موقف القانون من الانتحار
أكد فقهاء الشريعة الإسلامية علي إن حفظ حياة الإنسان تأتي في مقدمة المصالح الضرورية التي جاءت لحفظها من جانبين ؛ الأول حفظها من جانب الوجود عن طريق تأمين مستلزمات استمرارها من مأكل وملبس ، والجانب الثاني من خلال حفظها من العدم عن طريق تشريع العقوبة ، لذلك تكفلت بحماية حياة الإنسان وخلال مراحل حياته جميعها بتجريم الأفعال التي يترتب عليها سلب الإنسان حقه في الحياة ولو تم ذلك شفقة عليه ورحمة به لمرض أو عاهة .
والانتحار كما يعرفه فقهاء القانون هو إنهاء الإنسان لحياته بنفسه ، أما الشروع في الإنتحار أن يأتي الشخص فعلاً يؤدي في العادة إلي إزهاق روحه وإنهاء حياته غير أن النتيجة لا تتحقق ، أي أن وفاته لا تتم لسبب لا دخل لإدارة من أقدم على ارتكاب الفعل فيها ، كمن يأخذ كمية كبيرة من الأدوية والحبوب أو يشرب سماً ثم يتم إنقاذه من قبــل أفراد أسرته أو من الآخرين بأخذه إلى المستشفي وعلاجـه في آخر لحظة ، أو أن يلقي بنفسه من سطــح شاهــق لعمارة أو جسر مرتفع ، غير أنه لا يموت .
وإذا كانت الجريمة التامة التي يتحقق بها الإنتحار لا يمكن أن تجرم ، ذلك أن التجريم يفترض تقديم المتهم للمحاكمة وإحاطته علما بالإتهام المنسوب إليه ومنحه فرصة الدفاع عن نفسه ودرء شبهة الإتهام الموجهة إليه عن نفسه ، وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبداً بعدما أصبح المنتحر في ذمة الله تعالي . فأن فعل الشروع ومعاقبة من يقدم علي الإنتحار ولا تتحقق النتيجة دون إرادتـه ، قد يؤدى من الناحية النظرية إلي زيادة هموم وآلامه الفاعل هما وألما جديداً ، مما قد يدفعه إلي التفكير مرة أخري في الإنتحار وعدم الفشل في تحقيق غايته ، أما إذا لم يجرم الشروع فإن الظروف قد تتحسن ويتوب إلي الله ، وقد يدفعه ّذلك إلي استغلال طاقاته وإمكانياته ليكون إنساناً فاعلاً في المجتمع ولربما أفاد بعد ذلك البشرية نتيجة نبوغه وقدراته .
والسياسة الجنائية الحالية لم تجرم فعل المنتحر تقديراً منها للبعد الاجتماعي والنفسي لمـــن شرع فـــي الإنتحار ، ولأن السياسة الجنائية للدولة ؛ تعبر عما تقرره من آليات ووسائل من خلال تشريعها الجنائي لمكافحة الظواهر الإجرامية التي تشكل تهديداً وخطراً علي الهيئة الاجتماعية ، لذلك فقد نتسأل هل الشروع في الإنتحار من الأنشطة التي تنطوي علي تهديد للمجتمع ؟ مما يوجب معاقبة مرتكبه جنائياً ، كما يقول الاتجاه المتشدّد الذي لم يقدر بأن سياسة العقاب التقليدية لم تفلح في خفض معدلات الجرائم التي تمثل تهديدا حقيقيا على المجتمع ، أم أن من شرع وحاول الإنتحار قد ينبئ نشاطه عن معاناته من خلل نفسي وضعف إرادته عن مواجهة ظروف الحياة ومتغيراتها ؟ وهو ما قد يحمل المجتمع وزرا لعدم قيامه بدوره تجـاه مواطنيه .
وفي هذا الخصوص نؤكد على إن قانون العقوبات يجب إن لا يتدخل إلا إذا انهارت قاعدة أخلاقية مما يلق علينا بعبء ترسيخ القيــم الأخلاقيـــة والاجتماعية التي تقوم بدور وقائي للحد من تنامي هذه الظاهرة ، والابتعاد عن تجريم نشاط من شرع في الإنتحار والاكتفاء بالسياسة الجنائية المقررة التي جرمت نشاط من ساعد أو حرض على الإنتحار بموجب أحكام المادة ( 379 ) من قانون العقوبات بنصها على أن : ” كل من حمل غيره على الإنتحار أو ساعد على ذلك ، ووقع الإنتحار فعلا ، يعاقب بالسجن من ثلاث سنوات إلى عشر ، وإذا لم يقع الإنتحار ونجم عن الشروع فيه أذى خطير أو جسيم فتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين ” ، وهو ما أكد عليـــــه مشــروع قانون العقوبات فى نسخه المتعددة . مما يكفل لحيـاة الإنســان قيمتها وأهميتها ، بإخضاع نشاط من يقدم المساعدة بمختلف صورها لمن يشرع في الإنتحار وهو يعلم بما هو مقدم عليه للعقاب ، كذلك المحرض الذي يولد فكرة الإنتحار لدى شخص ويحثه على تنفيذها
اترك تعليقاً