الحصانة القضائية للموظف الدولي
الباحث حيدر سالم ياسين
ارتبط مفهوم الموظف الدولي بظهور المنظمات الدولية التي وجدت من خلالها الجماعة الدولية كون الحاجة لمثل هذه المنظمات اصبح ضرورة قصوى لاجل المحافظة على مصالح الدول في دول اخرى , ولم يعرف قبل ظهور المنظمات الدولية مصطلح الموظف الدولي فلكل منظمة دولية جهاز اداري فضلاً عن اجهزتها التشريعية والقضائية ويتكون هذا الجهاز من مجموعة الموظفين الذين قد يكبر عددهم او يقل حسب حاجة المنظمة , ويرأسهم رئيس اداري اعلى يدعى الامين العام يتولى تنظيم عمل الكادر الوظيفي في المنظمة ويكون مسؤولاً عن اعمال هذا الجهاز امام اجهزة المنظمة الرئيسية , ولتمكين الموظف الدولي من اداء واجباته المكلف بها من قبل المنظمة فقد منح الحصانة القضائية ولكون هنالك مجموعة من الاهداف والمصالح المشتركة للدول ولغرض تحقيق تلك الاهداف والمصالح المشتركة فيما بينها لذا سعت الدول الى انشاء المنظمات الدولية التي اوكلت اليها مهمة تحقيق تلك الاهداف التي تهم المجتمع الدولي وكذلك تم انشاء المنظمات الاقليمية في هذا الاطار ومن الطبيعي ان المنظمة الدولية لا يمكنها ان تباشر الاختصاصات المنوط بها والوظائف المعهودة اليها بغية تحقيق اهدافها وخططها الا من خلال جهاز يضم مجموعة من العاملين يضطلعون بممارسة هذه الاختصاصات والوظائف ممن يطلق عليهم الموظفين الدوليين ومن ثم فان تمتع المنظمة الدولية بالقدرة على ادارة شؤونها الداخلية وما يستتبع ذلك من ضرورة ان يكون لها طابع وظيفي مستقل , يعتبر من اهم الملامح التي تظهر فيها الشخصية القانونية للمنظمة الدولية , وارادتها الذاتية المستقلة عن الدول الاعضاء فيها .
لذلك تم عقد العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بالحصانة والامتيازات الممنوحة للموظف الدولي الذي يعمل فيها . والغرض منها الحفاظ على الوظيفة الدولية من اي تأثيرات جانبية سواءاً كانت من الدولة التي ينتمي اليها الموظف بجنسيته او من دولة المقر التي يوجد فيها مقر المنظمة الدولية وان منحهم تلك الحصانات والامتيازات ومنها الحصانة القضائية , يعني ان الدول بهذا تتخلى عن جزء من سيادتها لضمان قيام الموظف الدولي بالعمل المكلف به من قبل المنظمة وهذا التنازل في حقيقة الامر ليس اجبارياً ولا مفروضاً من المنظمة على الدول وانما القصد منه ضمان تنفيذ المهام المكلف بها الموظف في اجواء يسودها الاستقرار والحياد بعيداً عن اي ضغوط او تأثيرات جانبية .
وعندما ازداد عدد الدول والمنظمات الدولية نظمت الاتفاقيات الدولية والعرف الدولي وكذلك التشريع الداخلي حصانة الموظف الدولي من القضاء المحلي بما فيها حصانته من القبض . والمحاكمة والتفتيش والتنفيذ , وامتدت هذه الحصانة لتشمل افراد اسرته وخدمه وامواله , ومما لا شك فيه ان الحصانة تعد استثناء من الاصل العام الذي يقضي بخضوع مرتكبي جميع الجرائم والمخالفات التي تقع على اقليم دولة ما لقانون هذه الدولة , بينما نجد ان صاحب الحصانة يتمتع بعدم الخضوع للقانون الداخلي لهذه الدولة , وفي المقابل يتوجب على الموظف عدم استغلال تلك الحصانة للاغراض الشخصية كونها منحت لصالح الوظيفة الدولية , لذلك نجد ان الاتفاقيات التي تعنى بالحصانة قد وضعت نصوصاً تخص الاجراءات المتخذة عند اساءة استعمال تلك الحصانة , وقد بينت اتفاقية امتيازات وحصانات الامم المتحدة الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة لسنة 1946 مفهوم ونطاق واثار تلك الحصانة , وكذلك اتفاقية امتيازات وحصانات المنظمات المتخصصة للامم المتحدة لعام 1947 , اما اتفاقية مزايا وحصانات جامعة الدول العربية لعام 1953 وتكاد تكون نصوصها تماثل في مضمونها الاتفاقيتين المذكورتين اعلاه .
وتكاد تكون الاتفاقيات الدولية التي تعنى بالحصانة القضائية الممنوحة للموظف الدولي متماثلة في نصوصها , وبالتحديد الاتفاقية العامة لامتيازات وحصانات الامم المتحدة لعام 1946 واتفاقية عام 1947 الخاصة بالمنظمات المتخصصة للامم المتحدة , واتفاقية مزايا وحصانة جامعة الدول العربية لعام 1953 وان الموظفون الدوليون يتمتعون بالحصانة القضائية من الاجراءات الجنائية بحسب الطائفة التي ينتمي اليها الموظف .
حيث ان الامناء العامون وازواجهم واولادهم يتمتعون بالحصانة الجنائية المطلقة , اما بالنسبة للموظفين الذين يعملون تحت امرة الطائفة الاولى , فيتمتعون بحصانة نسبية قاصرة على اعمالهم الرسمية فقط , كما انها لا تمتد الى افراد عائلاتهم . كما ان حصانة الموظفين الدوليين , دائمة فهي تستمر بالنسبة لما صدر عنهم من اقوال او كتابات بسبب قيامهم بمهامهم الرسمية حتى بعد زوال صفتهم الرسمية , ولكون الحصانة القضائية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية , منوط فقط بالاعمال الرسمية اي ان الموظف الدولي تحت الحصانة الدولية ما دام العمل القائم به عمل رسمي يصب في خدمة المنظمة , اما المخالفات الفردية التي تحصل خارج نطاق العمل فهي تعد اخلالاً وخروجاً عن شروط الحصانة , ونستنتج ايضاً ان المخالفات او الجرائم المرتكبة من قبل الموظف الدولي خارج حدود الحصانة القضائية , تجرمه وتضعه تحت طائلة القانون المحلي او الدولي .
ولكي يبقى ضمن نطاق الحصانة القضائية الممنوحة له , عليه ان يلتزم بالقوانين المحلية للدولة التي يعمل فيها . وان مفهوم الحصانة القضائية هو ( ان يتمتع الموظف الدولي بغطاء قانوني يحول دون مسألته عن ما يرتكبه من اعمال توجب مسألته من قبل المحاكم المحلية في البلد الذي يعمل فيه بصفته الرسمية سواء كانت دولة المقر او في الدولة المضيفة , كون الحصانة القضائية مرتبطة ارتباط وثيق بمتطلبات الفعالية الوظيفية , وهي حق يمنح للشخص او لمؤسسة يحول دون ممارسة الدولة المضيفة سلطاتها عليه , وهي مطلقة بالنسبة للامين العام ونوابه اما باقي الموظفين فتكون حصانتهم نسبية فتشمل اعمالهم الرسمية فقط دون غيرها , والحصانة ليس في الواقع حصانة ضد القانون وانما حصانة تحول دون تطبيق هذا القانون او بالاحرى دون تطبيق جوانبه الاجرائية , وفي نفس الوقت الحصانة القضائية لا تنتزع صفة الجرم عن الفعل المرتكب , فيما لو خرج بارتكابه هذا الفعل عن القواعد المتفق عليها في بنود الاتفاقيات الدولية ).
وان منح الموظف الدولي الحصانة القضائية المدنية المطلقة قد يرتب مشاكل كضياع حقوق المواطنين خاصة حسني النية , وبعد ازدياد عدد المنظمات الدولية واستخدام عدد كبير من الموظفين الدوليين واتجاه بعضهم الى تصرفات بعيدة عن مهامهم الوظيفية , كتملك عقار للاستخدام الشخصي او استثمار اموالهم في مشاريع تجارية بهدف الربح .
لذلك اتجه فقهاء القانون الدولي الى التمييز بين عمل الموظف الرسمي والعمل غير الرسمي فيتمتع الامين العام والامناء المساعدين بالحصانة القضائية بكل ما يصدر عنهم قول او كتابة او فعل بصفتهم الرسمية وهو ما نصت عليه الفقرة (18) من المادة (5) من الاتفاقيه العامة لحصانات الامم المتحدة .
وبسبب تطور الوظيفة الدولية واتساع نطاقها خصوصاً بعد تأسيس الامم المتحدة عام 1945 , ادى ذلك الى عقدت العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بالحصانة التي اصبحت فيما بعد صفة ملاصقة للوظيفة الدولية , ومنها الاتفاقية العامة لامتيازات وحصانات المنظمات المتخصصة لعام 1947 بعد الاتفاقية الخاصة بامتيازات وحصانات الامم المتحدة لعام 1946 , وكذلك اتفاقية فينا لتمثيل الدول في المنظمات ذات الطابع العالمي لعام 1975 وبالاتفاقية الخاصة بسلامة موظفي الامم المتحدة والافراد المرتبطين بها لعام 1994 , والبروتوكول الملحق بها لعام 2005 , ومشروع الاتفاقية الدولية للحماية الدبلوماسية لعام 2006 . بالاضافة الى الاتفاقيات الاقليمية الاخرى وهو بحد ذاته دليل على تطور واتساع نطاق الوظيفة الدولية .
وهذا بطبيعة الحال يحتاج بالمقابل تحديث بعض نصوص الاتفاقيات المتعلقة بالحصانة الممنوحة للموظف الدولي بالحذف او الاضافة او التعديل حسب طبيعة عمل المنظمة التي يعمل فيها . وبالرغم من وجود اوجه شبه بين الحصانة القضائية والحرمة الشخصية والحماية القضائية والامتيازات المالية والشخصية التي يتمتع بها الموظف الدولي الا انه تبقى الحصانة القضائية السلاح الناجع الذي من خلاله يستطيع الموظف الدولي ممارسة مهام وظيفته الدولية دون اي ضغوط اخرى استناداً الى نصوص الاتفاقيات والانظمة الاساسية لموظفي المنظمات الدولية والتي تمثل مصالح الدول الاعضاء . وهي تحتل المرتبة الاولى مقارنة بباقي الامتيازات التي تمنح للموظفين . كما ان قيد الحفاظ على امن الدولة كان سبباً اساسياً في تضمين اتفاقيات حصانات المنظمات الدولية نصوصاً تمنع ( اساءة استعمال الحصانات ) ولكون الحصانة القضائية تدور وجوداً وعدماً مع عمل الموظف الدولي وبالتالي انها جزء لا يتجزأ من عمله الوظيفي . فعندما اختارت المنظمة الموظف الدولي بغية تحقيق اهدافها وخططها . ينبغي للمنظمة ان تتأكد من توفر الشروط المطلوبة لهذه الوظيفة ليكون ذلك الشخص بمستوى المسؤولية للوظيفة الدولية التي يشغلها . ونتيجة لتوسع نطاق الدول وازدياد عدد السكان وتطور الحياة في مختلف النواحي ولمضي وقت ليس بالقليل على ابرام الاتفاقية العامة لامتيازات وحصانات الامم المتحدة لعام 1946, والتي تعد نواة الحصانة القضائية التي منحت للموظف الدولي .
فينبغي ضرورة اجراء التعديلات فيها بما يتلاءم مع وضع المجتمع والاحداث التي تشهدها الساحة الدولية حالياً . ويرى الباحث توفير حماية قضائية اوسع لموظفي جامعة الدول العربية ولما لتلك الحماية القضائية من دور كبير في تعزيز الحصانة القضائية للموظف كونها تدور مع مقتضيات الوظيفة , نقترح انشاء قضاء ذو درجتين داخل منظمة جامعة الدول العربية كما ما موجود حالياً في منظمة الامم المتحدة لعام 2009 , وذلك لتوسيع الحماية القضائية لموظفي الجامعة وبالتحديد في قرارات رفع الحصانة كذلك ضرورة اصدار نظام قانوني موحد للوظيفة الدولية لتوحيد القواعد القانونية واللوائح التي تنظم العلاقة بين الموظف الدولي والمنظمة الدولية بغض النظر عن طبيعة عمل المنظمة التي يعمل فيها . بغية توحيد القواعد القانونية التي تنظم الخدمة المدنية الدولية شريطة ان تكون قابلة للتطبيق في جميع المنظمات الدولية .
وهنالك حاجة ملحة لغرض رفد الجهاز المتخصص بمراقبة اداء الموظفين داخل المنظمة بمزيد من الدعم , ومن خلال استغلال التقدم التكنولوجي في هذا المجال لغرض تكثيف المراقبة والاشراف على اداء الموظفين الدوليين , وذلك للحد من اي حالة اساءة استعمال الحصانة او خرق او عدم تنفيذ للواجبات الملقاة على عاتقهم . مع ضرورة وضع اليات قانونية داخل النظام الاداري لمنظمة الامم المتحدة بهدف تفعيل احكام الوظيفة الدولية لضبط سلوك الموظفين العاملين فيها , لتجنب اي اساءة لاستعمال الحصانات , او استغلال وظيفتهم لصالح الدول العظمى . مع ضرورة العمل على تعديل الفقرة (18) من المادة (5) من اتفاقية امتيازات وحصانات الامم المتحدة التي تخص حصانة الموظف الدولي , كونها لم تحتوي على حصانة الموظف الدولي الشخصية من اجراءات القبض او الاعتقال كما هو عليه في الفقرة (11) من المادة (4) فيما يتعلق بممثلي الدول الاعضاء او الفقرة (22) من المادة (6) فيما يتعلق بالخبراء , والتي تنص على الحصانة من اجراءات القبض والاعتقال .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً