القضاء الدولي جزء من الحل
د.الهادي بوحمره
أيا كان فهمنا للوضع في ليبيا وتصوراتنا لماضيها وحاضرها ومستقبلها، هناك وضع يحتاج للمعالجة لكي لا تضيع الدولة أو تستمر في وضع الدولة الفاشلة التي هي عليه اليوم. حيث يجب التعامل مع الواقع لمحاولة الخروج منه لواقع أفضل في اتجاه بناء دولة القانون والمؤسسات. ولا يمكن- في نظرنا- بناء الدولة إلا على أساس الإنصاف والمصالحة والتي يجب أن تكون احد أهم مرتكزاته المحاكمات الجنائية بشأن الجرائم الجسيمة كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجماعية ومنها الاغتصاب والتعذيب والخطف الممنهج والتهجير والاختفاء القسري وقتل المدنيين جزافا وبالجملة، وفي هذا الشأن فان هناك معطيات يفرضها الواقع يجب أخذها في الاعتبار للوصول للحل.
أولا/ المعطيات :
1/ إن الهدف يجب أن يكون الوصول إلي محاكمات عادلة ونزيهة لا مجرد محاكمات صورية محددة نتائجها مسبقا، حيث انه يفضل عدم إجراء محاكمات على إجراء محاكمات تصدر أحكاما تحت ضغط الرأي العام والخوف من السلطان الفعلي أو الرسمي.
2 / المحاكمات العادلة هي الطريق الأقصر والأنسب لوقف دائرة العنف، فلا يمكن وقف سفك الدماء إلا بقانون رادع، ولا يمكن للقانون أن يكون رادعا إلا إذا تأكد تطبيقه من قبل سلطة محايدة لا سبيل لأي من الأطراف المتنازعة في التأثير عليها.
3/ يجب عدم التمييز بين المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، فلكي تحقق هذه المحاكمات غايتها في السلم الاجتماعي وإرضاء الشعور بالعدالة وتأسيس لوازم المصالحة الوطنية يجب المحاكمة عن كل الجرائم الخطيرة التي وقعت في ليبيا أيا كان الجاني والمجني عليه حيث لا يجب أن تكون هناك أي مفاضلة بين المجرمين سواء كانوا من المحسوبين على النظام السابق أو ممن يتحكمون في الواقع الليبي اليوم.
4/ كما أن هناك حاجة ماسة للمحاكمات الجنائية العادلة لتحقيق السلم الاجتماعي، هناك-أيضا- حاجة ماسة لها من اجل تحييد المجرمين ومنعهم من الدخول في دواليب إدارة الدولة حاليا وفي المستقبل . ولو ترك الأمر بدون محاكمات وكشف كامل للجرائم التي ارتكبت وكشف للذين قاموا بارتكابها، فان هناك خطر استبدال فاسدين ومجرمين سابقين بمجرمين وفاسدين جدد يعتبرون أنفسهم جزءا ممن قام بالتغيير ويعتبرهم الرأي العام- أو هكذا يبدو- بعيدين عن الشبهات وانهم هم من يتولى استبعاد الآخرين وأنهم لا يمكن تصور أن يكونوا محلا للاستبعاد. فلكي تقوم الدولة على أساس صحيح يجب الحيلولة دون أن تدار الدولة من قبل كل من ارتكب أو ساهم في ارتكاب جرائم اغتصاب أو تعذيب أو قتل للمدنيين أو ساهم بأي شكل في ذلك أيا كان الباعث لذلك ووقته. وهنا يجب التمييز بشكل واضح بين ضرورات الحرب وجرائمها، ولا يمكن اعتبار أي جريمة من الجرائم السابق ذكرها من ضرورات الحرب أو لازمة من لوازم المحافظة على النظام أو إزالته، وبالتالي لا يقبل تبريرها من أي طرف.
5/ لا يمكن تصور محاكمة عادلة بدون وجود قضاة مستقلين ومحايدين، ولا يمكن أن يكون القاضي محايدا ونزيها إلا إذا اطمئن على نفسه وعرضه. فلا يتصور أن يكون الموت متربصا بالقاضي من كل جانب ويطلب منه-في نفس الوقت- الحكم بما يمليه عليه ضميره والقانون فقط. ففي كل دعوى جنائية ينظرها القاضي ايا كان المتهمين فيها يجب أن يكون احتمال الحكم بالبراءة قائم لديه بنفس قدر احتمال الحكم بالإدانة إلي أن يصل إلي الحكم عنوان الحقيقة.
وفي ظل عدم بسط الدولة لسلطانها على الإقليم ووجود الكتائب المسلحة التي لا تخضع للدولة والتي لها اتجاهات سياسية واعتبارات جهوية مختلفة، لا يمكن لعاقل أن يقول أن النيابة العامة يمكن أن تباشر تحقيقات محايدة دون تمييز وأن القضاء الليبي يستطيع أن يجرى محاكمات عادلة ونزيهة من حيث المضمون، حيث لا يوجد أي ضمانة تحول دون استعمال هذه القوة المسلحة في التأثير على النيابة والقضاة علنا أو سرا أو للانتقام منهم في حالة الاتهام أو صدور أحكام لا تتفق مع أهوائهم وهو ما سوف يضعه عضو النيابة والقاضي في اعتبارهما في التحقيق والمحاكمة، الأمر الذي يؤثر في الحياد والنزاهة وقد يدفع إلي إغلاق ملفات بعض القضايا أو إلي إدانة برئ أو تبرئة مذنب. كما لا يوجد ما يضمن تنفيذ الإجراءات القضائية على المتهمين ولا ما يضمن تنفيذ الأحكام في حال صدورها. ويصل الأمر إلي حد أن النيابة العامة-أحيانا- لا قدرة لها حتى على مجرد توجيه الاتهام.
6/ يجب أن يضع كل من يدفع بمسألة السيادة وبتناقض تدخل القضاء الدولي مع اعتباراتها نصب عينيه أولويات المرحلة ومعطيات الواقع. حيث يجب-من وجهة نظرنا- تجاوز مسألة السيادة إذا كان الأمر يتعلق بالخيار بين قيام الدولة على أساس من العدالة أو قيامها على أساس من الظلم والتمييز بين الناس حسب انتماءاتهم المختلفة والقوة الواقعية التي يستندون إليها. فالتمسك بالسيادة في حال ليبيا اليوم هو من قبيل التمسك بمسلمات موجودة في أذهان البعض لا علاقة لها بالواقع أو هو تمسك يراد منه تحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها بالمصالح الحيوية للدولة الليبية في المرحلة الانتقالية والتي من أهمها المصالحة الوطنية.
7/ إن كل تأخير في محاكمة متهمي الأمس واليوم وبشكل متزامن دون تمييز عما ارتكبوه من جرائم يعني مزيدا من القتل وانتهاك الحرمات ومزيدا من تعميق الشرخ بين مكونات المجتمع الليبي.
ثانيا/ الحل:
· بناء على المعطيات السابق ذكرها نرى انه من اللازم نظر الجرائم الجسيمة التي ارتكبت في ليبيا من قبل قضاء لا يخضع لضغوط الرأي العام الداخلي ولا سبيل لتهديده من قبل القوى المسيطرة على الواقع اليوم ولا لحسابات سياسية داخلية تغلب طرف على طرف ولا نرى لذلك سبيلا إلا القبول بالقضاء الدولي لإجراء هذه المحاكمات سواء تعلق الأمر بالقبول بشكل واسع باختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي لا يقدح في حياد قضاتها ما حصل لبعض من ينتسبون لها في ليبيا وهم ليسوا بقضاة أو بالعمل علي إيجاد محكمة دولية خاصة. ومتى تم ذلك فان كل من يتهم بارتكاب هذه الجرائم يصبح مطلوبا دوليا ويفقد الأمل في لعب أي دور سياسي أو اجتماعي في ليبيا اليوم والمستقبل. وهو ما يفتح الباب أمام المصالحة الوطنية ويحقق الردع الذي لم يعد القانون الليبي والقضاء الوطني يحققانه.
· أخيرا يجب التنويه إلي أنه من الواضح أن لهذا الحل مثالب منها استمرار القضاء الدولي في ممارسة اختصاصه بشأن جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في ليبيا إلي ما بعد استقرار الدولة، لكننا نعتقد أن ايجابياته تفوق بكثير سلبياته.
اترك تعليقاً