جريمة الأب الغائب في حق أسرته
منظر الأب الذي يلاعب أولاده، يحملهم على ظهره، يقفز، يركل الكرة معهم، يقضي وقتاً طويلاً معهم من دون التخلي عن وقاره أو هيبته، يجب أن يكون شائعًا في بيوتنا وأسرنا.
فإذا كانت الأم تجلس على مقاعد الحديقة، وتراقب أولادها أثناء لعبهم، تسدي إليهم النصائح وتصفق لهم عند سقوطهم على الأرض، وتشجعنهم على الوقوف ومعاودة اللعب والقفز والصراخ، فإن الأب يجب أن يكون مشاركًا أبناءه في لعبهم ومذاكرتهم وقراءتهم الحرة وزيارتهم للأهل والأقارب ومشاهدتهم للتلفاز،
يسمعون معًا ويشاهدون معًا، فينقد ما يسمع ويشاهد، ويوجه ويشرح ويعلق، ويخرج الأبناء من ذلك كله بتوجه فكري وثقافي وأخلاقي وقيمي. الأب يجب أن يكون جاهزًا للرد على أسئلة أبنائه الكثيرة، حتى لا تتسلل مفاهيم خاطئة إلى عقولهم ونفوسهم.
الأب يجب أن يكون موجودًا، يراقب من بعيد ومن قريب، يتعرف على أصدقاء أبنائه ولا يدعهم لرفقة السوء والشوارع، وإنما يصحبهم إذا كبروا للمنتديات والمناشط الثقافية والدينية، ويراقب أداءهم للصلوات وتطور نصوح شخصياتهم وضميرهم الديني.
السلطة الأبوية تلعب دورا هاما في تحديد شخصية الطفل المستقبلية، بدرجة تصل إلى حد يرجع معه الخبراء اضطرابات الأطفال، في معظمها، إلى اضطرابات السلطة الأبوية. وما يحدث من اضطرابات في شخصية الأبناء إنما يعود إلى اضطرابات في شخصية الأب وبنيتها الفردية.
ولذلك فإن شخصية الأب اللامبالي الذي يدفعه شعوره بالعجز إلى الابتعاد عن تحمل مسؤولياته العائلية، يدركها الأطفال بسهولة، ويعرفون كيف يلجأون لتجميد هذه السلطة عن طريق التركيز على الأم في طلبهم لكل ما يحتاجون إليه.
وهذا خطأ شديد وفراغ خطير في الأسرة تدفع ثمنه الزوجة والأبناء. أما الأب القاسي الذي يمثل وجوده عبئًا على الأسرة، فهو شتام ضراب، صانع للأزمات غير ممتص لها، عدواني أرعن، شخصية هذا الأب تؤثر سلباً في تربية أطفاله، في مفاهيمهم ومثلهم العليا، وعلاج مثل هذا الأب هو ضرورة ملحة لإنقاذ العائلة وأطفالها على وجه الخصوص.
أما شخصية الأب المنتصر دائمًا على زوجته وأم أبنائه، الأب الذي يغير بدرجة مبالغ فيها على زوجته، ويشك فيها، كل هذا يؤثر سبيًا في نفسية الأبناء.
كما أن موت الأب فإنه يشكل إحدى أشد المشاكل وطأة في حياة الطفل، وهذه المعاناة تظل أثرها ليس فقط في شخصية الطفل المستقبلية ولكنها تمتد لتؤثر على أولاده أيضاً.
وفي وضع اليتم يكون الطفل قد حُرم من مثله الأعلى الطبيعي ويكون من الصعب على الطفل إيجاد بديل لمثله الأعلى المفقود. ومشكلة الأب الغائب بالموت كبيرة، فغيابه يمثل غياب السلطة التي يمثلها وتكون نتيجة ذلك تردد الأطفال وعجزهم عن إقامة اتصال فاعل معه.
لكن الغياب لا يكون بالموت فقط، فهناك صور أخرى للغياب، فالإحصائيات الرسمية وشبه الرسمية في مصر تؤكد وجود حالة طلاق كل ٦ دقائق، ووجود ٣٣٪ من الأسر المصرية تعولها امرأة، وهو ما يؤكد أن الأبناء هم الضحية في حالة غياب الأب.
فكون أن أكثر من ٣٣٪ من الأسر المصرية تعولها امرأة، بسبب زيادة البطالة بين الرجال، وبسبب البطالة، وبسبب موت الأب، أو ترك الأب لأسرته وزواجه من أخرى وعدم إنفاقه ورعايته لزوجته الأولى هي وأولادها خاصة في البيئات الدنيا والفقيرة، أن يكون ثلث الأسر المصرية تعولها امرأة مؤشر على شيء ما خطأ في الأسرة المصرية ومن ثم في المجتمع المصري.
غياب الأب له أضرار نفسية واجتماعية خطيرة على الأم والأبناء، حيث تتحمل الأم أعباء كثيرة فتسعى لتوفير احتياجات أبنائها وتراعى شؤونهم الدراسية والاجتماعية فضلاً عن قيامها بالواجبات المنزلية وهو ما يحولها إلى آلة لا تهدأ، فيصيبها الإحباط والشعور بالتقصير مهما قدمت من تضحيات لأن انشغالها بتوفير لقمة العيش يفقدها تفرغها النفسي للأبناء والجلوس معهم وقت كاف بسبب انهيار قواها فتصاب بالعصبية أو الأمراض،
ومن هنا يحدث الخلل الأسرى والانهيار رغم اختلاف درجاته من أسرة لأخرى، ويكون مؤثرًا على الأبناء فيخرجون فاقدي الثقة فيمن حولهم، ويسهل انسياقهم وراء الغير بسبب عدم وجود قدوة، وقد يتشبه الولد بوالده ويهرب من مسئولياته ويكرر تصرفات والده في حياته المستقبلية.
بل إنه في حالة غياب الزوج عن الأسرة، لسفره خارج البلاد بحثًا عن الرزق رغم ضرره الأقل مقارنة بهجره لها، إلا أنه يجعل الأبناء يبحثون عن متنفس لهم وتكون المادة هي قائدهم في ظل غياب نظام لحياتهم، ويجب في حالة سفر الأب أن يسأل نفسه عن المكسب الذي يعود على أسرته عند غيابه، وإن كان غيابه لن يؤثر فعليه أن يتأكد من أنه زرع كل القيم التي تجعل أبناءه قادرين على أن يحيوا الحياة الطبيعية في مختلف جوانبها الاجتماعية والدينية والثقافية والترفيهية،
وإذا كان تحقيق حياة كريمة وتوفير رعاية متكاملة للأبناء معادلة صعبة، فعلى الأب المسافر والذي يترك أولاده وحدهم أن يراجع نفسه كثيرًا قبل اتخاذ هذا القرار.
فغياب الأب بالسفر بحثًا عن الرزق، يؤثر سلبًا على الزوجة والأبناء والأسرة، لأن هذا الابتعاد يوجد فجوة في التعامل الأسرى ويوجد عزلة نفسية بين الأب وأبنائه، فيخرج الأبناء بدون قدوة حسنة لأن الأب هو المسئول عن زرع القيم الأخلاقية بالأبناء، فضلاً عن أن وجود علاقة غير متوازنة بين الأب والأم يفقد الأبناء شخصيتهم.
اترك تعليقاً