نظرة على مهمات القاضي في مجال الفصل في الخصومات
د. إبراهيم بن ناصرالحمود / القضاء بالقرائن المعاصرة
من مهمات القاضي في مجال الفصل في الخصومات أن يسعى جاهداً لإثباتالحق أو نفيه.
فالمدعي مطالب بإثبات الحق المدعى به.
والمدعى عليه: مطالببنفي الدعوى المقامة ضده.
وطرق الإثبات التي نصت عليها الشريعة:
الإقرار: وهوكما يقولون (سيد الأدلة) لانتفاء نسبة الاحتمال إليه، ثم الشهادة وهي شهادة رجلينعدلين أو رجل وامرأتين كما دلت النصوص الشرعية على ذلك.
وفي حالة عدم وجودإقرار ولا شهادة ولا بينة وهي التي تسمى (الأدلة المباشرة)، فإن القاضي يلجأ إلىوسيلة أخرى غير مباشرة وهي المسماة بالقرائن:
والقرائن : جمع قرينة بمعنىالمصاحبة والمقارنة والملازمة:
والقرائن: لم تفرد في فقه المذاهب في باب مستقلوإنما تذكر في معرض الحديث عمن وسائل الإثبات في باب الدعاوى والبيانات، كما يقولالإمام الزيلعي في كتاب تبين الحقائق (وإن وصف أحدهما علامة –أي بالولد- فهو أحقبه) وهذا له أصل في الشرع كما في قصة يوسف عليه السلام (وإن كان قميصه قد من قبلفصدقت وهو من الكاذبين) فالقرينة في هذا المعنى هي العلامة.
وعرفها الجرجاني فيكتاب التعريفات بقوله: (هي أمر يشير إلى المطلوب) وهذا التعريف فيه إجمال إذ ليسمقصوراً على القرينة الشرعية عند الفقهاء.
وعرفها مصطفى الزرقاء في المدخلالفقهي العام (2/918) بقوله (كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً تدل عليه).
وتعريفات الفقهاء متقاربة ولعل هذا أقربها، ومن الأمثلة على ذلك سكوت المرأةالبكر فإنه قرينة على رضاها بالخاطب.
أقسام القرائن
1-تنقسم القرائن باعتبار مصدرها إلى:
l-قرائن نصية ثابتة بالكتاب أو السنة كالمثال السابق في قصة يوسف عليهالسلام، فشق القميص من الخلف قرينة على صدق يوسف وكذب امرأة العزيز. ومن السنة ماثبت في الصحيحين من قصة مجزز ابن الأعور لما دخل فرأى أسامة وزيد بن حارثة قد بدتأقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
II-قرائن فقهية:وهي التي استنبطهاالفقهاء باجتهادهم ومن الأمثلة على ذلك:
الحجر على المفلس بقرينة عدم الوفاءإذا ثبت أنه تصرف في أمواله بقصد إخفائها لتفويت حق الغرماء.
III-قرائنقضائية: وهي التي يستنبطها القاضي بفطنته وذكائه وهي دليل على الإثبات متى اقتنعالقاضي بها وغلب على ظنه صحتها، وقد ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية أمثلة عليهامنها:
ادعى رجل أنه سلم رجلاً وديعة فأنكرها فقال له القاضي أين سلمته إياها؟قال: في مسجد البلد فقال اذهب فجئني منه بمصحف فذهب ثم قال للمدعى عليه أتظنه بلغالمسجد قال لا فألزمه بالمال.
2-وتنقسم باعتبار علاقتها بمدلولها إلى قسمين:
I-قرائن عقلية: وهي التي يقوم العقل باستنباطهاكظهور الحمل على امرأة غير متزوجة قرينة على زناها، وكوجود الرماد في مكان دليل علىسبق وجود النار.
II-قرائن عرفية: وهي التي يدل عليها العرف والعادة وهي غيرثابتة قد تتبدل: كشراء الشاة يوم عيد الأضحى فهو قرينة على أنها أضحية وقد تكونلغير ذلك.
3-وتنقسم باعتبار قوة دلالتها في الإثبات:
أ- قرائن قوية: وهي التي بلغت حد اليقين:
مثالها: لو خرج رجل من داروفي يده سكين ملوثة بالدماء وثوبه ملطخ بالدم وهو خائف مضطرب. وبعد خروجه وجد الناسفي الدار رجلاً مقتولاً ولم يكن في الدار غيرهما. فهذه قرينة على أن ذلك الرجل هوالقاتل.
ب- قرائن ضعيفة: وهي التي تقبل إثبات عكسها فلا يصح الاعتماد عليهاوحدها بل تحتاج إلى دليل آخر لترتب الحكم عليها.
مثالها: إذا وقع نزاع بينزوجين في متاع البيت كل يدعيه له ولا بينه وكلاهما صاحب يد فيرجح قول كل منهما فيمايصلح له بقرينة المناسبة فما يناسب الرجال هو للزوج وما يناسب النساء فهو للزوجة.
ج- القرينة الكاذبة: وهي التي يتطرق إليها الاحتمال ولا تفيد العلم فلا يعولعليها في الإثبات لمعارضتها ما هو أقوى منها كدعوى إخوة يوسف أن الذئب أكله وجاءوابالدم على قميصه كقرينة على صدق قولهم لكن أباهم اكتشف كذبهم، لأنه لا يمكن أنيفترسه الذئب ويسلم القميص من التمزق، ولهذا قال لهم: (بل سولت لكم أنفسكم أمراًفصبر جميل) .
حكم العمل بالقرائن
للفقهاء في ذلك قولان:
1-جواز العملبها في طرق الإثبات وهو قول بعض الحنفية وابن فرحون من المالكية والعز بن عبدالسلام من الشافعية وابن القيم من الحنابلة.
2-منع العمل بالقرائن وهو قول بعضمتأخري الحنفية والقرافي من المالكية.
-استدل القائلون بالجواز بما ورد في قصةيوسف عليه السلام كوجود الدم على قميصه قرينة على كذبهم. وكذا قصته مع امرأة العزيزوشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه.
-قوله تعالى: “تعرفهمبسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً” فيعرف فقر كل واحد منهم من العلامات التي تبدوعليه من التواضع والخشوع والخجل من سؤال الناس وما يظهر من الجهد وضعف البنية.
-ما ثبت في دلالة الحيض على عدم وجود الحمل.
والأدلة كثيرة وقد حكى ابنقدامة إجماع الصحابة على العمل بالقرائن.
ومن المعقول: فإن عدم العمل بالقرائنيؤدي إلى ضياع الحقوق.
واستدل القائلون بالمنع بحديث (لو كنت راجماً أحداً بغيربينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها ومن يدخل عليها) والحديث صحيحالإسناد ويحمل هذا على أن تلك القرائن ضعيفة لا يعتمد عليها في إثبات الحد لأنهامجرد تهمة وشك، والحدود تدرأ بالشبهات.
وقالوا: إن القرائن مبنية على الظنوالتخمين والظن أكذب الحديث.
وأجيب عليه: بأن الظن المذموم هو الضعيف الذي لاتبنى عليه الأحكام، ولهذا قال تعالى: (إن بعض الظن إثم) مما يدل على أن منه ما هوحق.
القول الراجح:
جواز العمل بالقرائن لقوة أدلة القائلين بذلك ومن المرجحات:
1-إن عدم الأخذ بالقرائن يؤدي إلى ضياع الحق خاصةفي العصور المتأخرة حيث كثرت وسائل التحايل والتستر وقلب الحقائق.
2-أنالقرائن نوع من البينات، وقد جرى الاتفاق على حجية البينة.
والعمل بالقرائن ليسعلى إطلاقه وإنما في حال عدم وجود بينة أقوى منها وعندما تكون الأدلة عند القاضيغير كافية.
والعمل بالقرائن لا يعني التوسع فيها وإنما في نطاق ضيق إذا دعتإليها الحاجة.
يقول ابن القيم (إن أهملها الحاكم أضاع حقاً كثيراً وأقام باطلاًكبيراً وإن توسع وجعل معموله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع الظلموالفساد).
القرائن المعاصرة
القرائن المعاصرة لها ارتباط وثيق بمسرح الجريمة، وقد تطورت تبعاًللتطور العلمي الذي يشهده العالم اليوم.
وهي تقوم على أساس أسلوب الاستشاراتالفنية والبحوث والخبرة في مجال الإثبات والبحث الجنائي ومنها:
1-مقارنة الخطوطوالكتابات عند التزوير.
2-الفحص الطبي المثبت للدعوى للتوصل إلى معرفة الجانيوسبب الوفاة وهو ما يسمى بتقرير الطبيب الشرعي.
3-الحمض النووي: وهو البصمةالوراثية القائمة على معرفة الصفات الوراثية للجنس البشري.
4-التحاليلالمعملية لماديات الجريمة سواء كانت ظاهرة أم خفية لتكون أدلة علمية لكشف الجريمةومرتكبها ومنها:
آثار الشعر، المقذوفات النارية، آثار الأقدام، مقارنة البصمات،الروائح، فحص الدم، المني، التصوير، التسجيل.
1.القضاء بقرينة المستندات الخطية
صورتها: إذا ادعى شخص على آخر وأثبت حقه بموجب كتابةرسمية أو عادية فهل تكون هذه الكتابة حجة رسمية يعتمد عليها في إصدار الحكم إثباتاًأو نفياً.
حجيتها: الراجح من قول الفقهاء أن الكتابة (الخط) تعد من وسائلالإثبات في الحقوق للأدلة الدالة على ذلك كآية الدين وحديث الوصية، وحاجة الناسإليها ماسة لاستيفاء حقوقهم وإبراء الذمم، وقواعد الشريعة ومقاصدها تقتضيها لحفظالحقوق ودفع الحرج.
ومن ذلك: الكتابة على الجدار بأن المنزل وقف، وقد حكم بذلكالإمام أحمد –رحمه الله- وقد تكون الكتابة مستنداً رسمياً كالصكوك، وما يصدر منكتابة العدل، وشهادة الميلاد …الخ. ويشترط في كاتبها العدالة.
وفي حالالاعتراض على الكتابة بالتزوير فهي دعوى تحتاج إلى دليل وإلا فالأصل إلغاؤها ووجوبالعمل بالسندات الرسمية هو ما نص عليه نظام القضاء والأعمال الإدارية في المملكة.
حجية الكتابة في إثبات النسب:
إذا أنكر رجل بنوةآخر يدعي عليه أنه ابنه ولا يوجد ما يثبت نسبه إليه إلا ورقة مكتوبة بخطه فهل تثبتنسبته بهذه الورقة؟
فإن كانت الورقة مجردة عن الإشهاد، والمدعي امرأة، وكاتبالورقة ميت فلا تعتبر دليلاً على الإثبات، حتى لا يكون ذريعة للنساء بحيث كل امرأةتقدم على الفاحشة تدعي مثل ذلك لدفع العار عنها.
فلا تسمع دعوى النسب عندالإنكار إلا إذا كانت ثابتة بشاهدين أو كانت الورقة رسمية كشهادة الميلاد.
فإنكان الكاتب حياً: فإن أقر فيها، ثبت النسب بالإقرار.
فإن أنكر ، فهناك قرائنأخرى لإثبات النسب كالتحاليل المخبرية والبصمة الوراثية وهناك مستندات أخرى خطيةغير معدة للتوثيق كالرسائل البريدية، والبرقيات والتلكس والفاكس. وللفقهاء فيهاتفصيلات لا يتسع المقام للحديث عنها.
2/القضاء بقرينة محضرالشرطة
المحضر: صورة صادقة لما يتم من إجراءات وهو أعم من التقريرلاشتماله على الوقائع وكلام الخصوم وحججهم والجواب عنها. وقد يشتمل على رسم تخطيطيلمكان الحادث. وللقاضي سلطة الاقتناع بما في المحضر أو عدم اقتناعه به، وله تركهوالاعتماد على أدلة أخرى فالمحضر ليس بحد ذاته حجة على ما ورد فيه. لكنه خير معينللقاضي في التعرف على ملابسات القضية كأن يكون فيه شهود عيان، أو قرائن مادية أومعنوية تنير له الطريق.
وفي حال عدم اقتناع القاضي بما ورد في المحضر أوالتقرير يطلب إثباته بوسائل أخرى.
مثاله: تقرير أو محضر تصادم بين سيارتين نتجعنه وفاة أحد السائقين وقد أثبت التقرير نسبة الخطأ على كل منهما. فقد يؤدي نظرالقاضي إلى العكس.
3/القضاء بقرينة الفحص الشرعي (الطبي)
للطب الشرعي في مجال الإثبات دور بارز خاصة في مجال الجنايات، مما يؤكدمعرفته لكل طبيب. خاصة طبيب النساء والولادة لإثبات حالات الإجهاض أو الولادة، أوالاغتصاب. ومن يقوم بالعمليات الجراحية. يقدم تقرير عن أسباب الكدمات والجروح ومدىخطورتها ومضاعفاتها ومدتها.
وكذا إثبات حالات التسمم الانتحاري أو الجنائي.
وقد ساهم الطب الشرعي في حل كثير من المشاكل التي تعترض سير القضاء منها:
1-قضايا أخطاء مهنة الطب والصيدلة.
2-فحص المسجونين في حال دعوى المرضلمعرفة الحقيقة.
3-فحص حالة الجنون لمن ادعاه خوفاً من العقاب.
4-التعرفعلى المجهولين من الأحياء والأموات في حال هرب الأحياء من يد العدالة وتغييرملامحهم، وفحص الجثة معرفة سبب الوفاة وهو علم واسع يسمى (بالتشريح الجنائي).
5-فحص المتهم بالزنا، أو من تناول سكراً بتحليل دمه.
6-إثبات العيوب بينالزوجين عن طريق الفحص الطبي.
7-إثبات النسب بتحليل فصيلة الدم لمعرفة تقاربهامع مدعيه.
8-الفحص الطبي لإثبات جريمة الغش التجاري.
ونفصل القول في مسألتين:-
الأولى: القضاء بقرينة الفحص الطبيفي إثبات النسب أو نفيه:
(العلامات الوراثية)
كان الاعتماد في السابق في إثبات النسب على القيافة في حال تعذرالإقرار أو الشهادة وفي العصر الحاضر تم اكتشاف العلامات الوراثية عن طريق تحاليلالدم المخبرية.
فالدم: يشتمل على العديد من تلك الصفات الوراثية الموروثة منالأب والأم بحيث يأخذ الولد نصف الصفات من أبيه الحقيقي والنصف الآخر من أمه عنطريق الحيوان المنوي للرجل، والبويضة للأنثى.
(العلامات الوراثية الموجودة فيالدم) منها:
1/فصائل الدم الرئيسية:
فلكل إنسانصفات وميزات في دمه تختلف عن الآخر بدليل أنه لو خُلط نوعان من الدم مختلفين لميمتزجا إذا كانا من فصيلتين مختلفتين وهي أربع فصائل: أ،ب،أب،صفر.
وهذه لهاخصائص يعرفها الأطباء:
طريقة تحديد فصيلة الدم: بواسطة الميكروسكوب.
وفصيلةالدم التي تحددت فإنها تبقى ثابتة لكل شخص وتنتقل من الوالدين إلى الولد.
2/بصمة الحمض النووي:
لإثبات تميز إنسان عن آخر يمكن بواسطةالحمض النووي الذي يوجد في خلايا الجسم ما عدا كرات الدم الحمراء حيث ليس لها نواة.
ونواة كل خلية من خلايا الجسم تحتوي على (23)زوجاً من الكروموزومات منها (22)متماثلة بين الذكر والأنثى. ويختلفان في واحدة وهي الكروموزومات الجنسية ولكل خلايارمز خاص بها.
فمثلاً يمكن عن طريق خلايا الشعر معرفة هل هو لذكر أم لأنثى، وكذافي التعرف على الدم، واللعاب، والجلد.
ووجد أن وحدة بناء هذه الكروموزومات هوالحمض النووي. وكل حمض نووي يتكون من سلاسل حلزونية يلتف بعضها حول بعض. وهذاالتسلسل يختلف من شخص لآخر. ولا يحصل تشابه إلا في حال التوائم المتشابهة لأن أصلهابويضة واحدة وحيوان منوي واحد.
ويطلق على هذا العلم (البصمة الوراثية) نظراًلهذا الاختلاف وهذا الحمض النووي أو المعلومات الوراثية هي المسؤولة عن صفاتالوراثة المكتسبة منذ بدء خلق الإنسان: وهي (الموروثات التي تدل على كل إنسانبعينه).
وما توصل إليه العلم الحديث في اكتشاف بصمة الحمض النووي ما هو إلافيما يتعلق بالصفات الوراثية ولم يعلم سوى ذلك من ملايين المعلومات عن الإنسان فيحياته وبعد موته (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
حجية العلامات الوراثية في إثبات النسب
أ- فصيلة الدم:
تقدم أن كل إنسان يرثصفاته من أبيه وأمه مناصفة سواء كان دم الأبوين من فصيلة واحدة أو من فصيلتينمختلفتين.
ومتى وجدت زمرة دموية في طفل لا توجد في مدعيه يمكن الاعتماد على ذلكفي نفي نسبه منه.
وفي حال توافق الفصائل بين الطفل ومدعيه فإن هذا ليس قطعياًفي إثبات نسبه لأن الفصيلة الواحدة قد يشترك فيها أناس كثيرون يحتمل أن يكون أبوالطفل واحداً منهم.
مثال: لو ولدت امرأتان في مستشفى واختلط الولدان وتعذرتمييزهما فيمكن عن طريق تحليل الدم معرفة نسب الولد الصحيح. وفي حال اختلاف الفصائليكون التحليل قاطعاً في نفي النسب أما في حال التوافق بإلحاقه من باب الاحتمال فقط.
فيمكن الاعتماد على قرينة اختلاف فصائل الدم في نفي نسب الولد في غير الحالةالتي يجب فيها على النافي اللعان وهي حال قذف الزوج زوجته.
ومتى ثبت عدم نسبةالولد إليه بواسطة العلامة الوراثية فلا حاجة إلى اللعان عند بعض الفقهاء، لأناللعان يمين وهي إنما وضعت لتحقق ما يحتمل الوقوع وعدمه وفي هذه الحالة لا يمكن كونالولد من الزوج فلم يحتج في نفيه إلى لعان.
ب/ بصمة الحمض النووي
وتسمى البصمة الوراثية، وهي تختلف من شخص لآخر نظراً لاختلافالصفات الوراثية ويمكن بواسطتها تحديد البنوة لأن هناك تشابهاً بين الشخص وولديه فيهذا الحمض. فإن وجدت الصفات الوراثية الموجودة في الابن نصفها في الأم والنصف الآخرغير مطابق لصفات الأب المدعي فهذا يدل على أنه ليس هو الأب الحقيقي والعكس صحيح.وهذا يتم بعمل بصمة الحمض النووي لكل منهم ومطابقتها.
وبناء على ذلك وما قررهالأطباء من أنه لا يوجد تشابه بين شخص وآخر في الحمض النووي ما عدا الابن مع والديهفإن تلك القرينة تعد قاطعة في إثبات النسب إذا تشابه المدعي به مع المدعيين له فيهذا الحمض أما إذا اختلفت فهي قرينة قاطعة على نفي النسب ولا تقبل الشك.
أمافصائل الدم فهي قرينة قاطعة في نفي النسب دون إثباته.
الأدلة من الشرع على حجية العلامات الوراثية:
1-لذلك أصل في الشرع كما في حديثالرجل الفزاري الذي جاء للنبي (صلى الله عليه وسلم) يريد نفي ولده لوجود اختلافبينهما في اللون فقال: (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال. هل لك من إبل؟ قال: نعمقال: ما ألوانها؟ قال حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى لها ذلك؟قال: لعله نزعة عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعة عرق.
2-كذلك اتفق جمهور الفقهاءعلى العمل بالقافة في إثبات النسب بناء على العلامات الظاهرة التي يعرفها القائف.كما ورد في حديث مجزز المدلجي في قصة أسامة بن زيد. وزيد بن حارثة.
يقول ابنالقيم –رحمه الله- (أصول الشرعوقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوقالنسب والشارع متشوف إلى إيصال الأنساب وعدم انقطاعها).
ويكون الشبه دليلاً علىنفي الولد استناداً لحديث المرأة التي لاعنها زوجها وهي حامل فقال الرسول –صلى اللهعليه وسلم- انظروا إن جاءت به أسهم أدعج العينين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلاقد صدق. وإن جاءت ابن أحيمر كأنه وحرة فلا أحسبه إلا كذب عليها فجاءت به على الوصفالأول فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولهاشأن) فجعل الشبه دليلاً على نفي النسب.
والأخذ بقرينة الشبه والقافة على نفي النسب أو إثباته لا ينافي العمل بالعلامات الوراثية. بل العمل بالعلامات الوراثيةأولى لأن نسبة الخطأ فيها نادر بينما نسبة الخطأ في الشبه والقافة واردة لكونهاتقوم على الظن والخبرة.
فالفقه الإسلامي لا يمنع من الأخذ بالوسائل الطبيةالحديثة في إثبات النسب أو نفيه.
كما أن الاعتماد على العلامات الوراثية في نفيالنسب لا يعارض قرينة الفراش إذا ثبت أن الولد مولود لزوجين على فراشهما حسبالقرينة الظاهرة لأن العمل بالعلامات الوراثية إنما يكون إذا لم يعارضها ما هو أقوىمنها، ومتى وجد معارض أقوى كالفراش حكمنا به، لأن القرائن يقدم فيها الأقوىفالأقوى، والفراش أقوى لحديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
الفحص الطبي المثبت للاعتداء على النفس وما دونها
إذا تعذر إثبات ذلك بالشهادة والإقرار تتجه المحكمة إلى طلب إجراءالفحص الطبي التشريحي لإثبات أن الوفاة كانت جنائية أو أنه اعتداء على ما دونالنفس.
وللتشريح ثلاثة أغراض:
أ/ إثبات جريمة القتلبتشريح الجثة:
إذا لم يعلم سبب الوفاة واشتبه في وجود جريمة تدخل الطب الشرعيفي فحص الشخص المتوفى ومعرفة سبب وفاته هل هي طبيعية أم ناتجة عن جريمة اعتداء ممايعين عند التحقيق على توجيه التهمة للفاعل، ومعرفة نوع السلاح المستخدم.
ب/وكذا لو كانت الوفاة غير جنائية لمعرفة نوع المرض الذي مات بسببه من أجل الوقايةمنه وعلاجه في المستقبل فلكل داء دواء. والأحاديث في الأمر بالتداوي مستفيضة والأخذبالأسباب لا ينافي التوكل.
ج/ وكذا التشريح لغرض التعليم، فعلم التشريح له باعواسع في كليات الطب وهو من العلوم النافعة والضرورية في وقتنا الحاضر حيث لا يمكنالاقتصار في التشخيص على الفحص السريري في بعض الحالات.
فتشريح الجثة جائزشرعاً للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، ففي حال الاشتباه في سبب الوفاة فإنالتشريح يزيله فيتوصل به إلى الحقيقة حفظاً لحقوق الأولياء وإعانة على حفظ
الأمن،وردع أمثال الفاعل من المجرمين وقد يثبت التشريح نتائج سلبية ويحكم بأن الوفاةعادية فتحصل براءة الذمة.
كما أن المصلحة الراجحة مقدمة على المفسدة المرجوحةوهي انتهاك حرمة الميت.
مثال: لو ابتلع شخص مالاً ثم مات فطلب صاحب المال رده،يشق جوفه ويرد المال على صاحبه، ذكره النووي في روضة الطالبين (2/141) وابن قدامةفي المغني (2/552).
وكذا مشروعية التشريح لأجل التعلم فإن طب الأجسام وعلاجالأبدان أمر مشروع والتشريح من الوسائل المفيدة في ذلك والوسائل لها حكم الغايات.
*وقد صدرت الفتوى من هيئة كبار العلماء بجواز التشريح تحقيقاً لمصالح كثيرة فيمجالات الأمن والعدل سواء كانت الجثة معصومة الدم أم لا.
أما التشريح لأجلالتعليم فإن الضرورة منتفية فيكتفى بتشريح جثث غير معصومة.
القرائن المادية
كل جريمة تترك وراءها من الدلائل والعلامات ما يتوصل به إلى معرفةالفاعل مهما حاول المجرمون طمس معالم الجريمة وإخفاء آثارها، وقد أثبتت التجاربالعلمية المخبرية التوصل إلى المجرمين بواسطة القرائن المادية التي تخلف الجريمة.
وقد اتجهت الدراسات الحديثة إلى الاستفادة من الوسائل الحديثة لإثبات الجريمةوكشف مرتكبيها من خلال الآثار المادية التي يتركها الجاني في مكان الجريمة. وتختلفحالة الآثار باختلاف الجريمة من حيث نوعها وأسلوب تنفيذها ووسائلها المستخدمة فيالتنفيذ.
والآثار المادية نوعان:
أ/ آثار مادية ظاهرة. ب/ آثار مادية خفية.
أولاً: الآثار المادية الظاهرة:
(أ) آثار الشعر:
وجود الشعر في مكان الجريمة يساعد على تفسير ملابساتها ويساعد المحققعلى معرفة نوعه وعلاقته بالجريمة.
وللشعر خاصية عجيبة في التعرف على الجريمةوالفاعل لما يختص به من صفة الالتصاق بالأجسام الصلبة. وله صفة امتصاص تساعد علىمعرفة نوع المشروب ومدة بقائه في الجسم.
مما يستوجب المحافظة على عينة الشعرحتى تبقى على طبيعتها التي وجدت عليها.
طريقة فحص الشعر
يتم ذلك بالطرق التالية:
1-تفريق الشعر عن الألياف عن طريقإجراء اختبارات كيميائية.
2-التفريق بين شعر الإنسان والحيوان عن طريقالميكروسكوب.
3-معرفة من يخصه الشعر من الجنس البشري.
4-هل الشعر يخصذكراً أم أنثى عن طريق فحص خلايا الشعر.
5-معرفة موقع الشعر من جسم الإنسان.
6-معرفة صاحب الشعر عن طريق فصيلة الدم من الشعر والمقارنة أو عن طريق التحليلالإشعاعي ويحتاج إلى مزيد من الدراسات حتى يمكن تحديد الجاني بدقة أكبر.
*أوعن طريق بصمة الحمض النووي لكل من الشعر المعثور عليه والمتهم، ومطابقة النتيجةلمعرفة صاحب الشعر، لأن التشابه في هذه الحالة غير وارد.
قوة قرينة الشعر في الإثبات أو النفي:
بعد فحص الشعر فإما أن يتشابه بشعر المتهم أو يختلف، فإنتشابه عن طريق فصيلة الدم المأخوذة من الشعر والبروتين الموجود في الشعر فإن هذايزيد الشك في المتهم ولكي يزول هذا الشك لابد من استخدام فحص الحمض النووي DNAلكلمن الشعر المعثور عليه وشعر المتهم ففي حال المطابقة نجزم بأن هذا الشعر يخصالمتهم. لأن بصمة الحمض النووي قرينة قوية في الإثبات أو النفي لا تقبل الشك.
س/ هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟
ج/ هذه المسألة محل خلافعند الفقهاء: والذي يترجح -والله أعلم- أنه يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية فينفي النسب مادامت النتيجة قطعية كما ترد دعوى الزوج بنفي النسب إذا أثبتت البصمةالوراثية خلاف ذلك لمخالفة قول الزوج للحس والعقل. وينبغي للقضاة أن يحيلوا الزوجينقبل اللعان لفحوص البصمة الوراثية. لأن اللعان مشروط بعدم وجود بينة. فإذا كان لأحدالزوجين بينة تشهد فلا وجه لإجراء اللعان كما لو صدقته الزوجة فلا وجه لإجراءاللعان مع وجود بينة قاطعة.
(ب) قرينة المقذوفات النارية:
الأسلحة النارية أداة مهمة من أدوات الإجرام بل هي في مقدمة الوسائلالمستخدمة في جرائم القتل.
ومن آثارها ما يفيد في التعرف على نوع السلاحالمستخدم وتحديد عياره كالمقذوفات، والظروف الفارغة وهذا يفيد المحقق في التعرف علىمرتكب الجريمة، لأن لكل جرح ما يناسبه من السلاح، ومعرفة ما إذا كان السلاح المضبوطمن نفس عيار المقذوف المستخرج من حجم المجني عليه ويتم ذلك بالفحص في مختبراتالأسلحة النارية.
(ج) قرينة آثار الآلات
لا يخلومكان الجريمة –غالباً- من الآلات تبقى آثارها في مسرح الجريمة كالفأس، والسكين وكلآلة حديدية قاتلة أو آلة خشبية، ومتى تم ضبط الآلة المستخدمة أمكن إجراء المقارنةالمخبرية للبحث عن الآثار التي قد تكون عالقة بالآلة كذرات الخشب أو الحديد- أووجود خدوش على الآلة نتيجة الاستخدام أو آثار دم. أو طلاء، أو شعر ويستخدمالميكروسكوب في عملية المقارنة.
وإذا لم يمكن العثور على الآلة فيمكن معرفتهاعلى وجه التقريب وبواسطة الآثار الناتجة عنها.
يمكن القول بأن آثار الآلات هي: (الخطوط الدقيقة التي تحدثها الآلة على سطح الجسم).
وأثر الآلة على سطح الجسميمكن مشاهدته إما بالعين المجردة أو عن طريق استخدام العدسات المكبرة وينتج هذاالأثر إما بسبب انزلاق الآلة على الجسم أو ترددها عليه، أو الضغط القوي.
ويتمفحص أثر الآلة عن طريق مضاهاة الأثر مع أثر مماثل للآثار التي عثر عليها بواسطةالميكروسكوب، ليتم معرفة نوع الآلة وعددها وتعدد الجناة، ومهارة الجاني، واليد التياستخدمها، وزمن الاستخدام التقريبي عن طريق دراسة البرق المعدني وما طرأ عليه منتغيير نتيجة الصدأ.
وقرينة أثر الآلة من القرائن الضعيفة لأنها مبنية على الظنوالتخمين، لما بين الآلات من التشابه، وقد لا تكون الجريمة مقصودة إذا ادعى المتهماستخدام الآلة لغرض آخر.
ثانياً القرائن المادية الخفية
وهي أنواع منها:
1-قرينة آثار البصمات.
2-قرينة آثار بقع الدم.
3-قرينة آثار بقع المني.
4-قرينة آثار الروائح.
أولاً: قرينة آثار البصمات:
البصمة: هي تلك الخطوط والنتوءاتالبارزة وما يصيبها من قنوات صغيرة تشكل معاً أشكالاً خاصة توجد في أصابع اليدينوالقدمين وراحة اليدين وباطن القدمين.
وتترك آثاراً عند ملامستها السطوحالمصقولة. ويرجع تاريخ البصمات إلى ما قبل 1000عام.
وأول من استخدم البصمات فيالتحقيقات الجنائية: الصينيون، ولم تكن في ذلك الوقت مبنية على دراسة علمية وفي عام1858م تعددت الدراسات والبحوث في علم البصمات وتطورت على مرور الزمن حتى ظهرتللوجود وأثبتت نجاحاً باهراً في مجال التحقيق الجنائي.
ويعثر على وجود البصماتغالباً على الأشياء التي لامسها الجاني بيده أو قدمه كزجاج النافذة، أو مقبض الباب،أو الدولاب، أو الخزانة التي فتحها، أو على الآلات التي كان يحملها وتركها في موقعالحادث.
وتحتاج معرفتها إلى خبراء متخصصين لمعاينة مكان الجريمة لرفع آثارالبصمات ويؤخذ في الاعتبار اختلاف هذه الآثار من حيث الوضوح وعدمه.
ويتم إظهارالبصمات الخفية بإحدى طرق ثلاث:
أ- بواسطة المساحيق لها قدرة على الالتصاق علىموضع الفحص إذا كان مستوياً لا نتوءات فيه.
ب- الأشعة فوق البنفسجية، إذا كانالسطح ذا ألوان بعد رشه بمادة تلتصق بمادة الأثر وتظهر خطوطه ويتم تصويرها بعد ذلك.
ج- الطرق الكيميائية. خاصة إذا مضى على البصمات زمن طويل وغالباً تكون للأسطحنصف مسامية كالورق، والمستندات وقد أثبتت الدراسات بصمتين لشخصين مختلفين.
أهمية آثار البصمات
1-الكشف عن سوابق المتهمين في حال عودة المتهم إلى الإجرام.
2-إثبات شخصية الطفل بعد الولادة عن طريق بصمات قدمه اليمنى حيث تسجل علىنموذج خاص يسلم للوالدين تلافياً لخطأ اختلاط المواليد.
الخطوات التي يتبعها المحقق لتقديم هذه القرينة للقضاء
1-استخراج العلامات المميزة للبصمة المنقولة من مكان الحادث وإعطاء كل علامة رقماًيخصها
2-تطبق العلامات المميزة على بصمة المتهم، فإن تطابقت 12 علامة مميزة منحيث الشكل والموقع في البصمتين يمكن القول بأنهما لشخص واحد وهذا يحتاج إلى تكبيرحجم البصمتين خمس مرات.
3-يقوم الخبير بعمل تقرير واف يضمنه رأيه مع ذكرالأسباب التي اعتمد عليها.
وللمحكمة الحق في استدعائه لمناقشة تقريره فيالجلسة.
*لقد أصبحت البصمات دليلاً قوياً لا يحتمل الشك في إثبات الجريمة إذاتوفرت الخبرة في التعامل معها فهي قرينة قاطعة في الإثبات أو النفي في حال التطابقأو عدمه.
ثانياً/ القضاء بقرينة آثار بقع الدم
تعتبر البقع الدموية من أهم الآثار المادية التي يجدها المحقق في موضع الحادث،والتي يتعين عليه فحصها لتقديم معلومات تفيده في الكشف عن الجاني وهل هي من دمه أودم المجني عليه.
وتفيد البقع الدموية في معرفة ما يلي:
1-معرفة مكانالجريمة.
2-الوضع الذي كان عليه المصاب وقت إصابته.
3-تحديد اتجاه سيرالمصاب.
4-المسافة بين الجاني والمجني عليه.
وتعتبر البقعة الدموية قرينةقوية ضد المتهم: إذا وجدت البقعة الدموية المطابقة لفضيلة المجني عليه على المتهمأو ما يتعلق به. وكذا بواسطة تحليل بروتين بلازما الدم للبقعة الدموية ودم المجنيعليه لأن التشابه في هذا النوع قليل جداً، وفي حال عدم توفر ذلك فإنها تكون قرينةقاطعة على نفي التهمة إذا كان اتهامه بوجود البقعة على جسمه أو ما يتعلق به. وكذاتكون قاطعة في النفي والإثبات بواسطة بصمة الحمض النووي المسماة DNA.
مميزات بصمة الحمض النووي عن غيرها من وسائل الإثبات الحديثة
1-أنها قرينة نفي وإثبات بخلاف فصائل الدم فهي وسيلة نفي فقط.
2-يمكن تطبيقها على كافة التلوثات الدموية –السائلة- والجافة، والقديمة. حيثثبت أن هذا الحمض يقاوم الظروف الجوية المختلفة.
3-تظهر آثارها بواسطة خطوطبواسطة خطوط يسهل قراءتها وتخزينها في الحاسب الآلي.
4-بصمة الحمض النووي هيأصل كل العلامات الوراثية، ومتى حصل أي خلل في الحمض النووي فإنه يظهر على صورةمرض.
اترك تعليقاً