تزامن الأحكام و تعاقبها
كانت قاعة المحكمة تغص بالمتقاضين و إذا بالشرطة تحضر شخصا عربيا من السجن ليواجه إحدى الدعاوى المالية المقامة ضده و لما سأله القاضي عن موعد إطلاق سراحه و أجاب بأنه في حدود عام 2050م ساد الاستغراب و الاندهاش و عدم التصديق على كل من بالقاعة بما فيهم هيئة المحكمة مما حدا بالمدعى عليه أن يقول إن ذلك حقيقة لا خيال و دفعني الفضول للبحث عن قصته من بعض المحامين كما استوقفته حال خروجه من النيابة العامة لأفهم منه عناوين التهم الموجة إليه فعلمت انه مطالب بمبالغ مالية و التزامات من قبيل الشيكات و نحوها و قد تجاوزت قضاياه 25 قضية و تراكمت عليه الأحكام و قد بلغ مجموعها لحد الآن حدود الـ50 سنة و هذا ما أنعش ذاكرتي لكتابة بحث عن الأحكام من حيث التزامن و التعاقب.
و هذا مبحث مهم جدا و كنت ارغب في الاستفاضة منه قبل الإفاضة فيه و قد بحثت عنه في المواقع العربية فلم أجد له أثرا و تكلمت مع بعض المحامين فلم احصل على ضالتي و عليه فسوف أخوض فيه بناء على المخزون العلمي التراكمي في ذاكرتي معتمدا بالدرجة الأولى على الموجود في الشريعة الإسلامية.
1- في الولايات المتحدة الأمريكية قد يصدر حكمان في قضيتين مختلفتين كل منها بـ25سنة سجن و هذا يعني أن المدان يسجن لمدة 50 عام و لكن قد يقرر احد القضاة اعتبار الحكمين متزامنين و هذا يعني انه يسجن 25 سنه فقط بل قد يحصل على إفراج مشروط بعد أن يقضي بعض المدة و لكن إذا كان الحكمين متعاقبين فلا مجال للإفراج المشروط لان لو أفرج عنه عن الحكم الأول لزم أن يبدأ في تنفيذ الحكم الثاني .
2- إن الأخذ بالتزامن لا يتنافى مع القواعد العلمية المنطقية فلو أمرك زيد بان تبقي في البيت مدة ساعة و أمرك عمرو بان تبقى في البيت مدة ساعة و بقيت في البيت مدة ساعة فيصدق حقيقة انك قد نفذت كلا الأمرين .
3- أن الأصل هو عدم التزامن – كقاعدة علمية- وهذا يعني لزوم صدور تشريع بها أو صدور تشريع يخول قاضي تنفيذ العقاب أو قاضي الموضوع بتقرير التزامن متى وجد مبررات لذلك و لم يكن المدان صاحب خطورة إجرامية .
4- إن الموجود الآن مفهوم الجرائم المرتبطة التي يحكم فيها بالعقوبة الأشد فمثلا جريمة إتلاف و بلاغ كاذب و سرقة فأشدها عقوبة هي عقوبة السرقة و من ثم يحكم بها لكن هذا مختلف جدا عن فكرة التزامن .
5- في الشريعة الإسلامية و فيما يتعلق بالعقوبات الخاصة بحق الله تعالى كالجلد بسبب الزنا فان من يقترف عدة جرائم من نوع واحد- كالزنا عدة مرات – تقام عليه العقوبة مرة واحدة فقط إذا كان الجرائم كلها قد ارتكبت قبل العقاب أما لو عوقب ثم عاد للإجرام فانه يعاد تنفيذ العقوبة عليه أما لو كانت الجرائم مختلف النوع – كزنا و سرقة- فانه يطبق عليه عقوبة كل نوع على حدة.
6- و هذا يتوافق مع الهدف الذي من اجله ُسنت قوانين العقوبات فان هدفها –في العصر الحالي- هو الردع الخاص و الردع العام و هو ما يتحقق بالعقاب لمرة واحدة متى تلا العقابُ الجريمةَ و إن تعددت ( مع ملاحظة أن العقاب سابقا كانت يهدف بالإضافة لما سبق إلى التشفي و الانتقام ).
7- إن الأخذ بفكرة التزامن أو التعاقب بنحو مطلق سيؤدي إلى تطبيقات غير محمودة فقد ينتج عنها إجهاض العدالة- في حال التزامن أو الإجحاف بالمدان في حال التعاقب .
8- و نضرب مثالا- سنعتبره مثالا افتراضيا -للإجحاف في حال التعاقب في إحدى الدول (رجل أدين بجنحة و حكم عليه 3 سنين و لكنه حاول الهرب من السجن لاعتقاده انه بريء فقبض عليه و تم تطبيق عقوبة الهرب من السجن عليه و هي مضاعفة المدة ثم حاول الهرب مرارا و كل مرة يقيض عليه و تضاعف عليه العقوبة بناء على آخر مجموع للعقوبة بمعنى 3 سنين تضاعفت إلى 6 ثم تضاعفت إلى 12 و هكذا حتى بلغ المجموع 30 سنة .
9- و نضرب مثلا للتزامن و سنعتبره افتراضيا هو الآخر ( شخص يدان بعدة جرائم اعتداء مشينة و تصدر بحقه أحكام متفرقة مخففة بسبب عدم جلب صحيفة اسبقيياته و عدم تقدير خطورته الإجرامية حق قدرها و دخول اعتبارات و مبررات لصدور تلك الأحكام المخففة و متى نفذت فكرة التزامن فانه سيخرج من السجن بمجرد قضاء اكبر حكم من تلك الأحكام الصادرة في حقه ) .
10- و عليه فان تقرر أن يبحث هذا الموضوع تشريعيا باعتبار ذلك يسد نقصا في القوانين الجنائية فانه يحتاج إلى دقة و ضبظ و آلية .
11- فمثلا التزامن -يكون في أحكام التهم المتماثلة – و يكون في الأحكام التي تتجاوز عشر سنين أو مجموعها يتجاوز العشر سنين- و أن يتقرر التزامن من عدمه بعد قضاء جزء معين من العقوبة- و أن يصدر لصالح المدان تقرير بحسن سلوكه -و أن لا يشكل خطورة إجرامية .
12- و لعل من الأفضل تشريع دعوى جديدة يحق للمدان التقدم بموجبها للقضاء بطلب الحكم باعتبار الأحكام الصادرة ضده في دعوى رقم كذا و دعوى رقم كذا متزامنة بدل متعاقبة .
13- أو تخويل قاضي تنفيذ العقاب بالبت في الالتماس الذي يقدمه المدان يطلب فيه اعتبار الأحكام الصادرة بحقه متزامنة و ليست متعاقبة .
اترك تعليقاً