الإرادة فـــي الــتــحــكــيــم الــمــؤســســي
يعتبر التحكيم النظامي أو مايسمى بالتحكيم المؤسسي الأكثر شيوعا في مجال تحكيم المنازعات الخاصة الدولية وسائر عمليات التجارة العابرة للحدود ، وهذا النوع من التحكيم هو الذي تختص به مراكز وهيئات دائمة، أنشئت خصيصا لتقديم خدمات استشارية وقضائية للمتعاملين في مجالات التجارة والصناعة وغيرها من مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية، سواء في المعاملات الوطنية أم الدولية .
وهناك العديد من المراكز وهيئات التحكيم الدائمة المتواجدة في بعض الدول والمعروفة لدى المتعاملين في مجال الأعمال والتجارة الدولية، التي نذكر منها غرفة التجارة الدولية بباريس والتي يطلق عليها اختصارا CCI[1] وهي من أكثر مراكز أو هيئات التحكيم انتشارا في نشاطها وذيوعا. وأيضا جمعية التحكيم الأمريكية والتي يشار إليها اختصارا A.A.A [2]، كذلك محكمة لندن للتحكيم الدولي [3]، والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار[4] بواشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى مجموعة من المراكز الأخرى الأجنبية، وبعض المراكز العربية للتحكيم والتي لايسعنا إلا أن نصفها بأنها اليات تقنية تهتم بحل المنازعات .لكن حين البحث عن القيمة المضافة لها نجدها مراكز لاتشتغل، إلا في اتجاه بعض التحركات البسيطة كتنظيم بعض الندوات والمؤتمرات التي تعنى بالتحكيم ، ولنا في مركز الرباط للتوفيق والتحكيم خير مثال لذلك.
وإذا كانت مراكز وهيئات التحكيم المنظم في تعاظم إلا أن أهمية كل منها ليست في سوق التحكيم التجاري الدولي والداخلي سواء، فهناك مراكز اكتسبت ثقة المتعاملين في مجال التجارة الدولية والداخلية، كغرفة التجارة الدولية بباريس، ومحكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي، وجمعية التحكيم الأمريكية، حتى لتجد أن أطراف التعامل الدولي من الدول العربية لايقبلون بديلا عن تلك المراكز، لدرجة يصح معها القول أن مراكز التحكيم الأخرى على الأقل في المنطقة العربية ، أصبحت تعاني كسادا ليس بسبب عدم كفاءتها أو قلة خبرتها، بل بسبب الحصار الذي يفرضه عليها هؤلاء المتعاملون[5].
ورغم كل ماسنورده من خلال سردنا في هدا المطلب، من مدى تقيد سلطة الأطراف المتدخلة في العملية التحكيمية أثناء لجوئهم للتحكيم المؤسساتي، إلا أن هذه المراكز لها من المغريات والمزايا ما يجعلها تستقطب غالب المنازعات الناشئة عن عمليات التجارة الدولية[6].
فمن ناحية، تتوفر لدى تلك المراكز لوائح ونظم داخلية مستقرة صقلتها التجربة العملية ، تنظم مختلف جوانب ومراحل العملية التحكيمية، بدءا من كيفية صياغة شرط أو مشارطة التحكيم، وكيفية تشكيل الهيئة التحكيمية، حيث يوجد لدى تلك المراكز قوائم معدة سلفا بأسماء المحكمين والخبراء، والتي يمكن للمحتكين الاختيار منها إن رغبوا في ذلك وكانوا يجهلون الخبرات ذات القدم الراسخ في قضاء التحكيم.
ومن ناحية ثانية، فإنه يقوم على شؤون مراكز التحكيم الدائمة أجهزة إدارية تتولى الترتيب لكل مراحله، وتقدم التسهيلات اللازمة لسير التحكيم، من قبل إعداد قوائم بأسماء المحكمين لتيسير مهمة اختيار أعضاء هيئة التحكيم، وكذا تهيئة المكان المناسب لعقد الجلسات، وتوفير خدمات السكرتارية،والترجمة والاتصالات على جميع المستويات للتجاوز الأمور إلى حدود التحكيم الالكتروني.
ومن ناحية أخيرة، فإن التحكيم المنظم أو المؤسساتي ليبعث ليس فقط على الثقة في كفاءة هيئاته في أداء العدالة والأمان القانوني لدى المحكمين، بل كذلك الاحترام الذي تتركه الهيئة في نفوس هؤلاء بإحساس من المتعاقدين بأنهم بالفعل أمام قضاء الدولة الذي هجروه بحثا عن السرعة واليسر والأمان القانوني للتوقعات، بفعل التنظيم الهيكلي والشخصي والمكاني لهيئات مراكز التحكيم، بما توفره في النهاية من فعالية حكم التحكيم عند صدوره وأتناء تنفيذه.
باعتبار أن التحكيم عندما يكون مؤسسيا، فيجب التقيد بقواعد التحكيم المطبقة لدى المؤسسة باعتبارها أصبحت جزءا من اتفاقهم، ويكون من المفيد أن نذكر هنا أن كل مؤسسة تحكيمية عموما تنص على شرط التحكيم تنصح الأطراف بالأخذ به إذا رغبت بالإحالة لذلك المركز، وعلى الأغلب يكون مثل هدا الشرط جامعا لأي منازعة تتعلق بالعقد أو أي بند من بنوده أو تفسيره بما في ذلك إنهاؤه أو أي مطالبة ناشئة عنه[7]. وإذا كانت أغلب مراكز التحكيم لاتكون مختصة إلا إذا اتفق الأطراف على الإحالة لها لتسوية نزاعاتهم سواء قبل تسويته أو بعد ذلك، بالإضافة إلى اختيار القواعد من قبل الاطراف سواء كان التحديد صريحا أو ضمنيا في حالة غياب هدا التحديد فإنها تحدده بناء على قواعد المركز سواء كان التحكيم داخليا أو دوليا، فإنه وعكس ذلك نجد بعض المراكز تعطي لنفسها الاختصاص رغم عدم النص على اختصاصها من قبل الأطراف كما هو الحال بالنسبة لمركز CIRDI لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى .
[1] أنشئت هده الغرفة عام 1923 وهي هيئة غير حكومية مقرها بباريس وتشكل اتحاد يضم شعبا وطنية لغرف التجارة والصناعة في مختلف دول العالم ، كما تهدف إلى توحيد أعراف التجارة الدولية ومن مهام الغرفة .
أ ) تمثيل أوساط الأعمال الدولية على المستوى الوطني والدولي
ب) تشجيع التجارة والاستثمارات الدولية القائمة على المنافسة الحرة والشريفة
ج) تنسيق العادات التجارية ووضع المصطلحات والتوجيهات للمستوردين والمصدرين
د) توفير خدمات علمية للأعمال
ه ) تقديم خدمات التوفيق والتحكيم في منازعات التجارة الدولية
وتقدم الغرفة خدماتها من خلال عدة أجهزة ، المحكمة الدولية للتحكيم ، محكمة التحكيم ، معهد قانون الأعمال والعادات التجارية الدولية ، المكتب الدولي ، مكتب التحقيقات بشأن التقليد ، مركز التعاون البحري ، المكتب الدولي للبيئة ، ومجموعة أخرى من الخدمات .
[2] American arbitration association وقد أنشئت هده الجمعية عام 1926 وتجدب تقه المتعاملين في مجال التجارة الدولية ولا سيما الدول الانجلو أمريكية ويصل عدد القضايا التي يفصل فيها مابين 60 ألف إلى 70 ألف قضية سنويا .
[3] London court of international arbitration وتجدر الإشارة إلى أنها كانت تسمى حتى العام 1981 محكمة لندن للتحكيم .
[4] أنشئ هدا المركز بموجب اتفاقية واشنطن المبرمة في 18 مارس 1968 الخاصة بتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى والتي صادقت عليها أكثر من 140 دولة.
[5] حيث يرى الدكتور عبد الحميد الأحدب أن هناك حصارا مفروضا على مراكز التحكيم العربية من السياسة التجارية الأوروبية ممثلة في شركات ضمان التجارة الخارجية والتوظيف الخارجي ، حيث لارتضى بإقامة التحكيم لحل الخلافات الناشئة بين الشركات الأوروبية والعربية ، وأصبحت شركات التأمين تفرض شرط التحكيم من خلال غرفة التجارة الدولية بباريس وتمنع مراكز التجارة العربية الأوروبية أن تلجأ إلى مراكز التحكيم العربية رغم تقلها في هدا المضمار
مقال منشور بجريدة الأهرام المصرية السنة 130 عدد 1767 ص 20 وارد فبهامش كتاب الاستاد عبد الكريم سلامة السابق الإشارة إليه ص 81 ومايليها.
[6] شاهر مجاهد ألصالحي ، مبادئ التحكيم التجاري ودور مؤسسان التحكيم ، المجلة اليمنية للتحكيم عدد 47 يناير 2004 ص 9 ومايليها .
[7] مبادئ التحكيم التجاري ومؤسسات التحكيم السابق الإشارة إليه ص 14 ومايليها.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً