مبدأ صمت المتهم في مرحلة التحقيق بين النص القانوني والتطبيق القضائي
للقاضي ناصر عمران الموسوي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
من الضمانات المهمة التي دأب التوجه القانوني والقضائي على تحقيقها هي الحرية الواسعة للمتهم، وهو يواجه التهمه المُسندة إليه، بغية تحقيق كل السبل والوسائل القانونية التي تضمن له حق الدفاع عن نفسه ، والصمت بمواجهة التهمه هي إحدى دفاعات المتهم لكي يَبني _بعد معرفتهِ ودرايتهِ بالتهمة المسندة إليه_ دفاعه و الاستعانة بمن يساعده وهو دائما وكيله المحامي ، لقد كانت الذائقة العراقية ومن خلال مشاهدة الأعمال الدرامية المصرية والتي تردد العبارة المهمة لدى مواجهة المتهم بالتهمة ( أنا لا أتكلم إلا بحضور المحامي ) أحدثت تصوراً ثقافيا ًعلى المستوى الشعبي بحق المتهم باتخاذ موقف الصمت لحين حضور المحا مي، الذي يمثل وجوده ،الضمانة المهمة للمتهم، و لا يختلف النظام القضائي الجنائي المصري عن النظام القضائي الجنائي العراقي كونهما من الأنظمة التي تستند في أ ُسسها إلى النظام الفرنسي إضافة إلى أن القوانين العراقية متأثرة بشكل واضح ومنذ نشأتها با لقوانين المصرية رغم أن نظام التحقيق القضائي مختلف بين مصر و العراق فالنظام المصري يعتمد على نظام النيابة ألعامه التي تكون لها اليد الطولي بسلطتي الاتهام والتحقيق أما في العراق فان النظام القضائي يعتمد على قاضي التحقيق والمحقق ويكون دور الادعاء العام دور مزدوج بين تحريك الشكوى وهو ما يخص الجانب ألاتهامي والمحافظة على شرعية الإجراءات القانونية دون أن تكون له سلطة تحقيق، باستثناء ما ورد في المادة(3) من قانون الادعاء العام رقم 159 لسنة 1979 والتي تضمنت قيام عضو الادعاء العام بالتحقيق عند تواجده في مكان الجريمة وينتهِ دوره بحضور قاضي التحقيق أوان يطلب قاضي التحقيق منه الاستمرار بالتحقيق ،والحقيقة إن هذه المادة منتقده بشكل كبير لأنها من جانب تهد النظام ألاتهامي المستقل للنيابة ألعامه وتجعل دورها متناقضاً حسب النظام القضائي العراقي بين التحقيق والمراقبة وفيها محاولة غير مدروسة ومنتقدة للتقرب من نظام النيابة العامة .
لقد تطرق القانون المدني العراقي وفي باب التعاقد وإحداث الأثر القانوني إلى اتخاذ موقف شبيه بموقف اتخاذ الصمت ،ألا وهو مبدأ السكوت حيث نصت المادة (81) من القانون المدني العراقي ( لا ينسب لساكت قول ، لكن السكوت في معرض الحاجة إلى القول يعتبر قبولاً ) فإرادة الصمت تحمل أكثر من دليل ومعلم وإرتسام فبين السكوت الذي لا يحمل الدلالة وبين الصمت الذي يحمل البيان والقبول.إ تخذ المشرع المدني قراره باعتبار السكوت المقترن بظرف التعبير عن الإرادة قبولا ً و بنى على ذلك أثراً قانونيا ً، في حين أن المشرع الجزائي إعتبر الصمت موقف سلبي لا يتمخض عنه شيء ولا يُبنى عليه شيء ،وبين الصمت كحق من حقوق المتهم بمواجهة التهمه في الجانب الجزائي وبين السكوت كإرادة قبول في الجانب المدني، بين كلا الموقفين سارت النصوص التشريعية محتفية ً بقبول من جانب وضمانة من جانب آخر ولعل الجانب الجزائي إكتسب بُعداً أكثر من قانوني حيث أرسى وبناءاً على التعديل الأخير ضمانه مهمة للمتهم ،تنسجم مع ما تقره قوانين حقوق الإنسان والمواثيق الدولية،وإذا كان للنص القانوني مدياته واتساعه وجدواه فان جلبابه التطبيقي والتنفيذي لا يكون بمثل رؤيته النصية القانونية ولأسباب متعددة أهمها غياب الحاضن الثقافي والقانوني والاجتماعي الذي يتماهى مع جدوى النص ليحقق المكتسبات الإنسانية التي يسعى المجتمع الإنساني إلى تطبيقها على أرض الواقع.
(موقف الدستور والقوانين الجنائية العربية والدولية من صمت المتهم كحق في مرحلة التحقيق..!)
لقد تسابقت القوانين الجنائية في منح المتهم ضمانا ت مهمة أهمها حقه بمحاكمة عادلة ،ولعل المبدأ المهم الذي وشح كل القوانين الجزائية هو ما تضمنته المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص:
1_كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه ) وإذا ما عرفنا بان تلك المبادئ شكلت قانوناً دولياً تتسابق الدول إلى تضمين المواد القانونية في دساتيرها المحلية والعراق إحدى هذه الدول ،فقد كانت الدساتير العراقية سبّاقه بتضمين هذا الحق في متون نصوصها وآخرها الدستور العراقي الذي تم الاستفتاء عليه في 15-10-2005 حيث جاءت المادة( 19) الفقرة (خامساً) والتي نصت (المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة ……) وسبقتها الفقرة (رابعا ) التي اعتبرت حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة .
وحق الصمت واحد من حقوق المتهم بمواجهة التهمه ألمسنده إليه من قبل القائم بالتحقيق وسارت القوا نيين الإجرائية الجنائية العالمية على ذات المنوال, فقد أعتبر قانون ألإجراءات السوفيتي إجبار المتهم على الكلام أو تهديده أو تخويفه أو خدعه جريمة جنائية تستوجب العقاب وهو ما أشارت إليه المادة (179) من قانون الإجراءات الجنائية الروسية،في حين ألزمت بعض القوانين الإجرائية الجنائية قاضي التحقيق أو القائم بالتحقيق على تنبيه المتهم على إن له الحق في عدم الإجابة ولا يعتبر سكوته دليلاً ضده كما هو الحال في موقف قانون عام (1897) الفرنسي المادة (3) منه وعلى خطاه أيضاً سارَ القانون الألماني والانكليزي ولعل قرار المحكمة العليا الأمريكية في دعوى (ميرا ندا ) ضد ولاية أريزونا الذي جاء فيه ( يجب تنبيه المتهم قبل أي استجواب إن له الحق في أن يظل صامتاً ،وان كل شيء يقوله يمكن استخدامه ضده في المحكمة..) جاء تتويجاً لكل النصوص والضمانات التي حرص المشرع على وجودها بشكل حيوي وفعال على المستوى التطبيقي ،كل ذلك يعطي دليلاً واضحاً على أن الإنسانية تحاول أن تقدم إعتذارا ً لمرحلة طويلة سامت فيها المتهم أنواع العذاب بغية أخذ اعترافه بالقوة ، وآن لها أن تمنحه كل الضمانات في مرحلة جديدة هي مرحلة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات ألعامه ،والتي حرصت الدول على أن يتم تدوينها تشريعاً وقانوناً وتطبيقها قضاءاً،أما موقف القوانين العربية فلم يَشِرْ القانون المصري في نصوصه إلى حق المتهم باتخاذ موقف الصمت كضمانه أثناء التحقيق لكن ، (محكمة النقض) سارت على اعتبار السكوت ضمانة من ضمانات المتهم في مرحلة المحاكمة وما قبلها مع الإشارة على أن محكمة النقض المصرية لا ترتب البطلان على عدم استجواب المتهم كما يراه القانون الفرنسي إذ لا مانع في القانون الإجرائي المصري يمنع من رفع الدعوى العمومية بدون استجواب المتهم ويجوز رفعها في المخالفات والجنح بدون تحقيق .
كما وجاء في المادة (158) من قانون الإجراءات الكويتي ما نصه (لا يجوز تحليف المتهم اليمين ولا إكراهه أو إغرائه على الإجابة … ويفسر سكوت المتهم أو امتناعه عن الإجابة على السؤال بأنه إقرار شخصي ، ولا تصلح مؤاخذته على ذلك) وتضمن نص المشرع الجزائري في المادة (100) من قانون الإجراءات الجزائري لعام 1966 على ما نصه (يتحقق قاضي التحقيق حين مثول المتهم لديه لأول مرة عن هويته ويحيطه علما و صراحة بكل واقعه من الوقائع المنسوبة إليه وينبهه بأنه حر في عدم الإدلاء بأي إقرار وينوه على ذلك التنبيه في المحضر.
(موقف قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971من موقف صمت المتهم في مرحلة التحقيق..!)
إذا كان للجانب المدني رؤيته بخصوص اتخاذ موقف السكوت لطرف العلاقة المدنية أو العقدية ، فان الأمر يختلف بالنسبة للجانب الجزائي ،فقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23لسنة 1971قد نص وفي باب التعديل الأخير للمادة( 123) الأصولية بموجب مذكرة سلطة الائتلاف رقم (3) في 18-6-2003 القسم (4ج) ما يلي:ب_قبل إجراء التحقيق مع المتهم يجب على قاضي التحقيق إعلام المتهم ما يلي:_ أولا _إن له الحق في السكوت ،ولا يستنتج من ممارسة هذا الحق أي قرينة ضده)
وفي المادة (126 – ب ) منع إجبار المتهم على الكلام حيث نصت المادة ( لا يجبر المتهم على الإجابة على الأسئلة التي توجه له ) وبالمقابل أيضا لا يجوز اعتبار سكوته دليلاً ضده ، وفي الوقت الذي منح القانون للمتهم حرية اتخاذ موقف كلي للصمت فانه من ذات الباب أباح له حرية الصمت الجزئي في الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه تحقيقاً ، مع التوضيح المهم جداً وهو أن المتهم يُستجوب من قبل سلطة التحقيق المحقق العدلي وقاضي التحقيق أما بالنسبة لأعضاء الضبط القضائي فأنهم يقومون فقط بسؤال المتهم وليس استجوابه وان هذا السؤال يدخل في باب التحري وجمع الأدلة وهي مرحلة أولى من مراحل التحقيق إلا في الحدود المقررة قانونا .وبذات الاتجاه جاءت المادة (127) من القانون المذكور لتؤكد حق المتهم فقد منعت استخدام العنف والقوة للضغط على إرادة المتهم أو استخدام أية وسيلة لأخذ أقواله أو اعترافه ، فالمرحلة الجديدة التي تقهقر فيها مبدأ (الاعتراف سيد الأدلة) ليلوذ بالصمت أمام قوة الأدلة الأخرى التي يكون بعضها فني وتقني مادي وبعضها معنوي كالشهادات إضافة إلى التقدم الكبير في مجال استخدام ألأجهزة والتقنيات التي تساعد القائم بالتحقيق على كشف الحقيقة .
وإذا كان استجواب المتهم يحمل خطوات مهمة تضع المحقق والقاضي على سكة الحقيقة في اغلب الأحيان وبخاصة حين يكون هناك اعتراف للمتهم معززاً بأدلة أخرى تؤكده،وبالمقابل فان هناك آلية تعتمد من قبل القائم بالتحقيق حين ينكر المتهم التهمه المسندة إليه ويقيم دفاعاته بكافة طرق الإثبات.إن الطريقتين المعتمدتين بالاعتراف أو الإنكار هما الأكثر تداولا ً في ساحات التحقيق القضائي والتي يشكل المتهم محور رئيسي فيهما وعلى ذلك لابد من وجود ضمانات تساعده على التمتع بحقوقه التي تضمنتها الدساتير والقوانين.
(التطبيق القضائي العملي لموقف الصمت المتخذ من قبل المتهم في مرحلة التحقيق)
الحقيقة إن القانون العراقي لم يشر إلى حق المتهم باتخاذ موقف الصمت وإن أشار إلى حقه في عدم الإجابة على الأسئلة التي توجه له ، لكن مذكرة سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (3) الإجراءات الجزائية في 18- حزيران-2003 القسم (4ج) تضمنت بان يضاف إلى المادة (123) ما يلي :_(ب _قبل إجراء التحقيق مع المتهم يجب على قاضي التحقيق إعلام المتهم ما يلي :_
أولاً_أن له الحق في السكوت ، و لا يستنتج من ممارسته هذا الحق أي قرينة ضده.
ثانيا_ إن له الحق في أن يتم تمثيله من قبل محامي ، وان لم تكن له القدرة على توكيل محام تقوم المحكمة بتعيين محام منتدب له ،دون تحميل المتهم أتعابه.
ج _على قاضي التحقيق أو المحقق حسم موضوع رغبة المتهم توكيل محام فليس لقاضي التحقيق او المحقق المباشرة بأي إجراء حتى توكيل محامي المنتدب) رغم أن المادة المذكورة أعلاه وبعد التعديل أشارت إلى مبدأ اتخاذ الصمت من قبل المتهم بمواجهة القائم بالتحقيق إلا أن هذا المبدأ لا يحظى بالإنتاجية الكبيرة المعول عليها في الساحة القضائية لأسباب متعددة بعضها خاص بالمتهم والآخر بالسلطة التحقيقية ، فبالنسبة للمتهم فالمتهم وليد ونتاج مجتمع لم يألف الصمت بمواجهة الاتهام الذي يوجه إليه وثقافته الاجتماعية لا تعرف الصمت طريقا لإثبات رد الادعاء ، مما يحمله تركة اجتماعية وثقافية تجعله يُفرط بحقه القانوني بدون معرفة و الذي يشكل أحد الضمانات الرئيسية له، لذلك يلجأ المتهم إلى اتخاذ كل الطرق التي تؤدي به إلى سلوك الجانب الايجابي وهو الحديث برد التهمه عن نفسه وبعضها تدينه أحيانا ،كما إن ثقافة الاستعانة بمحامي تكاد أن تكون معدومة في مجتمعنا وسببها الرئيسي القصور الواضح والكبير في الثقافة القانونية ،كما أن القانون لا يعط للمحامي الدور الملزم من جانب أو المتسع في جوانب أخرى ، فدوره دور المتفرج وصلاحيته الانتدابية أشبه بالترفية وليس هناك أي إلزام سوى شرف المهنة ، والأمر برمته بحاجة إلى معالجة جذرية ثقافية واجتماعية وتشريعية تأخذ بنظر الاعتبار، الرؤية الجديدة لضمانات المتهم وعلى القائم بالتحقيق أن يدون جواب المتهم بعد تنبيه القائم بالتحقيق بان له الحق في الصمت.
هذا من جانب ومن جانب آخر فان القائم بالتحقيق وقاضي التحقيق يعتمد بالدرجة الأساس على ثنائية العملية التحقيقية وهما المشتكي والمتهم وضمن آلية الإجراءات الواردة في أصول المحاكمات الجزائية ، مع إن له سلطات تقديرية وصلاحيات تحقيقيه ولكن غَلبت سمت الجانب المكتبي على سمة التحرك والنشاط بالنسبة للقائم بالتحقيق على مستوى المحقق وقاضي التحقيق بحيث أضعف هذا الداء قوة التحقيق ،فإجراء الكشف على محل الحادث والكشف بدلالة المتهم المعترف والحضور إلى محل الجريمة عند الإخبار كلها إجراءات مهمة على قاضي التحقيق القيام بها بسرعة كبيرة فكما هو معروف وحسب المقولة المشهورة (إن الدقائق التي تمر هي الحقيقة التي تفر) فالحقيقة قرينة السرعة الإجرائية ،وكلما كان القائم بالتحقيق معتمدا على تحركه وفق الآليات التي يعمل بها وبخاصة عنصر السرعة كلما امتلك زمام القضية التي يحقق بها وكان اقرب إلى الحقيقة وبالتالي لا يعول على ما يَرِد من أقوال المتهم أو المشتكي بصورة كبيرة وتظهر شخصية وكفاءة القائم بالتحقيق ودرايته وخبرته العملية .
كما أن الادعاء العام وهو ممثل الهيئة الاجتماعية والضامن الحقيقي لضمانات المتهم يجب تفعيل دوره وبخاصة إن التعليمات الأخيرة لمجلس القضاء الأعلى أعطت إلزام لحضور عضو الادعاء العام عند تدوين إفادة المتهم وبخلافه تعتبر الإجراءات المتخذة غير قانونية وحبّذا لو كانت هذه التعليمات واحدة من نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية ،إن وجود الادعاء العام يعني تحقق وتأكيد لتنبيه المتهم بأن حقه باتخاذ الصمت ،حق قانوني لا يمكن إتخاذه كدليل إتهام ضده وإنما يتم التعامل معه على انه حق ،ونحن بأمس الحاجة إلى دور تثقيفي قانوني تساهم فيه الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية ومجلس القضاء ووزارة العدل ومنظمات المجتمع المدني وكل ذلك الجهد ينصب بقالب إعلامي مقروء أو مسموع يبدأ من فواصل الإعلانات ولاينته بالحوارات والندوات والبرامج التوعية والمجلات القانونية المتخصصة و الصحف اليومية والأسبوعية والمناهج الدراسية وبخاصة إن المواطن العراقي مواطن حواري يستوعب ما يبثه الإعلام على كافة مستوياته التعليمية والثقافية ،وعلى ضوء ذلك تكون الثقافة القانونية باتجاهها الحيوي والمنتج في رسم دولة القانون والمؤسسات و دولة حقوق الإنسان والحريات.
اترك تعليقاً