الـقـضـاء و عـلاقــتـه بــالــفــســاد الانــتـخــابـي
تحمل القضاء المغربي مسؤوليته في مقاضاة جملة من المتورطين في عمليات الفساد الانتخابي التي طالت انتخابات ثلث مجلس المستشارين الأخيرة، معلنا بذلك انطلاقة تفعيله لقنوات المراقبة القضائية للعمليات الانتخابية بالبلاد، والتي ظلت على امتداد مساحة وجودها بعيدة عن أعين القضاء المغربي.
فهل يمكن اعتبار هذه الحركة مدخلا حقيقيا لتطهير الانتخابات المغربية من الشوائب التي باتت تلازمها مع كل مطلع انتخابي جديد؟! أم أنها مجرد سحابة صيف ستبددها حمى الانتخابات التشريعية لهذا العام، والتي ستكون لا محالة حامية الوطيس، خاصة مع الإعلان الأمريكي عن نية تصويت 47% من الهيئة الناخبة المغربية لفائدة الحزب الإسلامي المعتدل؟ وهل سيتمكن القضاء المغربي من ضبط جميع حالات الفساد الانتخابي التي تملأ الفضاءات المغربية، وفي مقدمتها زجر الكائنات الانتخابية التي تقوم على مدار السنة بحملات انتخابية سابقة لأوانها.
رغم الشعارات المرفوعة والرغي المتواصل سواء على المستوى الرسمي أو الحزبي، حول نزاهة الانتخابات المقبلة، إلا أن الواقع يؤكد بالواضح والمرموز أن اغلب الكائنات الانتخابية في المغرب أبعد ما تكون عن الالتزام بشروط النزاهة المطلوبة، فهي تجتهد على امتداد مساحة الفترات الانتدابية في ابتكار أساليب جديدة ومختلفة لاستمالة الهيئة الناخبة والتأثير على حريتها في الاختيار، بل وتمارس سلوكات مفضوحة لتحقيق أهدافها الانتخابية، تارة عن طريق التدخل المباشر لقضاء بعض الحاجيات للمواطنين، وأخرى بواسطة خدامهم من المواطنين ممن يقومون بدور الوسطاء، وينوبون عنهم بنفس المهام، وغالبا ما تتم هذه العمليات القبيحة في المناطق الآهلة بالعائلات الفقيرة والأحياء الهامشية في المدن الكبرى، حيث تستغل تلك المخلوقات الانتخابية الخصاص والعوز الذي يملأ حياة هؤلاء الدراويش والفقراء، وتستثمره لتحقيق أهدافها الانتخابية المريضة، فتجدها تجتهد في إبراز عضلاتها الاحسانية داخل هذه الفضاءات، طالقة العنان لألسنة خدامها للتهليل والتطبيل والإشادة بها، لدرجة تصل في الكثير من الأحيان حد الإطناب، خاصة إذا ما كانت هناك منافسة بين كائنات انتخابية تسلك نفس النهج في نفس المنطقة، حيث يتأجج الصراع وتتصاعد أنفاسه داخل فضاءات المنطقة، وتتحول إلى مجال للعربدة الانتخابية، حيث السخاء الحاتمي والجود الكبير والإخلاص المبالغ فيه، فيغدو المكان أشبه بعرض مفتوح للمزاد العلني، حول قضاء حوائج الناس، مع أن الأهداف تحركها فقط الهواجس الانتخابية والوصولية ليس إلا.
في الوقت الذي تحاول خلاله هذه الكائنات الانتخابية التنكر في صفات الأنبياء والصالحين، داخل المناطق التي يترشحون بوحدتها الترابية، معتقدين أن بإمكانهم خداع الناس واستغفالهم لقضاء مآربهم الانتخابية الضيقة، تجد في المقابل عناصر من صلب هؤلاء المواطنين تستغفلهم وتقتات على حسابهم وتخترع أساليب أكثر شيطانية لانتزاع أكبر حصة ممكنة من المكاسب لفائدتها، وكثيرا ما يتأجج الصراع بين هؤلاء المنتخبين حول البعض من هؤلاء المواطنين ممن يتمتعون بشعبية واسعة بين الناس، خاصة في صفوف الشباب، فتجدها ـ أي الكائنات الانتخابية ـ تتنافس فيما بينها لاستخدامه كطعم بين الناس للتأثير على حريتهم في الاختيار، واستمالتهم لفائدة شخص معين.
هذه النماذج، في التدخلات التي تنهجها هذه العينات من المنتخبين وغيرهم، تؤكد في عمقها درجة انخفاض الحس الوطني في النفوس وطغيان المصلحة الذاتية عن المصالح العامة للبلاد، وتكشف كذلك عن الرغبة الشيطانية في التمسك بالمواقع الانتخابية بأية وسيلة، مهما كانت غير ديمقراطية، وغير شريفة حتى! وتعلن بلسان حالها عن ذلك الحس المجنون الذي يدفع بصاحبه للقيام بأي سلوك يضمن استمراره في موقعه، ويحقق بالتالي استمرار مصالحه الشخصية، وتفضح من زاوية أخرى النوايا القبيحة وغير النظيفة التي تملأ تلك الصدور!! إذ لا يعقل أن يصرف البعض منهم ملايين السنتيمات، ودون ضمانات، في استدراج الناس واستمالتهم للتصويت لفائدته مستقبلا، وكأنه يعلب الأصوات ويجمدها لفائدته إلى حين!!
ودون أن يفكر في أن تلك الأصوات تحمل في نفسها آلاف الأسئلة وملايين الأجوبة، حول مصدر تلك الأموال المصروفة عليها، والتي تغدق بغير حساب وفي كل الاتجاهات وبغير مناسبة!! لكن الحمى الانتخابية التي تحرك النفوس وتملأ الضمائر، تضع الغشاوة على العيون حتى لا ترى الحقيقة كما هي… إضافة إلى أن الخوف على المصالح الذاتية الضيقة يجري في العروق مجرى الدم، ويدفع إلى ارتكاب جرائم انتخابية مفضوحة دون وعي بما يجر على الديمقراطية من أعباء ومن أوزار ما أتى الله بها من سلطان، لا تهم في ذلك إلا المصالح الذاتية أما دونها فإلى الطوفان!! هذا الخوف الذي يملأهم، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنهم يسلكون هذه المسالك لعلمهم الأكيد أن الهيئة الناخبة لا تحترمهم، لذلك تجدهم يتسابقون لشراء ذممها والمتاجرة في ضمائرها والتأثير عليها، عن طريق المال أو بعض الخدمات التي تبدو في ظاهرها إنسانية مع أنها في العمق محشوة برغبة انتخابية مريضة ومسمومة، وربما يحاول بعضهم التعريف بنفسه لنقص في شعبيته داخل منطقة نفوذه، فتجده يتنطط هنا وهناك لإشاعة اسمه وجعله متداولا بين العامة لأغراض انتخابية تحركه، وللفت الانتباه تجده أيضا يصرف أمولا بغير حساب!! ويظهر بملابس الأتقياء ويقدم نفسه في صور النبلاء والصالحين.
هذا الهاجس الانتخابي يجر أصحابه لممارسة هذه الوسائل على الرغم أنها تضر بنزاهة العمليات الانتخابية وسلامتها، بفعل التأثير القبلي الذي يعتبر من وسائل الضغط على إدارة الهيئة الناخبة وتوجيهها عن طريقه إلى وجهات معينة، الشيء الذي يقزم مساحة الحرية في الاختيار النزيه الخالي من المؤثرات التي من شأنها تغيير ملامح هذه الحرية والتقليص من مفعولها بواسطة الضغط القبلي الممنهج وغير الشريف.
إلا أن هذه الممارسات رغم تنوع أساليبها وتعدد مناحي نشاطها، تتحمل مسؤولية تناميها بالدرجة الأولى، السلطات العمومية المغربية، المعنية بحماية القانون وإقراره باعتبارها سلطة تنفيذية، تملك أزرار الحد من هذه الظاهرة عن طريق زجر ممارسيها، مهما اختلفت مستويات مسؤولياتهم ومواقعهم، سواء داخل المؤسسات المنتخبة أو المؤسسات المغربية الأخرى، في القطاعين الخاص والعام، خاصة وأنها تتوفر على إمكانيات مهمة وفعالة للقيام بهذا الواجب وخاصة الموارد البشرية، إذ لا يعقل أن تتنامى هذه الظاهرة بالمغرب بوجود جيوش من المقدمين والشيوخ والعيون التابعة لها من المواطنين، والملحقات الإدارية والدوائر الأمنية المبثوثة على امتداد المملكة، والتي ترصد “الشاذة والفادة” عن هذه الشطحات الانتخابية المسبوقة، خاصة وأن هذه الأخيرة تتم بشكل علني مفضوح، تتناقل أخبارها الألسن بشكل سريع لأن الهدف من ورائها أساسا هو الإشعاع وترويج الأخبار بين الأوساط قصد الدعاية والإشهار، كونها بعيدة كل البعد عن أعمال الخير والإحسان التي غالبا ما تتم في الكتمان وخارج دائرة الانتخابات، أو الأهداف الدنيوية الوصولية والانتهازية.
والغريب في شأن هذه الحملات أن الأحزاب المغربية على اختلاف تلاوينها، تلتزم الصمت بخصوصها، بل منها من تباركها إذا ما كانت تخدم مصالحها التوسعية، وتصرخ في وجهها إذا ما كانت عكس ذلك، الشيء الذي يبعث على الشك في شعاراتها المرفوعة وخطاباتها التي لا تقاوم حول مناداتها بضرورة تطهير العمليات الانتخابية من مظاهر الفساد وتحريرها من الشوائب التي تلازمها مع كل موسم انتخابي جديد، لأنه سلوك يعلن بالواضح أنه شتان بين رفع الخطاب والترجمة الفعلية له على أرض الواقع وبين المطالبة بالشيء ونهج استراتيجيات تأتي بضده، هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والترجمة والمطالبة والفعل، يؤكد أن الانتخابات المغربية أبعد ما تكون عن النزاهة والشفافية، رغم المحاولات المبذولة في هذا الباب من قبل قلة من الغيورين على احترام الإرادة الشعبية،
ودعوتهم إلى إقرار انتخابات سليمة، وكذا بعض الحركات المخزنية التي تحاول تمويه الرأي العام، وتشويه معالم حساباته، كالمحاكمات التي طالت بعض المنتخبين مؤخرا إبان الحملة الانتخابية لتجديد ثلث مجلس المستشارين والتي يمكن تصنيفها في خانة الحق الذي يراد به باطل، والحركة غير السوية التي يراد تحويلها إلى الشجرة التي تخفي الغابة، كإشارة منها على أن النية الرسمية تطمح إلى إقرار انتخابات نزيهة مع أن الواقع يؤكد العكس، والدليل أن الحملات الانتخابية السابقة لأوانها تمارس في واضحة النهار وبشكل علني مفضوح، ومع ذلك لا من يحرك ساكنا.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً