الأصل أن يكون القضاء مجانياً ، إذ ظل القضاء هكذا مدة طويلة إلى الوقت الذي بدأ فيه القضاة يفرضون رسوماً لمصلحتهم ، ثم أصبح اقتضاء الرسوم من الدولة التي حلت محل القضاة(1). ومن ثمّ فإن القضاة أصبحوا لا يأخذون أجراً من الخصوم عن الفصل في منازعاتهم وإنما يقومون بهذه الأعمال مقابل ما يحصلون عليه من مرتبات تدفعها الدولة من خزينتها شأن سائر الموظفين(2). ففي القانون الفرنسي القديم كان القضاة يتقاضون الهدايا والأتاوات من الخصوم ، وهو مصدر دخلهم الرئيس ، بعد أن جاءت الثورة الفرنسة تم إلغاء هذا النظام وأصبح القضاة يعتمدون في مصدر دخلهم على النظام الحديث الذي بمقتضاه يتم دفع الرسوم من الخصوم في خزانة الدولة ، وتدفع الأخيرة للقضاة مرتبات ثابتة(3).
وهذا يعني أن المتقاضين يلزمون بدفع رسومٍ معينة مقابل التجائهم إلى القضاء وأن المدعي ابتداءً هو الذي يدفع هذه الرسوم عند رفع الدعوى ويتحملها الخصم الذي يخسر الدعوى . ويناقش بعض الشراح مسألة ضرورة جعل القضاء بغير مقابل ذلك ان من أهم وأسمى وظائف الدولة هي إقامة العدل بين الناس ، وإن الخصم حتى لو فشل في إثبات دعواه فإن ذلك لا يُعد دليلاً على خطئه بحيث يستلزم مسؤوليته فقد يكون حسن النية في منازعته ، غير أن الملاحظ أن أي دولة من الدول لم تأخذ بنظام الإعفاء من الرسوم القضائية(4). لأنه يؤدي على وفق رأيهم إلى كثرة المنازعات ولاسيما الكيدية منها ، إضافة إلى ذلك فإن من يجب أن يتحمل مصاريف الدعوى ، هو من صدر الحكم عليه فيها لا مجموع الأمة(5).
وتحرص معظم الدول على منح القضاء مرتبات مجزية بحيث تكفل حياة كريمة لهم وتبعدهم عن عوامل الإغراء ، ففي مصر نجد أن القضاة يتمتعون بوضع مالي متميز من الموظفين الآخرين في الدولة(6). وليس في الحكومة الإنكليزية وظيفة تعادل في مركزها ومرتبها مركز القاضي ، فنجد أن القاضي في المحكمة العليا أحيط مركزه بالضمانات اللازمة التي تكفل له الاستقلال التام ، إذ إن مرتبه ثابت يماثل مرتب رئيس الوزراء ، أما قاضي محكمة مديرية أو قاضٍ جزئي فكلاهما يتم تعيينهما بمرتب ثابت يماثل مرتب وكيل وزارة(7). ويؤكد هنا أن قلة مرتبات القضاة وعدم كفاية ضمانات استقلالهم يحولان دون الدخول في القضاء من الكفايات العالية وذوي التجارب العميقة من المحامين ، من هنا يتوجب أن تكون هناك موازنة بين خطورة منصب القضاء وعلو مكانته وعظم مسؤوليته وبين مرتبات القضاة بحيث تكون هذه المرتبات مغرية لهؤلاء الكفايات وذوي التجارب من رجال القانون على قبول منصب القضاء لرفده بالعناصر الجيدة وعلى الأمة أن لا تضن بالمال في سبيل تحقيق هذه الغاية السامية(8).
ويلاحظ أنه في الوقت الحاضر ، ليس هناك تلازم بين ما يدفع من رسوم من المتداعين وبين المرتبات التي تدفع للقضاة أو مقدارها ، ذلك أن ما يدفع من مرتبات القضاة يتم دفعه من خزينة الدولة بغض النظر عن ما يدفع من رسوم ومقدارها ، بمعنى أنه حتى لو قررت الدولة إلغاء الرسوم في المحاكم ، فإن ذلك لا يؤثر في رواتب القضاة ، التي تبقى ثابتة دون تأثر بالمعطيات المذكورة ، كما لاحظنا ذلك في دفع رواتب القضاة المسلمين من بيت مال المسلمين ، رغم أن القضاء مجاني فيها . لذلك نرى انه يتعين على الدول أن لا تعمد إلى زيادة رسوم المحاكم كلما زادت مقدار رواتب القضاة لأن الغاية من إلزام الخصوم بدفع الرسوم ، يجب أن تكون سد باب المنازعات الكيدية وكثرتها ، وليس تغطية نفقات وتكاليف التقاضي أمام المحاكم لأن نفقات مرفق العدالة يتعين على الدول أن تغطيه من خزاناتها ، كونه أهم مرفق حياتي إنساني وأن تعمل هذه الدول على إعطاء أعلى المرتبات إلى القضاة إضافة إلى الدعم المادي الآخر ، غير المرتب وتهيئة أفضل الخدمات لهم ، للقيام بواجباتهم المقدسة على أحسن ما يكون ، كما أنه ببساطة فإن الآثار المترتبة على الخلل في مرفق العدالة ليست فردية ، أي ليست بين المتخاصمين فحسب ، بل تتعداها لتنسحب على أمن واستقرار المجتمعات في الدول ، وهو ركن به يقوم نظامها .
_________________________
– د. محمد عبد الخالق ، النظام القضائي المدني ، ج1 ، ط1 ، دار النهضة العربية 1976 ، ص67 .
2- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص88 .
3- د. محمد عبد الخالق ، المصدر السابق ، ص67 .
4- هناك حالات تتم فيها المساعدة القضائية وذلك لتمكين محدودي الدخل من الدفاع عن حقوقهم والمطالبة بها أمام القضاء ، إذ برزت هذه الحالة في أرض الواقع ، ممّا استلزم معالجتها تشريعياً ، إذ أصبحت المساعدة القضائية تتخذ شكل الإعفاء من الرسوم القضائية في القرن التاسع عشر أو تكليف بعض المحامين أو تطوعهم بتقديم المساعدة إلى الفقراء مجاناً . بعد أن كانت تتخذ شكل تنظيمات مختلفة لمساعدة الفقراء على التقاضي في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة . وفي مصر ظلت المساعدة القضائية منذ بداية التنظيم القضائي الحديث تتخذ شكل الإعفاء من الرسوم حتى صدور قانون المحاماة الجديد عام 1968 الذي عالج مسألة عدم كفاية الإعفاء من الرسوم لبعض الخصوم محدودي الدخل الذين لا يستطيعون دفع أتعاب المحاماة ، فوضع نظاماً يكفل حصول الفقراء على الخدمات المجانية للمحامين . عن د. محمد عبد الخالق ، المصدر السابق ، ص67-68 . أما في العراق فلم يأخذ العراق بنظام المعونة القضائية بصورة متكاملة وأنه عالج هذه المسألة سابقاً من خلال مستويين : الأول قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 في المواد 293-298 والثاني في قانون المحاماة رقم 173 لسنة 1965 في المواد 66-73 . اما قانون الرسوم العدلية العراقي رقم 114 لسنة 1981 فقد أجاز المعونة القضائية لمن لا يستطيع من الأشخاص الطبيعية والمعنوية دفع الرسم للدعوى أو الطعن واشترط تقديم طلب بها ، مع ما يؤيد عدم الاستطاعة إلاّ أن هذه المعونة لا تشمل الإعفاء من الرسوم وإنما تأجيل استيفاء الرسم إلى نتيجة الدعوى أو الطعن ، ويستحصل من الطرف الذي خسر الدعوى . ويشترط لتقديم المعونة أن يثبت عجز الفقير عن دفعها كلها أو بعضها وأن تكون دعواه محتملة الكسب . عن عبد الرحمن العلام ، شرح قانون المرافعات المدنية ، بغداد 1990 ، ص549 و د. سعدون ناجي القشطيني ، شرح أحكام المرافعات ، ج1 ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1972 ، ص63 . د. سعيد مبارك و د. ادم رجب ، المصدر السابق ، ص 35-36 .
5- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص88 .
6- د. فتحي والي ، الوسيط ، ص163 .
7- توفيق الفكيكي ، المصدر السابق ، ص68 .
8- د. العشماوي ، المصدر السابق ، ص30 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً