مفهوم النهر الدولي وواقع بعض أنهار المشرق العربي
تنبع أهمية البحث من أن موضوع المياه سوف يظل الشغل الشاغل للباحثين وصناع القرار في الوطن العربي وفي العديد من دول العالم ، خصوصاً في المناطق الجافة وشبه الجافة ، خلال العقود القادمة . والأسباب كثيرة ومتعددة : منها ما هو متعلق بندرة هذا المورد الهام ، ومع ازدياد الندرة يزداد التزاحم وتكثر المشكلات ؛ ومنها ما هو متعلق بدور المياه في التنمية الشاملة ، ومع ازدياد السكان وارتفاع مستوى حياتهم يزداد طلبهم على المياه بزيادة حاجتهم لها .
لكن هناك أيضاً أسباب سياسية واستراتيجية تتعلق بكون المياه قد تتحول إلى عنصر من عناصر قوة الدول وازدهارها ، وهي أحد مصادر التوتر في منطقتنا ، وقد تكون الحروب القادمة في العالم بأجمعه هي حروب لأجل المياه ؛ وهنا لا ينكر دور الأنهار الدولية في هذا المجال .
وهو موضوع شائك ودقيق ، حيث أن الدول تحرص على المعلومات المتعلقة بالمياه حرصها على المياه ذاتها بل قد تفوقها حرصاً ، فتحيطها بهالة من السرية والكتمان .
لذلك فقد اعتمد البحث على إجراء المقابلات مع المختصين للحصول على أقرب المعلومات والمعطيات دقة ، مع تحري الصحيح منها بحسب تواتره إن أمكن ذلك .
ويحاول البحث بيان المراحل التي مر بها النهر الدولي ، ومدى الاختلاف حول مفهومه وتطور المصطلحات والتسميات للحصول على أعلى نسبة ممكنة من الاتفاق حولها وما رافق ذلك من نظريات ناظمة له .
وما هي حقيقة الوضع القانوني للأنهار مدار البحث ؟ وهل تتفق مواقف دولها مع القوانين والأعراف الدولية والقواعد القانونية الدولية الناظمة للأنهار الدولية ؟ وهي حقيقةً قد مرت بمراحلَ عديدةٍ اتسمت بالتدرج والبطء وما رافق مصطلحاتها من معارضة إلى أن توصلت الاتفاقية الدولية الأخيرة للأمم المتحدة إلى تعريف قد يكون الأقرب إلى الصواب ، وما لازم هذا التطور من ظهورٍ لنظريات مختلفة تنوعت بين أقصى التشدد والتمسك بوطنية المياه إلى نظريات مقبولة ومنطقية عادت بالفائدة على مفهوم النهر الدولي .
فالعصور القديمة لم تعرف النهر الدولي بشكله الحالي لعدم تبلور فكرته ؛ ولكنها تضمنت إشارات قد يستفاد منها حيث منعت إلحاق الضرر بالغير وعاقبت عليه واهتمت بتنظيم استخدامات المياه وحافظت عليها وبينت أولويات استخدامها ، وخير مثال عليها مدونة حمورابي وما جاءت به من تشريعات في هذا المجال .
كما أن الشريعة الإسلامية السمحة باعتبارها منهجاً ودستوراً لتنظيم أمور البشر ، لم تغفل عن هذا الموضوع بل تناولته بكثير من التفصيل فحرم منع الفائض من المياه ، وعدَ البشر شركاء في المياه ، وثبتت إباحة عامة لمياه تلك الأنهار مع كون رقبتها ملكاً للدولة التي تجري في إقليمها .
وجاء الفقه الإسلامي ليوضح الأحكام الشرعية وكيفية التعامل ومقدار الحبس والحجز للمياه مع مراعاة الظروف المكانية والزمانية ، وكيفية الاستفادة من إمكانيات النهر في حدود حسن النية وحسن الجوار ، مع تأكيده على عدم الإضرار بالآخرين ومنع تغيير المجرى . وإن كان لم يَعْرِفَ المفهوم الدولي للنهر ؛ حيث كان يُقَسِمُ البلاد إلى دار حرب ، ودار سلام موحدة غير مجزأة .
ومصادر قانون المياه الدولي هي ذات مصادر القانون الدولي التي حددتها المادة /38/ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية المتمثلة بالمعاهدات العامة والخاصة ، العرف الدولي ، المبادئ العامة للقانون الدولي ، الأحكام القضائية والفقه الدولي .
ولم تكن فكرة الأنهار الدولية معروفة أو متداولة قبل نشوء الدول وظهور مفهوم السيادة , حيث أن الاستخدام الأمثل للمفاهيم القانونية للسيادة , هو الذي كان له الفضل لولادة فكرة المياه المشتركة وذلك للدلالة على مجاري المياه الصالحة للملاحة , التي تهم دولاً عدة . ومن ثم مع بداية النصف الثاني من القرن 19 تطورت تلك الفكرة لتميز بين النهر الوطني والنهر الدولي .
وبرزت أولى الإشارات إلى مفهوم النهر الدولي في معاهدة باريس للسلام المنعقدة بتاريخ 30 / 5 / 1814 والتي عقدت نتيجة اتساع نطاق التجارة الدولية والحاجة الماسة إلى استخدام الأنهار الصالحة للملاحة والنقل الدولي والحد من الصراعات الدولية حول استخدام الأنهار بين الدول ذات الشأن ؛ فعرفته معتمدة على المعيار الجغرافي السياسي بأنه : النهر الذي يفصل أو يخترق أقاليم دولتين أو أكثر .
ثم بدأت النظرة الدولية ترتبط بالملاحة ارتباطاً وثيقاً , سواء كانت أنهاراً حدودية أو أنهاراً تعاقبية يجتاز مجراها دولتين أو أكثر , حيث أنها إضافة لكونها تشكل جزءاً من إقليم الدولة التي تحاذيها أو تعبرها , تعتبر إحدى أدوات الحياة الاقتصادية الدولية .
فالاهتمام بمعيار الملاحة جاء تاريخياً من مسائل حرية الملاحة , في بعض الأنهار الأوربية كالدانوب والراين , والتي كانت سبباً للمحاولات الأولى لإعطاء صفة دولية لهذه الأنهار فعرفتها الوثيقة الختامية لمؤتمر فيننا لعام 1815 بأنها : الأنهار التي تصلح مجاريها للملاحة والتي تخترق في جريانها عدة دول , وذلك في عهد وفترة زمنية لم تطرح فيها الاستخدامات الأخرى للأنهار الدولية ؛ فتم التركيز على الملاحة وحريتها ، بشكل كبير في الفقه الدولي في ذلك الوقت ؛ حيث انشغل معهد الحقوق الدولية IDI قبل نهاية القرن التاسع عشر بالأنهار الدولية والحقوق المتعلقة بها ، ولا سيما مبدأ حرية الملاحة إلا أنه وإن كانت أولوية الملاحة قد أثرت على الاتجاهات التقليدية والمذهبية ، إلا أن الوضع اختلف وتطور بشكل سريع حتى طغى على الممارسة الدولية والاجتهاد ، فبدأت الملاحة تفقد هيمنتها على تعريف النهر الدولي وذلك مع انعقاد مؤتمر برشلونة عام 1921 حيث أنها لم تعد الوظيفة الاقتصادية الوحيدة للنهر ، وظهرت استخدامات أخرى ولذلك يعتبر نظام برشلونة مرحلة هامة في تطور القانون الدولي ، الخاص بالأنهار الدولية وذلك لأنه وإن أكد على الفكرة التقليدية للملاحة ، وأن الملاحة هي العنصر الأساسي ، إلا أنه جاء بمفهوم الوظيفة الاقتصادية الأساسية .
وبالتالي لم تعد قابلية النهر للملاحة عاملاً هاماً في دوليته ، إلا إذا شكلت الوظيفة الاقتصادية الأساسية لهذا النهر .
وهكذا بدأت أهمية الملاحة تتضاءل شيئاَ فشيئاَ ، لتظهر الاستخدامات الأخرى للأنهار الدولية مما أدى إلى تطور مفهوم النهر الدولي وذلك من خلال عمل فقهي مضنٍ وطويل الأمد ، ليتطور التعريف إلى فكرة الحوض سواء أكان حوضاً هيدروغرافياً دولياً كما تبناه معهد القانون الدولي في جلسته المنعقدة في سالزبورغ عام 1961 الذي ساوى بين فكرة المجرى المائي وبين فكرة الحوض الهيدروغرافي ؛ أو كان حوض صرف كما اعتمدته جمعية القانون الدولي في مؤتمرها السابع والأربعين في دوبروفينك عام 1956 الذي استعمل مصطلح ” حوض الصرف ” بديلاً عن مصطلح ” النهر الدولي ” .
فالسبب الرئيسي وراء فكرة الحوض هو استغلال مصادر الحوض النهري بأكبر شكل ممكن , وبالتالي فإن تطور الفكر الاقتصادي , كان السبب وراء تطور مفهوم النهر الدولي , والانتقال من المرحلة التقليدية المحصورة بالملاحة , ومدى صلاحية النهر لها , إلى فكرة الحوض الممتد على أراضي عدة دول , لتحقيق الاستخدام الأعظمي للموارد .
وفي مقابل التطور الذي أدى إلى توسع تعريف النهر الدولي , فقد حدث في الجهة المقابلة تطور نسبي آخر , وهو الامتداد الفيزيائي للحوض النهري , حيث توسعت الصفة الدولية لتشمل البحيرات والأقنية . حتى وصلت إلى المياه الجوفية المتصلة وقد كان هذا الأمر نتيجة الأعمال التي قامت بها عدة أجهزة مهتمة بهذا الموضوع . ليظهر مصطلح ” المجاري المائية الدولية ” في اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية الصادرة عن الأمم المتحدة في عام 1997 .
وجاءت النظريات الفقهية الدولية لتنظيم كيفية الاستفادة من مياه الأنهار الدولية واستخدامها فظهرت بداية نظرية السيادة الاقليمية المطلقة ( نظرية هارمون ) التي تستمد أساسها من حق الملكية في الفقه الروماني ، وهي تقوم على مفهوم واسع للسيادة الإقليمية حيث ترى أن من مظاهر السيادة على الشيء حرية التصرف فيه ، بشكل مطلق دون قيد أو شرط ، لأن الدليل على استقلال دولة ما إنما يظهر من خلال حريتها الكاملة في استخدام مياه الأنهار ، التي تعبر أراضيها استخداماً منفرداً إلى أقصى الحدود ، دون أيّ اعتبار لما ينجم عن تصرفها من أضرار لدول حوض المجرى المائي الدولي الأخرى .
ولكن هذه النظرية لم تلقَ أي صدى في ممارسات الدول لأنها تقوم على تفسير خاطئ لمفهوم السيادة ، حيث تساوي بين الإقليم الذي هو عنصر ثابت وبين عنصر المياه المتنقل والمتحرك دون أي اعتبار لاختلاف طبيعة كل منهما عن الآخر ، وهي لا تعترف بأي حقوق لدول المجرى المائي الأخرى كما أنها تخالف مبادئ : عدم الإضرار بحقوق الدول الأخرى ، حسن النية وعدم التعسف في استعمال الحق ؛ بالتالي كانت نظرية هارمون حالة فردية في الاجتهاد القانوني باءت بالفشل الذريع ، ولم تلقَ أي نجاح أو اعتراف بها .
ومن ثم جاءت نظرية الوحدة الاقليمية المطلقة أو التكامل الإقليمي المطلق ، التي تقوم على فكرة مفادها : أن مجرى النهر يشكل من منبعه إلى مصبه وحدة إقليمية ، بغض النظر عن الحدود السياسية . وأن كل دولة يجري النهر الدولي في إقليمها ، لها الحق الكامل في أن يظل جريانه على حاله في إقليمها ، وبالتالي لها الحق في التدفق الكامل لمياه النهر كماً ونوعاً .
ويلاحظُ أنها تحابي دول المصب على حساب دول المنبع مما يؤدي إلى جمود كلي فيما يتعلق بالمشاريع الجديدة في دول المنبع بمجرد رفض دول أسفل النهر لهذا الاستخدام .
ولتجنب مساوئ النظريتين المتشددتين السابقتين ظهرت نظريات حديثة حاولت تطوير الفقه الدولي في مجال الأنهار الدولية ؛ فظهرت نظرية السيادة الإقليمية المقيدة ، التي تسمح للدولة أن تستخدم بحريَّة المياه الجارية في أراضيها ، شريطة ألا يؤدي هذا الاستخدام إلى الإضرار بمصالح دولة متشاطئة أخرى .
وقد أخذت بها معظم المعاهدات وأحكام القضاء وجزء كبير من الفقه العام المتمثل ببيان استوكهولم لعام 1961 ، توصيات سالزبورغ لعام 1961 ، قواعد هلسنكي لعام 1966 ، إعلان ريو دي جانيرو لعام 1992 ولجنة القانون الدولي 1994 ؛ ورغم أن جميع القيود التي فرضتها هذه النظرية مازالت طوعية دون إلزام . وتُرِكَ أمرُها إلى الاتفاق عليها إلا أنها الأكثر رواجاً لأنها تحقق توقعات وطموحات دول المجرى المائي وتوازن بين مصالحها المختلفة .
كما نشأت نظرية الانتفاع المشترك ، التي تقوم على أن المجرى المائي بأكمله ، من منبعه إلى مصبه ، مشترك بين جميع الدول التي يجري في إقليمها ، بحيث تكون حقوقها متساوية ومتكاملة ، مع ما يترتب على ذلك من قيود على حرية الدولة بالتصرف بالجزء الذي يقع تحت سيادتها ، فلا تنفرد إحداها دون موافقة الدول الأخرى ، بإقامة مشروع للانتفاع بمياه النهر في الجزء الذي يجري في إقليمها إذا كان يترتب عليه إحداث أي تأثير على تدفق مياه النهر زيادة أو نقصاً .
ويؤخذ عليها أنها تقتضي بأنه على كل شريك معرفة حجم حصته وحقوقه وواجباته في هذه الشراكة ، إضافة إلى معرفة حصة كل شريك من المياه التي يحتاجها حتماً لأغراض الصناعة والزراعة والشرب وغيرها ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوب تعقيدات بين دول المجرى المائي .
أما النظرية الأخيرة فهي نظرية المنافع المتوازية وترتكز على أساسين هما : أن لكل دولة الحق في التقسيم المنصف لمنافع الشبكة النهرية في ضوء حاجاتها وكذلك بالظروف المتعلقة بالشبكة النهرية ، وذلك حسب مبدأ نصيب منصف ومعقول . وأنه لا يجوز لأي دولة وقف أو تحويل تدفق نهر يجري في أراضيها إلى أراضي دولة متشاطئة أخرى ، بل يحظر عليها أيضاً أن تستخدم مياه النهر بشكل يشكل خطراً على الدول الأخرى ، أو يمنعها من استخدام تدفق مياه النهر استخداماً مناسباً .
وهي تعتبر نظرية رائدة لأنها تنصب على معالجة حالة كل بلد معالجة واقعية ، قائمة على مطالب السكان وبرامج التنمية الاقتصادية ، سواء الحالية أم المستقبلية .
ويُلاحظ أن جميع النظريات السابقة ماعدا نظرية هارمون ، تقوم على فكرة أساسية ، وهي ضرورة التعاون بين الدول المتشاطئة . وتؤكد على حقوق الاستفادة والانتفاع بمياه النهر الدولي مع مراعاة عدم إلحاق أضرار بالآخرين .
لكن التطور لم يقف عند ذلك الحد ، بل جاءت المعاهدات الثنائية والدولية والأعراف الدولية والمبادئ العامة للقانون مع الأحكام القضائية والآراء التحكيمية لتسهم في تطوير مفهوم النهر الدولي ، بعد أن تبلورت أركانه وعناصره ، فساهمت في ترسيخ مبادئ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية الدولية ، والتزام الدول بواجب التعاون ، ومبدأ عدم إلحاق ضرر _ وإن اختلفت تسمياته بين ضرر جسيم ، ملموس ، ذي شأن _ وواجب الإخطار وشروطه ومهله لأن الإخطار هو الحل للمشاريع والاستخدامات المستقبلية ، بينما التعاون هو الحل للمشاريع والاستخدامات الحالية .
ليتم تدعيم ما تقدم والتركيز عليه باتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997 ؛ والتي جاءت بعد جهد جهيد واستغرقت زمناً طويلاً ومرت بقراءتين لموادها ، ولكنها بالمحصلة كانت محاولة جادة للتوصل إلى حلول لمشكلة استخدام الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية ، والتي نأمل أن تسارع الدول ولا سيما العربية منها لإدخالها حيز التنفيذ بالمصادقة عليها .
فقد عملت لجنة القانون الدولي التابعة للجنة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة من عام 1970 حتى عام 1994 على إعداد قانون حول استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية ، واعتمدته اللجنة في قراءته الأولى عام 1991 وفي قراءته الثانية عام 1994 ؛ ثم نوقشت مواده الثلاثة والثلاثون من قبل فريق عمل جامع في تشرين الأول 1996 ، وآذار 1997 ؛ ليتم اعتماده من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 4/5/1997 ليكون بحق من أهم أعمال الأمم المتحدة في مجال الأنهار الدولية حيث يعد تلخيصاً جيداً لجميع محاولات القوننة السابقة ولجميع الاجتهادات القانونية ذات الصلة بالموضوع ، والتي نشرتها اللجنة في أربعة عشر تقريراً ، تعد من أثمن الوثائق التي صدرت عن الأمم المتحدة في هذا المجال والتي تعاقب على تقديمها خمسة مقررين هم : ريتشارد د.كيرني ، ستيفن م.شوبيل ، ينس ايفنسن ، ستيفن مكافري وروبرت روزنستوك .
لكن يؤخذ على قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية ؛ أن المبادئ القانونية الرئيسة التي يتمحور حولها ، لا تخرج عن نطاق إطار المبادئ القانونية التي سبق للمجتمع الدولي أن ناقشها .
كما أن مواده مرنة وعامة دون أن تخوض بشكل كبير بالتفاصيل ، حيث وضعت الخطوط العريضة فقط ، لكي تتماشى مع اتفاق الإطار الشامل .
والذي اعتمد على أساس أن افضل انتفاع من مجرى مائي دولي ، يتحقق من خلال نظام دولي يتوافق مع الحاجات النوعية المثبتة باتفاقية خاصة .
وقد أكدت اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية على عدة مبادئ استقرت عليها الاتفاقيات الدولية والأعراف ، وهي تتجلى بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية المشتركة المرتبط بمبدأ الالتزام العام بالتعاون بين الدول ؛ حيث أن الانتفاع العادل والمنصف يُلزم الدول المشتركة في مجرى مائي دولي باستخدامه وتطويره وحمايته ، بطريقة عادلة ومعقولة وأن تفعل ذلك بروح التعاون ، لأن العنصر الأساسي لمفهوم المشاركة هو تعاون دول المجرى المائي بالمشاركة على أساس منصف ، بقياس الأعمال والنشاطات الهادفة للوصول لاستخدام أمثل لمياه النهر الدولي . وبالتالي فمبدأ المشاركة المنصفة ينجم ويتعلق بقاعدة الاستخدام المنصف . وهو عمل مشترك من دول مجرى النهر لجلب أكبر قدر من المحاسن لكل منها ، مع التمسك بتقسيم منصف للاستخدامات ، ولكن من جهة أخرى فإن المشاركة المنصفة لا تتضمن فقط حقوقاً بل واجبات وتعاوناً نشيطاً مع الدول الأخرى لحماية وتقييم مياه النهر .
كذلك فإن مبدأي عدم إلحاق ضرر وواجب الإخطار يعتبران من المبادئ المستقرة في مجال الأنهار الدولية ؛ وهما مبدآن مرتبطان حيث أنه يتوجب على جميع الدول المتشاطئة ألا تلحق ضرراً بالآخرين ، كما أنه يتوجب عليها إخطار الآخرين في حال قيامها بإجراءات ، أو مشاريع مستقبلية ، من الممكن أن تلحق أضراراً بالدول الأخرى .
بالتالي فإن عدم إلحاق أضرار هو مناط المبدأين ، كما أن الإخطار هو الحل للمشاكل الناتجة عن المشاريع والاستخدامات المستقبلية ، بينما التعاون هو الحل للمشاريع والاستخدامات الحالية لدول المجرى المائي الدولي .
والضرر الذي تترتب عليه مسؤولية الدولة هو الضرر الذي يتخطى عتبة التسامح ؛ حيث أن علاقات حسن الجوار وحسن النية والتعاون تتضمن واجبات التسامح مع الأضرار المحدودة أو الخفيفة . بالتالي فعدم مشروعية الضرر يتحدد بمدى الأضرار التي تصيب الدول والتي يجب أن تبلغ درجة معينة من الخطورة ، وإن كانت النعوت التي تستخدم لتحديد العتبة التي يتسبب الضرر إذا ما تجاوزها في تحميل الدولة المسؤولية الدولية ، كثيرة ومتنوعة إلا أن أهمها هو تعبير ” الضرر الملموس ” الذي مازالت معظم الحكومات تتمسك به ، وتعبير ” الضرر ذي الشأن ” الذي جاءت به اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية ، على الرغم من أن الاتفاقية بحد ذاتها قد سمحت باستخدام أحد المصطلحين مكان الأخر ، حيث أنها أبدلت التسمية دون أن تغير مضمون التعريف .
أما الإخطار الذي يضاف إلى التبادل الطبيعي للمعلومات والبيانات بين دول المجرى المائي الدولي ، فقد جاء لإعطاء معنى واضح لمفهوم الاستخدام المنصف والمعقول ولمنع وقوع ضرر فيما يتعلق بالمشاكل المرتبطة بالاستخدامات الجديدة والمشاريع المزمع إقامتها . وقد حددت اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية شروطاً محددة للإخطار ، سواء من حيث التوقيت ، أو المضمون ، أو المهلة ، كما حددت الخطوات التالية له ؛ وذلك بهدف إعطاء الدول المخطَرة فرصة للاعتراض مما يمهد الطريق للمفاوضات التي قد تؤدي إلى تعديل المشروع الجديد ، أو إلغائه أو إيجاد البديل عنه .
وهذه المبادئ جميعها هي بالأصل قواعد أوجدتها الاتفاقيات الدولية ، والأعراف التي تولدت من الممارسة الدولية ، وقد استطاعت بفضل التطور والممارسة المستمرة ومطالبة الدول أن ترتقي لتصبح واجبات قانونية يتوجب على الدول احترامها والالتزام بها .
بينما مشكلة بيع المياه ليست في بيع الماء بحد ذاته ، بل تكمن في أن تقوم دولة ما بحرمان جيرانها من حصصهم العادلة والمعقولة من مياه مجرى مائي دولي لتقوم ببيعها لهم أو لغيرهم مقابل ثمن مرتفع ، ضاربة بعرض الحائط بجميع القواعد الدولية في هذا الصدد ، الأمر غير الجائز قانوناً . أما إذا قامت دولة ما ، بعد أن استوفت بقية دول المجرى المائي حقوقها العادلة والمشروعة من مياهه ، ببيع جزء من حصتها هي بالذات إلى الغير ، فهي مسألة فيها نقاش ، وقد تقبل فيها الأفكار والآراء المختلفة .
ولما كانت المياه الشغل الشاغل والهم الدائم لجميع دول منطقتنا العربية ، ومدار اهتمام الخبراء والباحثين ، لذلك لا بد من التطرق لأهم أنهار المشرق العربي ، وذلك من خلال أمثلة متنوعة تعكس تنوع وضع أنهاره .
فنهرا الفرات ودجلة هما مضرب المثل على نهر دولي تنكر دولة منبعهما تركيا صفتهما الدولية ؛ هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لولا التقسيم الاستعماري الذي شهدته منطقتنا العربية لكان النهران عربيان مائة بالمائة . حيث كانت حدود سوريا الطبيعية تمتد حتى جبال طوروس ، وبالتالي كان منبعهما عربياً خالصاً .
فنهر الفرات يتشكل من التقاء نهري فرات صو وقره صو في حوض ملطية بهضبة أرمينيا التركية في مستنقعات الأزيج ، شمال مدينة كيبان بحوالي عشرة كيلو مترات ، ويبلغ طوله حوالي 2880 كم موزعة على البلدان المتشاطئة الثلاثة كالآتي : 1000 كم في تركيا و 675-680 كم في سوريا و1200 كم في العراق ، أما مساحة الحوض الصباب فتبلغ 444000 كم2 تقريباً تتوزع كالتالي : 121000 كم2 في تركيا ، 73000 كم2 في سوريا ، 205000 كم2 في العراق وهناك 45000 كم2 في المملكة العربية السعودية ؛ ودول مجراه هي كل من تركيا وسوريا والعراق إضافة للسعودية وذلك بموجب المادة الثانية من اتفاقية استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية التي جعلت الاتفاقية الأخيرة منها إحدى دول الحوض لمساهمتها بالحوض المائي الجوفي المتصل بنهر الفرات ، مما يوجب زيادة الحصة العربية ويدعم موقف كل ٍ من سوريا والعراق .
ومن المعلوم أنه لا وجود حتى الآن لمعاهدة تنظم المشاركة في مياه الفرات أو الاستغلال المشترك ، إلا أن هناك اتفاقيات عقدت ترسي مبادئ عامة وتشدد على حقوق بلدان أسفل النهر في المياه الداخلة إلى أراضيها تتمثل بمعاهدة باريس 1920 ، معاهدة لوزان 1920 ، معاهدة أنقرة 1921 ، معاهدة لوزان 1923 ، اتفاقية الصداقة وحسن الجوار الموقعة بين فرنسا ( باسم سوريا ) وتركيا 1926 ، اتفاق 1929 بين فرنسا ( باسم سوريا ) وتركيا ، معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين تركيا والعراق 1946 ، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا 1971 ، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا 1980 والذي انضمت له سوريا 1983 ، بروتوكول 1987 بين سوريا وتركيا والاتفاق السوري العراقي 1989 .
ويتجلى الموقف التركي من نهر الفرات باعتباره : نهر غير دولي ، اعتبار حوضي دجلة والفرات حوضاً واحداً مع إمكانية نقل مياه نهر دجلة إلى نهر الفرات من خلال منخفض الثرثار في العراق ، رفض مبدأ تقاسم المياه ، التفسير التركي لتعبير الاستخدام الأمثل للمياه وخطتها عن المراحل الثلاثة للانتفاع الأمثل والمنصف والمعقول ، التذرع بعدم وجود قانون متكامل للمياه الدولية ، إنكار مبدأ الحقوق المكتسبة ، حريتها بإقامة السدود على أراضيها ووقف تدفق مياه نهر الفرات لتعبئة سدودها . وهو موقف لا ينسجم مع المعاهدات والأعراف والمبادئ القانونية .
ويتجلى الموقف السوري من نهر الفرات باعتباره : نهر دولي ، تحديد الوارد الطبيعي والاتفاق على الوارد السنوي للنهر ، تحديد الاحتياجات المائية للمشاريع القائمة أو التي هي قيد التنفيذ والمخطط لها ، تحديد حصص دول المجرى المائي والتوصل لاتفاق نهائي لقسمة مياهه ، رفض اعتبار المياه الدولية مورداً طبيعياً كالبترول واعتبار أن بروتوكول عام 1987 بتمرير ما يزيد عن 500 م3/ثا تدبيراً مؤقتاً خلال فترة ملء خزان أتاتورك ولا بد من التوصل لاتفاق نهائي .
ويعتبر العراق أن : حوضي دجلة والفرات حوضين منفصلين ، ضرورة التوصل إلى اتفاق ثلاثي يحدد الحصص المائية على أسس عادلة ومنصفة ، مراعاة قاعدة عدم الإضرار بالغير عند تنفيذ المشاريع الإروائية على نهر الفرات ، إن قاعدة الاستخدام الأمثل للموارد المائية لا تعني بأي حال تحديد أصناف الترب وضرورة التمسك بمبدأ الحقوق المكتسبة لكل بلد .
وأما السعودية فينحصر حقها فقط في استثمار المياه الجوفية المتجددة من نهر الفرات .
بينما ينبع نهر دجلة من هضبة أرمينيا في شرق تركيا من منطقة تسمى ( صو ) وبالتحديد من جبال قاراغلان ويبلغ طوله 1899 كم ، منها 44 كم في سوريا ، 1415 كم في العراق . ودول مجراه هي كل من تركيا ، سوريا ، العراق وإيران التي تساهم الروافد الغزيرة النابعة من أراضيها بكميات مائية كبيرة لا بد من إدخالها في حساب الوارد المائي لنهر دجلة ؛ مما يؤدي إلى زيادة الحصص السورية والعراقية من مياهه ، مع العلم أن العراق يتمسك بنظرية الوحدة الإقليمية المطلقة .
وهناك عدة اتقاقيات دولية ناظمة لاستخدام مياهه وهي تتجلى بمعاهدة لوزان 1920 ، معاهدة لوزان 1923 ، البروتوكول النهائي لتخطيط الحدود السورية التركية 1930 ، معاهدة 1930 بين فرنسا ( نيابة عن سوريا ) وتركيا ، المعاهدة التركية العراقية 1946 ، معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين تركيا والعراق 1946 ، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا 1971 ، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا 1980 والذي انضمت له سوريا 1983 ، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين سوريا وتركيا 1987 .
إلا أنه رغم كل ما سبق فإن تركيا تعتبر مياه نهر دجلة مياهاً وطنية عابرة للحدود ، ولها حق السبادة المطلقة على مياهه ، وأن ما تمرره من مياه إلى كل من سوريا والعراق هو تضحية منها وليس واجباً ، وأن حوضي دجلة والفرات يشكلان حوضاً واحداً ، وترفض مبدأ القسمة أو توزيع المياه .
كما أن الموقف الإيراني شبيه بالموقف التركي ، حيث تقوم إيران بتحويل أغلب الروافد المائية التي تغذي نهر دجلة مما يخفض المياه المتدفقة باتجاه الأراضي العراقية ويسئ إلى نوعية المياه ويزيد من نسب التلوث .
بينما يؤكد الجانبان السوري والعراقي على دولية نهر دجلة ، وضرورة تحديد الوارد المائي الطبيعي له ، وضرورة توزيع مياهه على أسس عادلة ومنصفة مع التأكيد على أن حوضي دجلة والفرات هما حوضان منفصلان .
ولكن مازالت تركيا ترفض التوصل إلى اتفاقية نهائية لاقتسام مياههما ، متمسكة بنظرية السيادة الإقليمية المطلقة التي عفا عليها الزمن .
ويشكل نهر العاصي مثالاً على نهر دولي ينبع من الأراضي العربية ؛ حيث ينبع من لبنان ليجري في سوريا وليصب في لواء الإسكندرون السوري السليب ، ويبلغ طوله 571 كم منها 53 كم داخل الأراضي اللبنانية و 366-417 كم في سوريا إضافة إلى 45 كم في اللواء السوري السليب ، وتتجاوز مساحة حوض العاصي 23000 كم2 ، منها 8001 كم2 في لبنان و13800 كم2 في سوريا والباقي في لواء الاسكندرون السوري السليب ، والرافدين الرئيسيين للعاصي هما النهر الأسود والذي تبلغ مساحة حوضه 2200 كم2 ونهر عفرين والذي تبلغ مساحة حوضه 3000 كم2 .
وهناك اتفاقية دولية لتقاسم مياهه بين كلٍ من لبنان وسوريا هي اتفاقية عام 1994 ، ونتيجة لبعض الإشكاليات المتعلقة بالينابيع ذات الرفد الدائم ، وبكيفية اقتسام مياه نبع اللبوة ، ولعدم تطرقها إلى موضوع خزن حصة الجانب اللبناني في سدود ، فقد عدلت بموجب المحضرين المؤرخين 11/1/1997 و20/4/2002 . ولكن المشكلة أن تركيا بحكم ضمها غير الشرعي للواء اسكندرونة أصبحت المهيمنة على المجرى الأدنى لنهر العاصي ، ولكن هذه السيطرة غير الشرعية لا تجعل من تركيا إحدى دول نهر العاصي ، كونها دولة احتلال لا يكسبها ذلك أي شرعية قانونية ، وهي تلعب بورقة العاصي للحصول على اعتراف سوري بشرعية ضمها للواء من جهة ، وللضغط على سوريا بالنسبة لحصتها من نهر الفرات من جهة أخرى .
بينما النهر الكبير الجنوبي الذي ينبع من شمالي جبال لبنان الغربية ( نهر الصفا في لبنان ) من جبال عكار ، ويصب في خليج عكار على مسافة 15 كم شمالي طرابلس ، بينما يشكل نهر راويل المنحدر من السفوح الجنوبية لجبال اللاذقية ، من هضاب العوجا الواقعة غرب برشين بإثنين كيلومتر المجرى الأعلى للنهر الكبير الجنوبي – بالتالي فإنه يوجد حوالي 20 كم من روافد النهر الكبير الجنوبي في كلا البلدين ثم يجتمعان ليشكلا النهر الحدودي الذي يساير الحدود السورية اللبنانية ويبلغ طوله 76 كم ، منها 65 كم في الأراضي السورية – هو خير مثال على تعاون دولتيه سوريا ولبنان ، ولكون اتفاقية تقاسم مياهه هي أول اتفاقية دولية وقعت بعد صدور اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية ، وهي اتفاقية 20/4/2002 مع ملحقيها – يتناول الأول منهما آلية دراسة وتنفيذ السد المشترك ، والثاني يحدد آلية إدارة الحوض واقتسام مياه النهر الكبير الجنوبي – التي عكست جميع المبادئ والقواعد الدولية الخاصة بذلك . فكانت بحق مثالاً يحتذى به على أن المياه قد تكون مصدراً للتعاون والرخاء للشعوب .
وقد بينت الدراسة الأوضاع الجغرافية لكل نهر وركزت على روافده ومياهه الجوفية بأرقام أقرب ما تكون إلى الواقع ، مبينة جميع العوامل التي تسهم في اقتسام مياهه والتي أوردتها اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية مع إعطاء الوزن لكل عامل منها بحسب أهميته في كل حالة نهرية ، تاركة تحديد مقدار الحصص المائية لكل من نهري دجلة والفرات إلى مختصي ومهندسي المياه ، لأنها أضحت خارجة عن اختصاص رجال القانون الذين حددوا العوامل والعناصر الأساسية للتقسيم ، وبقي تطبيقها على أرض الواقع من اختصاص الفنيين .
وبالتالي فإن جميع مصادر القانون الدولي سواء الأصلية منها ، أو الاستدلالية ؛ قد اتفقت على وجوب التوزيع العادل لمياه النهر الدولي بين دوله المتشاطئة ، والامتناع عن تغيير مجرى النهر ، أو إقامة منشآت من شأنها أن تمس بحصص الدول الأخرى ، وعلى احترام الحقوق المكتسبة للدول المستفيدة ، مع مراعاة حاجات كل دولة ، ومدى اعتمادها على النهر الدولي ، وإلزام الدولة المسببة للضرر ، بالتعويض المناسب عن الأضرار التي تلحق بالدول الأخرى .
وأن الأنهار الأربعة موضوع البحث هي أنهار دولية بجميع المقاييس والاعتبارات ، ولا بد من السعي إلى ترسيخ دوليتها ، وتطبيق القواعد الدولية الخاصة بالمجاري المائية الدولية عليها ، مع احترام حقوق وواجبات دولها ، مع العلم أن النظرة إليها قد تباينت بشكل واضح بحسب رغبة كل طرف ومصالحه ، وبالتالي فالمياه قد تكون مصدراً للتعاون والرخاء بين الشعوب ، أو قد تكون مصدراً للتوتر والقلق .
اترك تعليقاً