إن توافر القصد الجرمي مرهون بانصراف ارادة الفاعل الى الاعتداء على حق يسبغ القانون عليه حمايته، وإن توافر هذه الارادة مرهون بتوافر علم الفاعل علماً حقيقياً صحيحاً بأن من شأن فعله إحداث ذلك الاعتداء، وتوافر علمه بالوقائع التي تقترن بفعله وتحدد خطورته على الحق محل الحماية. أي يتعين على الفاعل أن يعلم بأن الفعل أو الامتناع الذي يأتيه منطوياً على خطر يهدد مصلحة يرعاها المشرّع. فالعلم بالسلوك أو التنبؤ به وتوقعه أمر يتطلبه المشرع لقيام القصد والمسؤولية الجنائية المترتبة عليه من بعد، وإن المشرع يفترض بأن الجاني يعلم أن سلوكه ذو طبيعة معينة ويتضمن خطورة خاصة تتمثل بالاعتداء على الحق محل الحماية، والمفروض أن يتنبأ الجاني بهذه الخطورة ويتوقعها. فاذا جهل الجاني أثناء تنفيذ السلوك بعض الوقائع والظروف المحيطة بها وغلط في فهمها أو تقديرها على الوجه الصحيح، وقام بسلوكه في ظل اعتقاد تملك ذهنه بأن لا خطورة في سلوكـه على الحق فإن القصد الجرمي لا يقوم لديه (1).
وبكلمة واحدة نقول أنه يتعين على الفاعل وقت ارتكابه الفعل أو الامتناع أن يعلم بماهية الفعل أو الامتناع وبنوع الآثار الجرمية التي من المؤكد أو المحتمل والممكن ان تنشا عنه ليمكن نسبة القصد اليه. فمن يطلق في الهواء عيارات نارية تعبيرا عن سعادته بزفاف اخيه فيصيب احد الاثار المشتركين في الحفلة ويقتله، لا يقوم لديه القصد وإن امكن تصوّر مسؤوليته عن جريمة غير عمدية اذا شاب سلوكه خطأ. ومن يرشق صديقه بمادة سائلة معتقداً إنها ماء، قاصداً مداعبته فاذا هي مادة كيمياوية حارقة، لا يتوافر العمد في الاصابة التي تقع بسبب ذلك. والذي يوجه سلاحه نحو صديقه هازلاً معتقداً خلو سلاحه من الاطلاقات، ثم يضغط على الزناد فينطلق مقذوف يردي صديقه ميتاً فلا تتوافر حالة العمد لديه. والطاهي الذي يضع مادة سامة في طعام مخدومه ظانّاً أنها ملح طعام كونها حبيبات بيضاء تشبه الملح، فلا يسأل عن جريمة قتل عمدية اذا توفي مخدومه أثر تنأوله الطعام المسموم. ومن يطلق النار على زميله الممثل في مشهد تمثيلي على خشبة المسرح كما يقتضيه الدور معتقداً أنها اطلاقة وهمية لا تحدث سوى الصوت فاذا هي اطلاقة حقيقية قتلت زميله كان قد استبدلها أحد أعضاء الفرقة دون علمه، فلا ينسب قصد اليه. والطبيب الذي يقوم باجراء عملية جراحية لمريض بقصد علاجه، تنتفي الخطورة الجرمية في فعله وإن ظلّت الخطورة الفعلية مرافقة لعمله اذا ادى ذلك الى وفاة المريض، لأن المساس بسلامة الجسم كان بقصد العلاج وليس بقصد العدوان (2) . الجاني في جريمة القذف مثلاً ينبغي أن يحيط علمه بالكلمات التي يتلفظها والتي من شأنها لو صحّت أن توجب عقاب من أسندت اليه واحتقاره عند أهل وطنه (المادة/433/1 عقوبات عراقي).
وفي جريمة الاغتصاب (المادة/393 عقوبات عراقي) يتطلب وجود القصد الجرمي أن يكون الجاني وقت ارتكاب الفعل ((عالماً)) بأن المواقعة غير مشروعة وإنه يقارفها من دون رضى الانثى. فليس شرطاً ان يحصل تلازم بين ارتكاب الفعل وقيام العلم لدى الجاني بعناصر الواقعة، اذ يمكن أن يعتقد الجاني اعتقاداً سائغاً ولو كان مغلوطاً بأن مقاومة الأنثى كانت مــــن قبيل التمنّع غير الجدّي وإن الفعل يقع برضاها، ولاسيما اذا كان سلوك الأنثى معه في ظروف الواقعة يسوغ هذا الاعتقاد. كما أنه من الجائز أن يعتقد الجاني لغلط في حساب أيام العدّة أن له الحق في مراجعة زوجته التي طلقها طلاقاً رجعياً في حين أن طلاقه قد صار بائناً لمضي المدّة، الأمر الذي ينبغي معه للقول بتوافر قصد الجاني وادانته اثبات علمه بالكيفية التي وردت. أما في جريمة الفعل الفاضح المخلّ بالحياء العلني الواردة في (المادة/401عقوبات عراقي)، فإن الرأي الراجح الذي يعتنقه (جارسون وجارو) يميل الى القول بتوافر القصد الجرمي الواجب في هذه الجريمة بمجرد علم الجاني بأن فعله يخدش الحياء العام بصرف النظر عما اذا كان قد قصد جعل هذا الخدش للحياء علنياً، ومن ثم يكفي لقيام القصد أن يتعمد الجاني تعريض نفسه للأنظار وهو في حالة منافية للآداب من دون اقتضاء أو مسوغ. وإن لم يكن مستهدفاً تحدي الشعور العام بالحياء، وإن كان يعتقد – غلطاً – أن أحداً لا يستطيع رؤيته، اذ يكفي أن يتوافر في مسلكه الاهمال أو التقصير وعدم الاحتياط في اتخاذ ما ينبغي للاستتار من الغير. لا يختلف الأمر في جريمة السرقة (المواد/439-446 عقوبات عراقي)، فلا يتوافر القصد الجرمي لدى مختلس المال المنقول الا اذا كان عالماً بعائدية المال الى شخص سواه، سواء كان شخصاً طبيعياً أو شخصاً معنوياً. فلا يقوم القصد الا اذا اعتقد الفاعل إن المال يعود له أو إنه مال مباح أو متروك. كما إن الغلط في تسليم المال قد ينفي الاختلاس، فقد يحصل التسليم نتيجة غلط يقع فيه من سلّم المال، غلط في شخص المتسلّم أو غلط في الشيء محل التسليم، كما لو سلّم المدين مبلغ الدين الى شخص سوى الدائن معتقداً أنه الدائن، أو سلّم المدين الى الدائن مبلغاً يزيد على مبلغ الدين، وكما لو سلّم صاحب المكوى بدلة غير التي تسلّمها. في كل هذه الأمثلة يكون التسليم نافياً للاختلاس، الا اذا كان المتسلّم يعرف مالك المال أو إنه على الرغم من علمه بحالة الغلط وعلمه بمكان المالك وهويته لم يتخذ ما ينبغي من الاجراءات التي تمكنه من اعادة المال أو الشئ، أو لم يتخذ الاجراءات الموصلة لمعرفته على وفق (المادة/450 عقوبات عراقي) (3) . وتطبيقاً لذلك قضت محكمة التمييزفي العراق بالآتي : ((يعتبر الاستيلاء بغير حق على مال يعرف المتهم صاحبه، جريمة سرقة وفقاً للمــادة 450 عقوبات)) (4) . وبعد، فإن المشرع في جرائم كثيرة تطلب بوضوح وصراحة علم الفاعل بها ـ كما ألمَحنا بالنسبة لقانون العقوبات – ومثال ذلك بالنسبة للقوانين العقابية الأخرى ما جاء فـــي نص (المادة/العاشرة/4) من قانون تنظيم التجارة العراقي رقم (20) لسنة 1970 بقولها:-((يعاقب بالسجن… من أدلى عمدا بمعلومات غير صحيحة أو قدم سجلات أو وثائق أو مستندات مزورة أو غير حقيقية مع علمه بذلك)).
و(المادة/الحادية عشر/3) من القانون نفسه حيث نصت على أنه ((يعاقب بالسجن 000 من قدم معلومات مضللة مع علمه بذلك ترتب عليها اتخاذ قرارات في شان من شؤون هذا القانون مضرة بالاقتصاد القومي)). وفي كل ذلك يتعين لقيام القصد لدى الجاني أن يكون عالماً علماً صحيحاً بفعله والنتائج المترتبة عليه. وقد يحصل الغلط في فعل يؤلف جريمة غير عمدية، إذا كان ناجما عن خطأ الفاعل نتيجة إهمال أو رعونة أو عدم إنتباه أو عدم احتياط أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة والأوامر0 كما لو وضع الصيدلي لمريض حضر إلى صيدليته سما في زجاجة وهو يحسبه الدواء الذي وصفه الطبيب له، أو نأوله زجاجة تحتوي على مواد سامة أو ضارة معتقدا أنها زجاجة الدواء المطلوبة للتشابه الكبير بين الزجاجتين، فالغلط هنا لا يمنع إلا المسؤولية العمدية أما المسؤولية غير العمدية فتبقى قائمة نتيجة تقصيره (5) . وهكذا الأمر في جريمة امتناع الطبيب عن تقديم المساعدة لمريض كان في خطر. إذ ينبغي علم الطبيب بوجود خطر حال وحقيقي ليكون امتناعه متسما بالخطورة، والعلم قد يكون مباشرا أو غير مباشر. ويكفي في رأي محكمة النقض المصرية أن يتأكد المتهم بنفسه من وجود خطر يقتضي ضرورة التدخل إلا أنه يمتنع عنه. فقضت باءدانة شخص امتنع عن طلب المساعدة لمريض بالقلب على الرغم من بقائه لساعات طويلة يعاني من أرمة مع علمه بمرضه. وكان ذلك ديدن القضاء الفرنسي الذي مابرح يذهب إلى تحميل الطبيب المعالج المسؤولية الجنائية نتيجة امتناعه عن تقديم المساعدة لمن يحتاج إليها بعد علمه المباشر أو غير المباشر بخطورة حالته.
والأصل أن الغلط في تقدير الخطر لا ينفي عنصر العلم في جريمة الامتناع عن تقديم المساعدة لشخص في خطر نتيجة كارثة أو جريمة تعرض لها(المادة/370/1/2عقوبات عراقي). ولكن إذا كان الغلط في تقدير الخطر يجعله لا يبدو في مجمله خطراً، وكان الفاعل لا يعتقد ولا يتصور حقيقة خطورته، ثم لم يقدم المساعدة بناءً على ذلك، فإن عنصر العلم ينتفي بلا شك وتنتفي معه المسؤولية العمدية. ويمكن القول أنه يجب أن يعلم المتهم بخطورة الحالة وضرورة التدخل المباشر لتجنب النتائج الخطرة، وإن امتناعه عن تقديم المساعدة بعد علمه بذلك يكون امتناعاً خطراً وجرمياً يسمح بقيام تلك النتائج الخطرة الجرمية. وإذا أمر الطبيب بنقل المجنى عليه الذي تعرض لحادث طريق إلى مستشفى عام بدلا من نقله إلى مستشفى تخصصي لعلاج الرضوض الجمجمية، فإن فعلة لا يكون الا غلطا بسيطا فى تقدير جهة المعالجة ولا يعد امتناعا إراديا عن تقديم المساعدة لــــــــــــــــــه (6). وأحيانا تدق المسألة وتصبح أكثر تعقيدا إذا كان الفاعل يعلم أن فعله ذو طبيعة معينة وخطورة خاصة ثم يأتي فعله على الرغم من ذلك معتقدا أن سلوكه لن يؤدى إلى المساس بسلامة الجسم المجني عليه 0 ومثال ذلك محاولة أحد الدراويش معالجة أحد المرضى مستعملا معه (الدرباشة)ـ وهي آلة حديدية قضيبية حادة ومدببة الرأس إذ اخذ الدراويش المتهم (( يمارس معه أعمال الشعوذة والضرب بالعصى وبآلة قاطعة وبالشيش، مما أدى إلى إصابته-أي الضحية- بعدة جروح في أنحاء مختلفة من جسمه قضت على حياته))، وقد جاء في مسوغات القرار أنه: ((لدى عطف النظر على التكييف القانوني لفعل المتهم هذا وجد أن قصده من ضرب المجنى عليه شفاؤه من المرض العقلي الذي أصابه حسب اعتقاده وعليه تعد نيّة الاعتداء عمدا غير متحققة في فعله هذا، وإنما المتهم بأفعاله هذه قد تسبب من غير عمد في مقتل المجني عليه نتيجة لعدم مراعاته القوانين والأنظمة والأوامر التي تمنع من هم بشاكلة المتهم من ممارسة مهنة الطب. لذا فإن فعل المتهم ينطبق وأحكام الفقرة الأولى من المادة411عقوبات فقرر أدانته وفقها… )) (7).
__________________
1- د. محمود نجيب حسني-شرح قانون العقوبات/القسم العام-ط5-مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي-1982 ص 564. د. علي عبد القادر القهوجي-قانون العقوبات/القسم العام-الدار الجامعية-2000ص399 -. د. علي حسن الشرفي-شرح قانون الجرائم والعقوبات اليمني/القسم العام-ج/1 النظرية العامة للجريمة-ط3-1997– ص354. د. محمد سامي النبراوي – شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات الليبي – ط/2 – منشورات جامعة فاريوس / بنغازي – 1987 – ص 173. د. محمد فوزان محمد – القصد الجنائي في جريمة الضرب المفضي الى الموت – رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون / جامعة بغداد – مايس 1977 – ص60 ومابعدها. ويُنظر كذلك :
Carcon.E-Code penal annote،n.ed-Roasselet – pantin- Ancel-Paris – 1952 – art 379 – p.359.
2- د. فخري عبد الرزاق الحديثي-شرح قانون العقوبات/القسم الخاص-مطبعة أوفيست الزمان-بغداد-1992– ص277. د. نظام توفيق المجالي-شرح قانون العقوبات/القسم العام-مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع-عمان/الأردن-1997– ص 415. د. محمد صبحي نجم ود.عبد الرحمن توفيق-الجرائم الواقعة على الاشخاص والأموال في قانون العقوبات الأردني-مطبعة التوفيق-عمان/الأردن-1987– ص 260 و ص 291 ومابعدها. د. علي حسن الشرفي-شرح قانون الجرائم والعقوبات اليمني/القسم العام-ج/1 النظرية العامة للجريمة-ط3-1997– ص354. د. محمد علي السالم عياد الحلبي-شرح قانون العقوبات/القسم العام-مكتبة دار الثقافة والنشر والتوزيع-عمان/الأردن-1997– ص331 ومابعدها. د. محمد زكي أبو عامر – قانون العقوبات القسم الخاص – ص470. د. عبود السراج-قانون العقوبات/القسم العام-مطابع جامعة دمشق-سورية-2002– ص221.
3- د. فخري عبد الرزاق الحديثي–شرح قانون العقوبات القسم الخاص–مطبعة الزمان/بغداد–1996–ص303
4- قرار رقم/3748 في 26/7/1973. النشرة القضائية – العدد الثالث – السنة الرابعة – ص368 نقلاً عن– ص285.
5- د 0 عبود السراج ـ المصدر السابق ـ ص 303 وما بعدها 0 وتنظر المادة / 223 عقوبات سوري 0
6- د0 إسامة عبد الله قايد ـ المسؤولية الجنائية للأطباء – ط /2 ـ دار النهضة العربية / القاهرة ـ 1990 ـ ص 281 ـ 284
7- قرار محكمة الجزاء الكبرى لمحافظة ديالى في بعقوبة رقم 85 / ج / 75 في 10 /8 / 1975 0 علما إن محكمة التمييز في العراق نقضت قرار محكمة الموضـــــــــوع بقرارها المرقم 2109 / جنايات /75 في 22/ 12 / 1975، حيث طلبت إدانة المتهم عن جريمة الضرب المفضي إلى الموت لا عن جريمة القتل الخطأ 0 فذهبت محكمة الموضوع بقرارها المرقم 85 /ج /75 في 11 / 8 / 1976 إلى إدانة المتهم عن جريمة الضرب المفضي إلى موت، وتم تصديق الحكم في القرار ألتمييزي المرقم 1389 / جنايات / 1976 0 نقلا عن محمد فوزان محمد-القصد الجنائي في جريمة الضرب المفضي الى الموت-رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون في جامعة بغداد-مايس 1977ـ ص 66 وما بعدها
المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً