يقصد بالتشريع مجموعة القواعد القانونية التي يصدرها المشرع الوطني في الدولة، والتي يلتزم بها القاضي عند نظره في النزاع المعروض امامه(1). ويعد التشريع في الوقت الحاضر اهم مصدر تستقى منه احكام سائر القوانين في كافة الدول ، بما في ذلك القانون الدولي الخاص(2). ويصبح التشريع مصدراً مهماً من مصادر المعاملة بالمثل في مجال مركز الاجانب، متى ما التزمت الدولة بإرادتها المنفردة بتبني مبدأ المعاملة بالمثل ، عن طريق ذكر هذا الالتزام في تشريعها ، بنص في الدستور(*) او قوانينها الخاصة(3). وتسمى المعاملة بالمثل في هذه الحالة بـ (المعاملة التشريعية بالمثل Legislative Reciprocity) وبناءً على ما تقدم ، يعُد التشريع مصدراً من مصادر المعاملة بالمثل ، متى ما اشترط لتمتع الاجنبي بحق معين في الدولة ، ان يكون لمواطني تلك الدولة عند معاملتهم كأجانب في بلد ذلك الاجنبي ، حق التمتع بالحقوق نفسها “ بموجب تشريع ذلك البلد “(4). بتعبير اخر ، ان الدولة لا تمنح الاجنبي المقيم في اقليمها حقوقاً الا بنفس القدر الذي يتمتع بها رعاياها لدى الدولة التي ينتسب اليها هذا الاجنبي بموجب نص صريح في تشريع الدولة الاخيرة(5).
فلا يكفي وفقاً لهذه الصورة ان تكون المعاملة بالمثل مدرجاً في معاهدة او اتفاقية دولية(6) او ان تكون الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي تكفل للأجانب فيها من حيث الواقع ، التمتع بالحق ايضاً ، بل يجب ان يستفاد ذلك من تشريع تلك الدولة(7). وتتميز المعاملة التشريعية بالمثل في مجال مركز الاجانب بسهولة اثباتها اسوة بالمعاملة الدبلوماسية بالمثل وخلافاً للمعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل. فبمجرد الرجوع الى تشريع الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي ، فأنه يمكن التوثق من ان الاجانب الموجودين في اقليمها يتمتعون بالحق محل المعاملة بالمثل من عدمه(8). الا انه ومع ذلك ، فأن من المحتمل ان تثور الصعوبة في تطبيق هذه الصورة للمعاملة بالمثل ، فيما يخص بمواكبة التطورات التشريعية في قوانين الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي(9). ويرى البعض(10) ان المعاملة التشريعية بالمثل تعد اكثر انواع المعاملة بالمثل “مرونة ” ، لكونها لا تستلزم لتمتع الاجنبي بحق معين في دولة ما ان يكون هذا الحق مقرراً لرعاياها في الدولة التي يتبعها الاجنبي بموجب معاهدة دولية ، وانما يكفي ان يكون هذا الحق مقرراً لرعاياها في التشريعات الداخلية لتلك الدولة ، كما انها تعّد اكثر انواع المعاملة بالمثل ” ضماناً ” ، لأن وجود نص في تشريع الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي يكفل تمتع رعايا الدولة بالحق في تلك الدولة . الا اننا لا نتفق مع هذا الرأي ، اما فيما يتعلق بكون المعاملة التشريعية بالمثل “اكثر انواع المعاملة بالمثل مرونةً ” ، فصحيح ان المعاملة التشريعية بالمثل تتميز بالمرونة قياساً الى المعاملة الدبلوماسية بالمثل من حيث انه يكفي ان يكون الحق معترفاً به للأجنبي في تشريعات الدولة الاجنبية .
ومع ذلك فأن مسألة الرجوع الى جميع التشريعات للدول الاجنبية للتأكد من ان الاجانب يتمتعون بحق او حقوق معينة من عدمه ، ليس بالامر السهل ! وخاصة عندما يواجه مشكلة ملاحقة التطورات التشريعية في قوانين الدول الاجنبية ، ومن جهة ثانية ، فأنه ليس بالامر الدقيق ، ان نصف المعاملة التشريعية بالمثل بكونها ” اكثر انواع المعاملة بالمثل ضماناً ” ! لانه قد يكون الحق معترفاً به للأجنبي في الدولة بمقتضى ” نص تشريعي” في قوانينها ، ورغم ذلك قد يكون هذا النص التشريعي عاطلاً عن التنفيذ بمقتضى قيد خاص ! إذ إن من المتفق عليه ، ان المعاملة التشريعية بالمثل لا تكفي لأعمال مبدأ المعاملة بالمثل ، اذا ما ثبت ان التشريع في إحدى الدولتين عاطل عن التنفيذ(11). ورغم ما تقدم ، فأنه هناك ما يعيب المعاملة التشريعية بالمثل في مجال مركز الاجانب ، الا وهي مشكلة المبادرة(12) . حيث ان اشتراط المعاملة التشريعية بالمثل لتمتع الاجنبي بحق معين في الدولة ، يؤدي في بعض الاحيان ، جعل كل قانون معلق على القانون الاخر ، بمعنى ان كل دولة تنتظر من الاخرى المبادرة بمنح الحق لرعاياها في اقليمها لكي تقوم هي الاخرى بمنح ذات الحق استناداً الى مبدأ المعاملة التشريعية بالمثل ، وليس ببعيد ان يمتنع قانون احدى الدولتين عن تقديم المعاملة وبالتالي الى امتناع القانون الاخر ايضاً بتقديم المعاملة، وهكذا يؤدي الامر الى تعطيل المعاملة التشريعية بالمثل ، وبالتالي تعطيل التمتع بالحق محل المعاملة التشريعية بالمثل(13). وبهذا التقدير ، يكون قانون كل دولة موقوف على مشيئة او رغبة قوانين الدول الاخرى هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، فأن الصعوبة تثور حول مدى امكانية الاخذ بالمعاملة التشريعية بالمثل في الدول التي لا تأخذ بنظام التشريع المكتوب ، بسبب قيام نظامها القانوني على اساس العرف او السوابق القضائية ، كما هو الحال في بعض الدول الانجلوأمريكية ، مثل انكلترا . أختلف الفقه في هذا الصدد ، فبينما يرى البعض(14):
“ ان مجال اعمال المعاملة التشريعية بالمثل في الدول التي يسود فيها القانون العرفي بصفة اساسية ، ينحصر بالضرورة في نطاق ضيق ” . يذهب البعض الاخر(15). الى ان المعاملة التشريعية بالمثل تكون متحققة حتى مع الدول التي يقوم نظامها القانوني على اساس العرف او السوابق القضائية ، لأن الاخذ في هذا الصدد ، بالقانون الاجنبي على اساس فهمه بأنه “ التشريع المكتوب ” انما يبدو متعارضاً مع الاتجاه العام في القانون الدولي الخاص لمفهوم القانون الاجنبي ، الذي ينصرف الى القاعدة القانونية الاجنبية أياً كان مصدرها ، تشريعاً او عرفاً او قراراً إدارياً . الا اننا نعتقد ، بل ونتفق مع البعض(16) ايضاً ، بأن الرأي الاخير هذا ، قد جانب الصواب ، لان “ المعاملة بالمثل تقتضي إقرار الحقوق للأجانب في التشريع وليس غيرها من مصادر القانون الاخرى ، وإلا دخلت في صورة اخرى للمعاملة بالمثل ، فإذا اقرتها معاهدة فتعّد معاملة دبلوماسية بالمثل ، واذا وردت في العرف او غيره من التطبيقات القضائية عدت معاملة فعلية او واقعية بالمثل ” .
بناءً على ما تقدم ، اذا ما اشترطت دولة ما ، المعاملة التشريعية بالمثل ، كشرط لمنح الحقوق للأجنبي ، وكانت الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي تمنح ذات الحقوق للأجانب في اقليمها ، ولكن ليس بمقتضى (نص في التشريع) بل على اساس العرف الجاري فيها ، فلا تعّد المعاملة التشريعية بالمثل متحققة في هذه الحالة لانتفاء عناصرها(17). أما بالنسبة لموقف القوانين من المعاملة التشريعية بالمثل في مجال مركز الاجانب ، فنلاحظ ان كلاً من القانون العراقي والمصري والاردني ، قد تبنوا المعاملة التشريعية بالمثل ، في مواضع مختلفة من قوانينها . فالقانون العراقي ، على سبيل المثال ، اشترط تبنيه لمبدأ المعاملة التشريعية بالمثل، كأحد شروط استحقاق الوارث الاجنبي لحصته الارثية التي آلت اليه من المورث العراقي الجنسية ، فقد نصت المادة (22) من القانون المدني العراقي في فقرتها الاولى على انه : (اختلاف الجنسية غير مانع من الارث في الاموال المنقولة والعقارات ، غير ان العراقي لا يرثه من الاجانب الا من كان قانون دولته يورث العراقي منه)(18). فيجب بذلك على القاضي عند تعرفه على الورثة الذين يشير اليهم قانون المورث ، ان يتأكد من تحقق شرط المعاملة التشريعية بالمثل وذلك بالتحقق من الاحكام التي يتضمنها قانون كل وارث ، وما تمنحه هذه الاحكام للوارث العراقي من حقوق(19). اما القانون المصري ، فأنه اخذ أيضاً بالمعاملة التشريعية بالمثل ، وذلك على غرار القانون العراقي ، فيما يتعلق بحق الأجنبي بالميراث والوصية في مصر ، حيث نصت المادة (6) من قانون المواريث المصري رقم 77 لسنة 1943 ، على انه : (لا توارث بين مسلم وغير مسلم ، ويتوارث غير المصريين بعضهم من بعض ، واختلاف الدارين لا يمنع من الارث بين المسلمين ولا يمنع بين غير المسلمين الا اذا كانت شريعة الدار الاجنبية تمنع من توريث الاجنبي عنها) .
وبالنسبة للوصية ، نصت المادة (9) من قانون الوصية المصري رقم 71 لسنة 1946 ، على المعاملة بالمثل ، بقولها : (تصح الوصية مع اختلاف الدين والملة ، وتصح مع اختلاف الدارين ما لم يكن الموصي تابعاً لبلد إسلامي ، والموصى لهُ غير مسلم تابع لبلد غير اسلامي تمنع شريعته من الوصية لمثل الموصي ) . كذلك فأن المشرع المصري ، تبنى المعاملة التشريعية بالمثل ، وذلك بوصفها قيداً على السماح للأجانب بمزاولة المهن الطبية في مصر . فقد علق المشرع المصري إجازة الاجنبي لمزاولة مهنة الطب في مصر وفق قانون مهنة الطب المصري رقم 415 لسنة 1954 ، على حالة ما اذا كانت قوانين دولته تسمح لرعايا جمهورية مصر العربية بمزاولة هذه المهنة بها(20). وكذلك فعل الشيء ذاته بالنسبة لمزاولة الاجانب لمهن الصيدلة وطب الاسنان والطب البيطري ، اذ لم يُجز المشرع المصري للأجانب بمزاولة هذه المهن الا اذا كانوا تابعين الى دول تسمح تشريعاتها لرعايا جمهورية مصر العربية بمزاولة هذه المهن بها(21). أما بالنسبة للقانون الاردني ، فأن المشرع الاردني نص بدوره أيضاً على تبني مبدأ المعاملة التشريعية بالمثل ، وذلك بوصفها احد الشروط التي يتطلبها القانون الاردني ، للسماح للأجانب بأمتلاك او استئجار الاموال غير المنقولة في المملكة ، وقد نصت على ذلك ، الفقرة الاولى من المادة (6) من قانون المقاطعة الاقتصادية وحظر التعامل مع العدو رقم 11 لسنة 1995 الاردني ، على انه : (لا يجوز السماح لأي شخص أجنبي طبيعي او معنوي لا يحمل جنسية إحدى الدول العربية ان يشتري او يستأجر او يمتلك بشكل مباشر او غير مباشر أية أموال غير منقولة في المملكة الا بتوافر الشروط التالية : 1-ان لا تحظر تشريعات او ممارسات الدولة او الدول التي يحمل طالب التملك او الاستئجار جنسيتها ، تملك الاردنيين او استئجارهم للأموال غير المنقولة ، وان لا تكون هناك عوائق عملية تحول دون تمتع الاردنيين لهذه الحقوق .) أما بالنسبة لموقف المشرع الفرنسي من مبدأ المعاملة التشريعية بالمثل في مجال مركز الاجانب ، فأنه لا يأخذ بها كشرط لتمكين الاجنبي من التمتع بالحقوق في فرنسا ، لان القانون الفرنسي وكما رأينا ذلك ، قد تبنى المعاملة الدبلوماسية بالمثل ، كشرط عام لتمتع الاجانب بجميع الحقوق الخاصة في فرنسا ، وذلك بمقتضى المادة (11) من القانون المدني الفرنسي .
___________________
1- د. جابر ابراهيم الراوي ، مبادئ القانون الدولي الخاص في الموطن ومركز الاجانب واحكامها في القانون العراقي ، ط2 ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1976 ، ص23.
2- د. غالب علي الداوودي ود. حسن الهداوي ، مصدر سابق ، ص18.
*- مثال على ذلك الدستور البولندي لعام 1922 ، المادة (95/2) الذي كان ينص على ان الاجانب سوف يتمتعون على اساس المعاملة بالمثل ، المساواة في الحقوق الخاصة بالوطنين . ما لم ينص القانون صراحة حصر هذا بالوطنيين فقط . نقلاً عن د. ممدوح عبد الكريم حافظ ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ، مصدر سابق ، ص207.
3- د. ممدوح عبد الكريم حافظ ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ، المصدر السابق، ص207.
4- د. احمد مسلم ، موجز القانون الدولي الخاص المقارن ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1966 ، ص117.
5- د. بدر الدين عبد المنعم شوقي ، مصدر سابق ، ص283.
6- د. عوض الله شيبه الحمد سيد ، الوجيز في القانون الدولي الخاص ، ط2 ، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997 ، ص225.
7- د. شمس الدين الوكيل ، مصدر سابق ، ص351 . وفي نفس المعنى انظر : د. هشام علي صادق ، الجنسية والموطن ومركز الاجانب ، مصدر سابق ، ص176 .
8- د. هشام علي صادق ، المصدر السابق ، ص176 .
9- د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص70.
10- د. محمد كمال فهمي ، أصول القانون الدولي الخاص ، ط2 ، دار الثقافة الجامعية ، 1982 ، ص279.
11- انظر : د. عز الدين عبد الله ، تنفيذ الاحكام الاجنبية في الجمهورية العربية المتحدة ، المجلة المصرية للقانون الدولي ، المجلد الخامس والعشرون ، مطبعة نصر ، الاسكندرية ، 1969 ، ص271 .
2[1]- د. ممدوح عبد الكريم حافظ ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ، مصدر سابق ، ص208 .
13- نفس المصدر ، ص208.
14- د. هشام علي صادق ، الجنسية والموطن ومركز الاجانب ، مصدر سابق ، ص177.
5[1]- د. احمد قسمت الجداوي ، نقلاً عن الدكتور ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص71 .
6[1]- د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص71 .
7[1]- د. ابراهيم احمد ابراهيم ، المصدر السابق ، ص72 .
8[1]- وبنفس هذا الاتجاه اخذ القانون السوري ، راجع : د. فؤاد شباط ، مصدر سابق ، ص185 وما بعدها . وكذلك القانون اللبناني ، راجع : د. سامي بديع منصور ود. عكاشة محمد عبد العال ، القانون الدولي الخاص ، الدار الجامعية ، بيروت ، 1995 ، ص292 .
9[1]- د. عبد الواحد كرم ، الاحوال الشخصية في القانون الدولي الخاص العراقي ، ط1 ، مطبعة المعارف ، بغداد، 1979 ، ص55.
20- د. فؤاد عبد المنعم رياض ، الوجيز في الجنسية ومركز الاجانب ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1987 ، ص303 .
[1]2- راجع : د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص160 .
المؤلف : مراد صائب محمود البياتي
الكتاب أو المصدر : مبدأ المعاملة بالمثل في مجال المركز القانوني للأجانب
الجزء والصفحة : ص36-43
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً