مقال قانوني يشرح بعض صور الايجاب في عقد البيع
الإيجاب الموجه إلى الجمهور:
من الشائع حالياً أن يعلن منتجو السلع عن بضائعهم وسلعهم سواء بعرضها في واجهات محلاتهم مع كتابة أثمانها عليها، أو بالنشر عنها مع أثمانها في الجرائد والصحف أو في نشرات خاصة يرسلونها إلى عملائهم أو يوزعونها على أفراد الجمهور، أو عبر وسائل الإعلام لا سيما المرئية منها فيما أصبح يعرف بـ: “التسوق عبر شاشة التليفزيون”، أو “التجارة الإلكترونية” عبر شبكة الإنترنت.
عرض السلع في المتاجر:
عرض السلع في واجهات المحلات مع كتابة أثمانها عليها، لا نزاع في أنه يعتبر إيجاباً صريحاً لأن التاجر يتخذ بذلك موقفاً لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على أنه يقصد بيع هذه البضائع بالثمن المكتوب عليها (المادة 90 مدني فقرة أولى).
الإعلان عن السلع في الصحف أو في نشرات خاصة:
الإعلان عن السلع مع بيان أثمانها في الجرائد أو في نشرات توزع على الجمهور أو “كتالوجات”، يعتبر – في الغالب – إيجاباً صحيحاً صالحاً لأن يقترن به القبول. ولكن أيترتب على ذلك التزام التاجر بإجابة جميع الطلبات التي تقدم إليه بشأن السلع التي أعلن عنها؟
إن القول بذلك يقتضي أن يكون لدى التاجر قدر من هذه السلع لا ينفذ أو على الأقل يفي بجميع الطلبات، وهو أمر نادر الوقوع.
ولذلك يجب في تعيين مدى التزام التاجر في هذه الحالة النظر في العلاقة التعاقدية بينه وبين العملاء الذين يتقدمون إليه بطلباتهم وتفسيرها بحسب النية المشتركة للمتعاقدين مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات.
بيع السلع عبر شاشة التليفزيون:
بيع السلع بواسطة التسوق عبر شاشة التليفزيون يتم فيه عرض سلعة معينة (مع الدعاية التجارية لها)، وبيان مزاياها وتحديد أوصافها، والأسعار الجاري التعامل بها (بالإضافة إلى مصاريف الشحن)، وللمتلقي أن يتصل هاتفياً بأرقام التليفونات التي تظهر على الشاشة في عدة دول لإرسال الثمن، وتسلم المبيع عن طريق مندوب، وعادة ما يتم الإعلان عن أن هذه السلعة لا تُباع في الأسواق.
ويثور التساؤل حول طرح السلع بواسطة التليفزيون، هل يعتبر إيجاباً، أم دعوة إلى التعاقد أو إلى التفاوض قد تنتهي بدورها إلى صياغة محددة تعتبر إيجاباً ينعقد بها العقد إذا صادفه قبول أو قد لا تنتهي إلى هذه النتيجة.
وإذا ما اعتبر العرض إيجاباً بالبيع، صادفه قبول مطابق، فهل ينعقد العقد بين حاضرين أم بين غائبين، مع ما يترتب على ذلك من نتائج تمس القوة الملزمة للإيجاب بصفة خاصة.
طبقاً للقواعد العامة في القانون المدني، فإن العقد ينعقد بتوافق إرادتي المتعاقدين “الإيجاب والقبول” (المادة 89 مدني مصري).
والإيجاب عرض بات بنية الارتباط بالعقد إذا صادفه قبول مطابق. ويتعين أن يتضمن الإيجاب، العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه بحيث يتم التعاقد بمجرد أن يقترن به قبول مطابق. فالإيجاب بالبيع يجب أن يتضمن المبيع والثمن، فإذا حدد المبيع، والثمن، فلا يلزم بعد ذلك أن يشتمل الإيجاب على المسائل التفصيلية للعقد. حيث يمكن الرجوع بشأنها إلى القواعد المكملة لإرادة المتعاقدين، ومن ذلك مكان تسليم المبيع الثمن مثلاً.
فقد نص المشرع على أنه: “إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد، واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد، ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها، اعتبر العقد قد تم، وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها، فإن المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة” (المادة 95 مدني).
وهكذا، فإن المسائل الجوهرية يجب أن يتضمنها الإيجاب حتى ينعقد به العقد بقبول مطابق، أما المسائل التفصيلية فلا يشترط أن يتضمنها، ويلزم – مع ذلك – ألا يقوم بشأنها خلاف.
ولقد لوحظ عملاً أن العرض الذي يحمل في طياته ألفاظاً محددة بالبيع يعتبر إيجاباً – مع افتراض توافر العناصر الأخرى – ولا يؤثر في ذلك أن تذيل العرض عبارات من نوع “أن هذا العرض لا يعتبر عقداً إلا إذا طابقه قبول” أو عبارات “اقتراح بإيجاب، أو نداء بإيجاب” أو عبارات من نوع “دون أي تعهد من جانبنا” أو “أن هذا العرض لا يعتبر وثيقة تعاقدية”.
وبتطبيق القواعد العامة على بيع السلع بواسطة التليفزيون نجد أن العرض إذا تضمن جميع العناصر الأساسية للعقد من حيث تحديد المبيع والثمن فإنه يعتبر إيجاباً صالحاً لأن يقترن به قبول المتلقي.
فإذا لم يتضمن العرض هذه العناصر الأساسية فإنه لا يعدو أن يكون مجرد دعوة إلى التعاقد أو التفاوض، حيث يدعو مقدم البرنامج المشاهدين للدخول معه في مناقشات ومساومات قد تنتهي إلى صياغة عرض محدد يعتبر إيجاباً، أو قد لا تنتهي إلى هذه النتيجة. كأن يحدد العرض أوصاف السلعة ولكنه يترك السعر ليكون موضوعاً للمناقشة أو المساومة، وأرفق عرضه بتحديد لأرقام الهاتف ليقوم المشاهد بالاتصال فإن ذلك لا يعتبر إيجاباً، وإنما دعوة للتعاقد ويكون اتصال المتلقي هاتفياً إيجاباً ينعقد به العقد إذا لحقه قبول مطابق.
وفي البيع بالتليفزيون يمكن للبرنامج أن يعلن عن بيع كمية محدودة فيكون الإيجاب في هذه الحالة معلقاً على شرط “عدم نفاذ الكمية المعروضة”، فإذا نفذت السلعة سقط الإيجاب.
ومن التحفظات التي نشاهدها عادة في برامج عرض السلع بالتليفزيون أن هذا العرض يظل سارياً حتى مدة معينة، أو أن التخفيض على الأسعار يظل سارياً حتى نفاذ الكمية. وهي تحفظات عمومية لا تعدم الإيجاب. فالقاعدة أن الإيجاب الموجه للجمهور كالإيجاب الموجه لشخص محدد يلزم به صاحبه إذا كان جازماً يتضمن العناصر الجوهرية للعقد. وهو المبدأ الذي وضعته محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد، وسار على هديه القضاء في مصر.
أما إذا احتفظ مقدم البرنامج لنفسه بإمكانية تعديل العرض، أو حقه في رفض البيع دون تحديد الأسباب، فإن العرض لا يعدو كونه دعوة إلى التعاقد.
من حيث إنه قد انتهينا بأن عرض السلع أو الخدمات بطريق التليفزيون يعتبر إيجاباً بالبيع بافتراض شموله عناصر العقد الأساسية، فإن الإيجاب يظل ملزماً لصاحبه مدة معينة بحيث ينعقد العقد إذا لحقه قبول مطابق خلال هذه المدة. وهو ما يطلق عليه القوة الملزمة (la force obligatoire) للإيجاب، وهي مسألة تختلف في التعاقد بين حاضرين “في مجلس العقد” عنها في التعاقد بين غائبين “بيوع المسافات”.
وبيع السلع عن طريق التليفزيون لا يخرج عن كونه بيعاً بين حاضرين من حيث الزمان، ذلك أن البرنامج يعرض السلعة، مع بيان الثمن المحدد لها، ويطلب من المشاهد الاتصال به هاتفياً، وعندها ينعقد العقد بين حاضرين حيث لا توجد فترة زمنية بين صدور القبول، وعلم الموجب به. أما الرسالة التي يبعث بها المشاهد بعد ذلك إلى البرنامج مع المبلغ المحدد فهي لا تعدو أن تكون تنفيذاً لعقد سبق إبرامه. وبالتالي فإن عدم الوفاء بالمبلغ المحدد، أو التأخر في الدفع يدخل في نطاق قواعد تنفيذ العقد لا قواعد إبرام العقد، وشتان بين الجزاء في قواعد تنفيذ البيع وقواعد إبرامه. ففي الأولى يمكن للبرنامج أن يدفع بعدم التنفيذ أو يفسخ البيع مع المطالبة بالتعويض إن كان له مقتض، بينما يكون البطلان أو الإبطال هو الجزاء المترتب على مخالفة أحكام انعقاد العقد.
وهكذا فإن التعاقد بالتليفزيون لا يثير صعوبة تذكر إلا فيما يتعلق بتعيين مكان انعقاد العقد، إذ يأخذ في هذه الناحية حكم التعاقد بين الغائبين. وطبقاً للقواعد العامة فإن البيع بالتليفزيون، كالبيع بالتليفون، وما شابهه يكون قد تم في مكان الموجب، إذ فيه يحصل علم الموجب بالقبول ما لم يتفق على غير ذلك. وإذا افترضنا أننا بصدد إيجاب دولي عبر الحدود في تليفزيون يعرض للسلع أو الخدمات عن طريق الأقمار الصناعية (بالقنوات الفضائية) فإن تحديد مكان انعقاد العقد يصبح ضرورياً لتطبيق قواعد تنازع القوانين، حيث يخضع العقد من حيث الشكل إلى قانون البلد الذي أبرم فيه، ويخضع من حيث الموضوع لقانون هذا البلد إذا اختلف طرفاه موطناً ولم يتفقا على سريان قانون آخر عليه.
مع ملاحظة أنه إذا كان التسوق – في هذه الحالة – يتم عبر الفضائيات وعبر حدود أكثر من دولة، فإنه يمكن أن يدخل في نطاق تطبيق اتفاقية فيينا لعام 1980 الخاصة بالبيع الدولي للبضائع، إذا توافرت سائر شروطه.
أنظر في تفصيل ذلك: بحث بعنوان “حق المشتري في إعادة النظر في عقود البيع بواسطة التليفزيون – ماهية البيع بالتليفزيون – وكيفية انعقاد العقد – وحق المشتري في إعادة النظر، أحكامه وطبيعته القانونية” – للدكتور/ أحمد السعيد الزقرد – منشور في “مجلة الحقوق” مجلة فصلية محكمة تعنى بالدراسات القانونية والشرعية تصدر عن مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت – العدد الثالث – السنة التاسعة عشر – سبتمبر 1995 – صـ 179 وما بعدها.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً