حكم تولي المرأة لمنصب القضاء/ للدكتور منذر الفضل
من المعلوم ان لقواعد القانون الدولي ولنصوص الاتفاقيات الدولية التي توقع وتصادق عليها الدول علوية على القانون الوطني، فلا يجوز مخالفتها او خرقها لأنها تمثل قواعد اساسية للسلوك العام في المجتمع الدولي واذا خالف الدستور او القانون الوطني هذه القواعد فأنه يمكن الطعن بهذه الانتهاكات كما انها تكون موضعا للاستهجان في ظل المجتمع الدولي.وعلى سبيل المثال لا يجوز لدولة ما ان تنص في دستورها او قوانينها على التمييز بين البشر على اساس القومية او الدين او الجنس او المذهب او اللون في تولي المناصب السيادية او غير السيادية لأن هذا يتناقض مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومع قواعد القانون الدولي ومع نصوص الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.ولهذا فأن حكم التعارض هذا بين القانون الدولي والقانون الوطني اصبح من بديهيات علم القانون ،وعلى الدول ومؤسساتها ان تحترم ذلك والا عدت الدولة منتهكة للشرعة الدولية ولا ينطبق عليها وصف دولة القانون. وللاسف ما تزال هناك العديد من القوانين في دول عربية واسلامية مختلفة ومنها العراق ومصر والاردن ودول الخليج وغيرها من البلدان تتبنى وتكرس التفاوت وسياسة التمييز بين الرجل والمرأة في كثير من القضايا والحقوق ومنها موضوع الحماية الجنائية وقضايا الاحوال الشخصية والشهادة في المحاكم بل وحتى ان قوانينها العقابية تجيز تأديب الزوج للزوجة بضربها بحجة استعمال الحق..! (انظر مثلا نص المادة 41 فقرة من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل) لم يكن الدافع الرئيسي لكتابة هذا المقال هو تأكيد موقفنا السابق المعلن والمنشور في مناسبات متعددة من شجب حرمان المرأة من تولي منصب القضاء وانما لسبب اضافي اخر هو ما صدر عن الجمعية العمومية لمجلس الدولة المصري من قرار غريب منع بموجبه المرأة من تولي منصب القضاء والذي صدر يوم 15 شباط 2010 ،وقد اثار القرار ضجة كبيرة في الوسط المصري وغير المصري لما يمثله من تراجع خطير في ميدان حقوق الانسان في دولة لها مكانتها الثقافية والعلمية مثل مصر،وكذلك لتسليط الضوء على فتوى شيخ الازهر حول تولي المرأة لمنصب الرئاسة التي اثارت اعتراضات كثيرة بين اصحاب العقول المنغلقة من رجال الدين وغيرهم.ولهذا سنتناول هذا الموضوع على النحو الاتي:
1. وضع المرأة في الاعلان العالمي والاتفاقيات الدولية
حين اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة الاعلان العالمي لحقوق الانسان في عام 1948 ،اعتبر هذا الاعلان خطوة هامة نحو وضع اسس لوثيقة دولية لحقوق الانسان يكون لها قوة قانونية ملزمة وجانب معنوي ايضا بحيث تكون أي خرق لها يوجب المسؤولية بأعتبارها وثيقة دولية اقرها المجتمع الدولي بإرادته من اجل السلام ولا سلام بدون عدالة ومساواة بين البشر.ومن هنا جاءت المادة الاولى من هذه الوثيقة مؤكدة على ما يلي : (يولد جميع الناس احرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم ان يعامل بعضهم بعضا بروح الاخاء).كما اضافت المادة الثانية بكل وضوح ما يلي :(لكل انسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الاعلان دون تمييز كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي او أي رأي اخر او الاصل الوطني او الاجتماعي او الثروة او الميلاد او أي وضع اخر دون تفرقة بين الرجال والنساء)… يضاف ذلك الى اتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة (سيداو CEDAW لعام 1979 والتي دخلت حيز التنفيذ في 3 ايلول من عام 1981 نصت بصورة لا لبس فيها على منع التمييز ضد المرأة لأنه يشكل انتهاكا لمبدأي المساواة في الحقوق واحترام كرامة الانسان لا سيما ان المبادئ الاساسية للامم المتحدة تتضمن الايمان بالحقوق الاساسية للانسان وبالحقوق المتساوية للرجال والنساء على حد سواء.
2- موقف بعض الدساتير العربية نصت المادة 40 من دستور جمهورية مصر العربية لعام 1971 المعدل على ما يلي:(المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس او الاصل او اللغة او الدين او العقيدة) كما نصت المادة 14 من الدستور العراقي لعام 2005 على ذات المبدأ اذ جاء فيها ما يلي (العراقييون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي) والى هذا ذهب دستور المملكة الاردنية الهاشمية لعام 1952 المعدل ايضا في المادة 6 الفقرة 1. وهذه الاسس كلها تنسجم مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومع قواعد حقوق الانسان في الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية سيداو وبالتالي فأن أي قرار او فتوى في حرمان المرأة من تولي منصب رئاسي او منصب القضاء هو مخالفة دولية وقانونية وشرعية كما لم يثبت علميا ان كفاءة الرجل افضل من كفاءة المرأة. لذلك فأن أي تميز بين المواطنين بسبب الاصل او الجنس او اللون او القومية او اللغة باطل ولا يمكن القبول به كما ان أي قانون او قرار يصدر مخالفا للدستور يعد باطلا ايضا لان للدستور علوية على القانون وللقانون علوية على القرار وفقا لمبدأ التدرج التشريعي المعروف ومن هنا فأن قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة في مصر بحرمان المرأة من تولي منصب القضاء هو قرار باطل لمخالفته لنص الدستور المصري. وبهذه المناسبة طالب شيخ الازهر المرحوم الدكتور محمد سيد طنطاوي بإصدار فتوى رسمية تجيز تولي المرأة منصب الرئاسة في الدول الاسلامية مما اثار ازمة داخل مجمع البحوث الاسلامية وقد وافقه في الرأي الدكتور علي جمعة، غير ان هذه الدعوة واجهت – مع الاسف – معارضة من اخرين. ومن المعارضين لها الدكتور عبدالفتاح الشيخ رئيس جامعة الازهر سابقا والدكتور عبدالغني محمود ،وهي معارضة مبنية على اسس قديمة لا تصلح للعصر الحديث.
3- موقف الفقه الاسلامي
ابتداء نقول بكل وضوح لا يوجد نص صريح وقطعي في القران والسنة النبوية يمنع المرأة من تولي منصب القضاء او أي منصب سيادي او غير سيادي واذا كان لا يوجد نص صحيح قطعي الثبوت والدلالة يمنع المرأة من تولي القضاء فنرجع الى الاصل وهو الجواز والاباحة ومن هنا جاءت اراء فقهاء المسلمين مختلفة ومتباينة في هذا الامر فتعددت الاراء والاجتهادات وتباينت التفسيرات وصارت قضية خلافية.ولما كان الامر كذلك فأن قواعد العدل والعدالة والمصلحة توجب ان لا تحرم المرأة من أي منصب كان، فضلا عن عدم جواز التمييز بسبب الجنس، لان هذا يهدر من انسانية المرأة ويخالف القواعد الانسانية التي توجب المساواة بين البشر لا سيما وان الحجج التي ساقها المعارضون لتولي المرأة لمنصب سيادي مثل رئاسة مجلس النواب او رئاسة الوزراء او غيرها او لمنصب القضاء تقوم على وجهة نظر او تفسير شخصي وهو ليس بملزم ولا يعد دستورا توجب طاعته وتنفيذه. فالاجتهاد يقابله اجتهاد اخر وبحجج اقوى وادل ، كما ان للتفسير قواعد واصول لا مجال للدخول بتفاصيلها هنا. وسنتعرض لبعض مواقف الفقهاء المسلمين من موضوع تولي المرأة للقضاء وللحكم قبل مئات السنين مستذكرين القاعدة التي تقضي بأنه (لا ينكر تغير الاحكام بتغير الازمان)فالحياة في تطور وليس في تراجع والمصلحة العامة تقضي بتجديد الافكار والاراء حتى في ميدان الفقه الاسلامي . لم يتفق فقهاء الشريعة الاسلامية على موقف واحد من شرط الذكورة لتولي منصب القضاء فمنهم من اوجب ذلك ومنهم من لم يشترط هذا الشرط , لان اهلية منصب القضاء جائزة للرجل وللمرأة معا وان كلا منهما هو مؤهل للجلوس والفصل في المنازعات بين الناس . الموقف المتشدد وهو موقف اغلب فقهاء الشيعة والحنابلة والشافعية والامام زفر بن الهذيل من تلامذة ابي حنيفة وجمهور المالكية الذين يرفضون بصورة مطلقة تولي المرأة لمنصب القضاء في جميع القضايا بحجة ان الحكم لا يكتمل الا اذا توافرت اربعة شروط وهي : ( البلوغ والعقل وان يكون من الذكور وشخصاً حراً ) ونعتقد بأن هذا الرأي لا يصلح للعصر الحديث ولا ينسجم مع تطور الحياة ويتناقض مع المعايير الدولية في هذا الزمان وهنا نشير الى قضية حصلت في العراق عام 2005 حيث رفض السيد علي السيستاني تولي السيدة نضال جريو منصب القضاء في مدينة النجف بموجب فتوى اطلعت عليها شخصياً , بينما صارت السيدة المذكورة بعد ذلك عضواً في الجمعية الوطنية العراقية وهو منصب اخطر من منصب القضاء .
الموقف الوسط وهو رأي المذهب الحنفي ويرى بجواز تولي المراة منصب القضاء فيما عدا في قضايا الحدود والقصاص . وهو ايضا في اعتقادنا – يتعارض مع مبدأ العدل والعدالة بين البشر .
الموقف المطلق وهو رأي مذهب الظاهرية الذي يرى بأن المرأة مثل الرجل ولا يجوز ان يقتصر منصب القضاء على الذكور فقط وانما للمرأة الحق الكامل في تولي هذا المنصب ايضاً . وهذا المذهب يعد من المذاهب المندرسة التي تنسب الى داوود الظاهري الذي ولد عام 200 هجرية ومات عام 270 هجرية . الا ان ظهور الفقيه ابن حزم الاندلسي عام 456 هجرية يعد احياء جديداً لهذا المذهب حين الف كتاباً بعنوان ( المحلي) , وقد اجاز ابن حزم تولي المرأة للقضاء ويؤيده في هذا الموقف ابن جرير الطبري الذي يرى بجواز ان تكون المرأة حاكماً في كل شيء بشكل مطلق ودون قيود . وتقوم حجتهم على ان الاصل في الاشياء الاباحة ولم يرد دليل صريح بالمنع , وهذا الموقف ينسجم مع دليل العقل ويمثل موقفاً صائباً ومتجدداً .
ونحن نعتقد بوجوب تجديد الفقه الاسلامي وتقع هذه المهمة على كاهل فقهاء الشريعة الاسلامية وضرورة جعل المباديء والاسس الواردة فيه تنسجم مع قضايا العصر لكي لا تكون هناك ثغرة ينفذ من خلالها المتشددون من المتطرفين او المتعصبين . كما نعتقد بوجوب فصل الدين عن السياسة حيث لا يجوز لرجل الدين ممارسة الدور السياسي تحت عباءة الدين ولا يجوز ايضا اقحام الدين في تشريع القوانين الوضعية .
ففي العراق مثلا فان جميع القوانين الوضعية النافذة لا علاقة لها بالشريعة الاسلامية وبالفقه الاسلامي عدا قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل وبعض نصوص القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 الذي صار نافذ المفعول عام 1953 ولا يوجد في النظام القانوني العراقي والمصري ما يمنع من تولي المرأة للقضاء وللمناصب أياً كانت .
4- موقف الفقه القانوني
من المصادر التفسيرية للقانون في كثير من الانظمة القانونية هو رأي الفقه , لا بل ان اراء فقهاء القانون كانت من المصادر الرسمية في القوانين القديمة , والفقه في النظام القانوني المصري والعراقي وغيرها من الانظمة القانونية يشكل مصدراً تفسيرياً مهماً ولا يمكن الاستغناء عنه فكثيراً ما تستند المحاكم في احكامها على اراء فقهاء القانون . ومن اهم فقهاء القانون المعروفين في البلاد العربية وغيرها المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري . وبقدر تعلق الامر بموضوع بطلان أي قرار يمنع المرأة من منصب سيادي ومنصب القضاء فقد اصدر المرحوم السنهوري حكماً تاريخياً حين كان مستشاراً في مجلس الدولة المصري نص على عدم وجود مانع في الشريعة الاسلامية من تولي المراة للمناصب ومنها منصب القضاء.
ومما يعزز هذا المنحى هو قرار المجلس الاعلى للهيئات القضائية في مصر الصادر عام 2002 الذي فتح باب التعيين للمرأة في سلك القضاء . ان الاحتجاجات الكبيرة في مصر ضد قرار الجمعية العامة لمجلس الدولة المصري الذي صدر في 15 شباط 2010 والذي منع المرأة من تولي منصب القضاء ترك اثراً كبيراً في الرأي العام .ولهذا حسناً فعل المستشار محمد الحسيني رئيس المجلس حين اصدر قرارا بتعيين قاضيات , رافضا بذلك قرار الجمعية العامة مستندا على ان توصية هذه الجمعية بمنع تعيين المرأة قاضية غير ملزم لرئيس المجلس وبأن قرار التعيين هو قرار وظيفي من حق رئيس المجلس وحده ويقع ضمن سلطته القانونية , وقال ايضا انه ليس هناك ما يمنع من تعيين المرأة قاضية , لا شرعاً ولا قانوناً , فضلاً عن انه انتهاك لنص المادة 40 من الدستور المصري . وهو موقف سليم نال استحسان الراي العام ايضاً .
استنادا الى ما تقدم فاننا نعتقد ببطلان سياسة التمييز ضد المراة في تولي أي منصب , سيادي او غير سيادي , وبخاصة منصب القضاء , لانه لا يوجد دليل شرعي يمنع ذلك ولان هذا التمييز ينتهك حقوق الانسان المنصوص عليها في الاعلان العالمي وفي الاتفاقيات الدولية ويخالف الدستور في كثير من البلدان ومنها العراق ومصر والاردن ودول اخرى وغيرها . وما تزال المرأة محرومة من كثير من حقوقها في العراق ومصر ودول عربية واسلامية اخرى كثيرة من تولي المناصب السيادية ومحرومة ايضا من تولي منصب قاضية في نطاق محاكم الاستئناف ومحكمة التمييز والمحكمة الاتحادية بينما توجب قواعد العدل عدم التمييز في شغل الوظائف لاي سبب كان واعتماد الكفاءة واحترام الدستور والقواعد الدولية والانسانية ذات الصلة .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً