قواعد العدل والإنصاف في الشرع و القانون الليبي
السياسة الشرعية وقواعد العدل والإنصاف في القانون
عبد الله صيام
متخصص في الشريعة الإسلامية
ومحامٍ شرعي
مما يُعين على نمو الشريعة الإسلامية وتجدد التشريع الإسلامي وانطباقه على كل زمان ومكان السياسة الشرعية، وهو باب لا يكاد يدع شاردة ولا واردة من شؤون الناس ومتجدد وقائعهم ومتطور أحوالهم إلا جعل للشرع عليها سلطانًا وفيها للشريعة حكمًا – وتسميتها بالسياسة الشريعة أمر اصطلاحي وإنما هي جزء من الشريعة وناموس الحق المشتق من قواعدها وأصولها – فإذا لم يكن في أمر من الأمور نص في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أعمل الحاكم الديني فكره وآجال اجتهاده في قوانين الشريعة ونواميسها ومبادئها وأصولها حتى يشتق لهذا الأمر حكمًا – والسياسة التي هي بمحض الهوى والرأي أو التي تناقض نصًا في الشريعة ليست من السياسة الشرعية في شيء – فالسياسة الشرعية هي:
تعرف طريق العدل وأمارته وعلاماته في أمر من الأمور التي لم يرد فيها نص شرعي بالعقل – مع الاستئناس لذلك والاستعانة عليه بأصول الشريعة ونواميسها وأحكامها – وإنما قلت أنها جزء من الشريعة مع أن طريقها العقل مستعينًا بقواعد الشرع لأنها نوع من المصالح المرسلة التي أدخلها الأصوليون في باب القياس وإن كان هذا تسامحًا لأن قواعد القياس لا تنطبق عليها – ولكن لما كانت تقسيمات القياس التي أوردها الأصوليون ضبطًا لأنواعه وفروعه تشمل المصالح المرسلة وكان الشبه قويًا بينها وبين السياسة الشرعية قلنا إنها جزء منها فهي داخلة في القياس ولا تشذ عن الشريعة حين نحصرها ونرجع أحكامها إلى الأصول الأربعة، وقد ثبت ورود السياسة الشرعية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه رضي الله عنهم فحبس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تهمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم من غير حاجة إلى البينة الشرعية المعروفة، ومنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الغالّ من الغنيمة سهمه، ولعل عد الفقهاء هذا من السياسة الشرعية ولم يعدوه من السنة – والرسول مشرِّع – لأن ذلك كان باجتهاده – صلى الله عليه وسلم – على خلاف المنصوص في الكتاب وأرى اجتهاده – صلى الله عليه وسلم – من السنة لا من السياسة الشرعية – إذ سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – نص شرعي، والسياسة الشرعية إنما تكون حيث لا نص.
ومثال عمل الصحابة بالسياسة الشرعية تحريق عمر بن الخطاب حانوت الخمار وتحريقه قرية تباع فيها الخمر وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية، وحلقه رأس نصر بن الحجاج ونفيه وضربه لما كان فتنة للنساء، ومن ذلك ضرب عمر صبيغًا بالدرة لما تتبع المتشابه من القرآن وأخذ يلح في السؤال عنه لئلا يفتن العقوب ويضل الإفهام، وقد حد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الزنى بمجرد ظهور الحبل وفي الخمر بالرائحة والقيء ولا ريب أن الحبل والرائحة أبلغ في الدلالة وأقوى من البينة الشرعية، وهذا هو الدليل المادي المعتبر أقوى دليل في القانون الوضعي وقد حرق أبو بكر اللوطي وحكم علي بإلقائه من شاهق، ومن ذلك تحريق عثمان المصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع الناس عليه.
ومما يشبه السياسة الشرعية قواعد العدل والإنصاف في القانون الوضعي فكلاهما لا يلجأ إليه إلا حين لا يوجد نص وكلاهما طريقة العقل غير أن قواعد العدل والإنصاف يتعرفها القاضي القانوني باستلهام العقل واستيحاء الضمير فهي مطلقة لا يقيدها شيء وليس عليها من رقيب إلا ذمة القاضي وهداية عقله وقوة ذكائه، أما السياسة الشرعية فعليها رقيب من قواعد الشرع ومقاصده ومراميه فهي في مأمن من نزوات النفوس وزلات العقول ونزغات الضمائر دون ما يشبهها في القانون – وأصل قواعد العدل والإنصاف في القانون يرجع إلى فكرة الإغريق القدماء القائلة:
إن الله الذي خلق للجماد والنبات والأفلاك والحيوان نواميس ثابتة وقواعد مطردة تحدد تفاعلها ودورانها ونظام حياتها – قد جعل للإنسان أيضًا قانونًا طبيعيًا ثابتًا أزليًا لا يتغير منطبقًا على كل الأمم في كل زمان – وهذا القانون الطبيعي يحدد علاقة بني الإنسان بعضهم مع بعض فهو القانون العادل الثابت من الأزل ويعرف بالإلهام والعقل – وما يُسن من القوانين الوضعية إنما يقلد به الإنسان قواعد العدل الإلهي ويقرب ما استطاع نظام الإنسان الوضعي من نظام القانون الطبيعي، وقد انتقلت هذه الفكرة من اليونان إلى الرومان فجعلها الرومان عقيدة ثابتة من عقائدهم وسموها بقانون الأمم أي القانون الذي ينطبق على كل الأمم في كل زمان وجعلوا القانون الدولي الذي يحدد علاقة الدول والأمم بعضهم مع بعض جزءًا من القانون الطبيعي لاعتقادهم أن قواعده مستمدة منه، ومن هنا أصل تسمية القانون الدولي بقانون الأمم – وكان لفكرة القانون الطبيعي تأثير كبير في عقول المشرعين والمصلحين في عصر التمدين الحديث فاعتمد عليها القائمون بالثورة الفرنسية سنة 1789 في تقرير الحقوق الطبيعية للإنسان، ونص على هذه الفكرة في القانون الفرنسي في أول مادة منه ثم حذفت لا لأنهم لا يعتقدونها بل لعدم ضرورة النص عليها في قانون مسنون، ومن أنصار هذه الفكرة جروشياس الهولاندي وبافندورف الألماني ودوما الفرنسي، غير أن مما يجعلها نظرية صرفة لا عملية ما أثبته أصحاب النظرية التاريخية من أن القوانين الوضعية تتغير باطراد وتنشأ تدريجًا، وهذا ينافي أنها مأخوذة من القانون الطبيعي الذي لا يتغير حتى لقد قال بعض علماء القانون الذين أرادوا إحياء هذه الفكرة من جديد:
إن القانون الطبيعي هو مبادئ العدل والمساواة التي تكون ميزانًا تقاس به عدالة القوانين الوضعية، ولكن لما كانت هذه القواعد تتغير وتتطور تبعًا لرقي الأمم أو انحطاطها سموه بالقانون الطبيعي المتغير، وكأنهم عدلوا الفكرة هربًا من انتقاد التاريخين ومصادمة الواقع، إذ أن قواعد القانون الطبيعي على أنها أزلية ثابتة لا تتغير، ليس لها ضوابط ولا تعرف أحكامها بيقين وكل من اهتدى إلى فكرة في العصر الحديث يدعي أنها من القانون الطبيعي حتى لقد تضادت الأفكار والمبادئ وتضاربت مع ادعاء أنها من القانون الطبيعي فقال الاشتراكيون إن الاشتراكية من القانون الطبيعي ونظرية رأس المال خارجة عنه، وقال أصحاب نظرية الرأسمالية العكس – وهذا ينافي أن تكون قواعد القانون الطبيعي مضبوطة معروفة.
وبعد فليرجع القانونيون إلى قواعد الشريعة الإسلامية فإنها قواعد القانون الطبيعي الذي ينشدونه ويصبون إلى معرفة أحكامه فهي قواعد إلهية أزلية ثابتة لا تتغير أصولها ومبادئها العامة وتتغير جزئياتها وتفاصيل أحكامها اتباعًا لتطور الأمم وتغير الحوادث والوقائع في مختلف الأزمنة غير أن قواعدها لا تعرف بالإلهام المعرض للخطأ ولا بالعقل وحده.
على أنه عقل بشري يتأثر بالأهواء والأغراض وإنما تعرف قواعدها بالتوقيف من الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي نزل بها عليه الوحي الإلهي من خالق الشريعة وموجدها صالحة لكل الأمم في كل زمان بكلامه القديم الأزلي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قواعد معروفة، وأحكام مضبوطة، لا تستطيع أن تحوم حولها باعتراض أحدث النظريات القانونية لكمالها ودقة نظامها وإذا أراد القاضي الشرعي أن يتعرف الحكم الإلهي من قواعد القانون الطبيعي الإسلامي في أمر ليس فيه نص وجد لهذا القانون ضوابط وحدودًا معروفة توصله إلى العدل الحقيقي، أما القانون الطبيعي المزعوم أنه يعرف بالإلهام والعقل فليس له حدود ولا ضوابط، ومما يحقق أن القانون الطبيعي هو الشريعة الإسلامية قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه)، فسرت الفطرة بالدين الطبيعي وهو الإسلام، هذا ما هداني الله إليه في هذا المبحث فعلى من وجد نقصًا أن يُعقب عليه، والله ولي التوفيق والسداد.
اترك تعليقاً