاصه للنتائج من الأدلة استخلاصاً سائغاً وفق مقتضيات العقل والمنطق ، فالاستنتاج الذي يقوم به القاضي بعد استقرائه للأدلة والواقعة يجب أن يتفق مع هذه المقتضيات.
فإذا عجزت الأسباب عن تحقيق الاقناع بأن جاء استدلال القاضي غير مؤدى إلى النتائج التي استخلصها وكوّن منها اقتناعه الموضوعي فإنه يخالف بذلك قواعد الاستدلال الصحيحة التي توجبها قواعد العقل والمنطق، وبالتالي يكون حكمه مُعيباً بعيب الفساد في الاستدلال وعلى ذلك فعيب الفساد في الاستدلال لا يتعلق بنقض في عرض الوقائع كما هو الحال بالنسبة لعيب القصور في التسبيب ، ولا يكون الحكم خالياً من الأسباب كلياً أو جزئياً كما هو الحال بالنسبة لعيب انعدام الأسباب إنما العيب هنا رغم كونه متضمناً عرض الوقائع كاملة ورغم أنه مستوف من حيث الشكل إلا أنه لا يؤدي منطقياً إلى ما انتهت إليه المحكمة في قضائها.
رابعاً : صور الفساد في الاستدلال :
تعدد صور الفساد في الاستدلال فقد يكون الفساد نتيجة فهم القاضي للواقعة فهماً غير سائغ ، أو تعسفه في الاستنتاج أو استناده في الحكم إلى أدلة غير مقبولة ، أو مسخ القاضي وتحريفه لعناصر إثبات الواقعة ، ونوضح فيما يلي هذه الصور :
1- فهم القاضي للواقعة وأدلتها فهماً غير سائغ : مفتاح الحكم الصحيح في الدعوى إنما يكمن في فهم القاضي للواقعة والأدلة القائمة عليها ولا يكفي أن يكون الفهم كافياً وإنما يلزم أن يكون سائغاً بمعنى أن يتبع قاضي الموضوع في فهمه للواقعة وأدلتها قواعد العقل والمنطق ، فإن خالف ذلك وشاب فهمه للواقعة الاضطراب كان استدلاله فاسداً وغير صالح لأن يبني عليه الحكم الصحيح.
2- التعسف في الاستنتاج : ويُقصد بذلك أن يتبع القاضي سواءً في فهمه للظروف أو في تقديره للأدلة قواعد المنطق الموضوعي بأن يُحلل الواقعة إلى جزئيات وفقاً لعناصرها القانونية ، وأن يُقدّر الأدلة وفقاً لمضمونها ومعناها ، وأن يفطن لطلبات الخصوم المهمة ودفوعهم الجوهرية ثم يصل بعد ذلك إلى تكوين الفهم السائغ للواقعة وأدلتها ، ولهذا يجب أن يكون استنتاج القاضي في وصوله إلى الرأي النهائي في الدعوى قد تكون لديه من مقدمات كافية وسائغة تؤدي وفق مقتضيات العقل والمنطق إلى النتيجة التي انتهى إليها.
3- استنادا القاضي في حكمه لأدلة غير مقبولة : من العيوب التي تُعيب الحكم الصادر من القاضي ويكون بموجبه عُرضة للنقض استناده إلى أدلة غير مقبولة قانوناً كما لو كانت هذه الأدلة لم تُطرح في الجلسات وفي مواجهة الخصوم ، وبالتالي يكون هناك خلل في إحدى ضمانات التقاضي وهي احترام حق الدفاع، ولكي تتحقق هذه الضمانة لابد من علم الخصوم بهذه الأدلة وأن يكون في استطاعتهم تناولها والرد عليها وإبداء دفاعهم بشأنها ، وإلا كان الحكم مُعيباً.
كما يكون الحكم مُعيباً أيضاً إذا استند إلى أدلة لم تستوف إجراءات صحتها كما لو استند إلى شهادة الشهود بالرغم من أنه لم يُقم بتحليفهم اليمين قبل أداء الشهادة فتكون الشهادة في مثل هذه الحال عُرضة لاحتمال الصدق والكذب ولهذا لا يصح الاستناد إليها منفردة.
4- مسخ القاضي وتحريفه لعناصر إثبات الدعوى: تحريف الكلام تغييره بحيث يترتب عليه معنى آخر خلاف المعنى الذي يؤدي إليه فهمه الصحيح، ولما كان القاضي يبذل نشاطاً ذهنياً في فهمه وتقديره لعناصر إثبات الدعوى ، وأنه قد يقوم بتفسير مفترضات قانونية معينة يكون تفسيرها أمراً لازماً للوصول إلى المعنى الصحيح المقصود منها ، ولهذا فإنه من الممكن أن يعدل في تفسيرها عن المعنى الواضح والمحدد الذي تؤدي إليه إلى معنى آخر لا يتفق مع حقيقتها والمعنى المقصود منها فينتهي به إلى نتائج خاطئة لا يؤدي إليها فهمه للأدلة فهماً صحيحاً وتفسيرها تفسيراً سليما ولهذا يكون الحكم معيباً موجباً نقضه. ورقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع إذا شاب تفسيره بعض عناصر الإثبات المؤثرة في اقتناعه رقابة على منطقية الأسباب ، فإذا كُشفت الأسباب عن خروجه في تفسيره عن قواعد العقل والمنطق فإن ذلك يترتب عليه فساد استدلاله وبطلان الحكم الذي انتهى عليه .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً