بقلم ذ سعيد أرجدان
المحامي بهيئة الدار البيضاء
ثار نقاش في الاونة الاخيرة حول وجوب تعديل مقتضيات مدونة الاسرة التي تسري على نظام الارث بما يكفل المساواة المزعومة بين الذكور و الاناث، مما أدى إلى إحداث نوع من التشكيك في عدالة هذا النظام بين فئات واسعة من المجتمع المغربي، و انبرت فئات أخرى من العلمانيين المتطرفين لحشد أقلامهم و شحذها غمزا و لمزا في عدالة التشريع الاسلامي عامة، و كثرت الدعاوى الجوفاء بضرورة تحديث الشريعة و أنسنتها ( كذا) و فتح باب ما توهمه هؤلاء اجتهادا و قراءة معاصرة لأحكام الشريعة بما يتوافق في زعمهم مع اتفاقيات حقوق الانسان و منع أشكال التمييز ضد المرأة.
و الغاية من هذا المقال بيان تهافت دعاوى هؤلاء و كونها لا تتعدى دائرة الاوهام، بغض النظر عن الاهداف المغرضة التي تتخفى وراء ستار مثل هذه الخرجات الاعلامية، التي يتزعمها تيار نافذ يتوسل برأسماله الاجتماعي و الثقافي متصدرا المحافل المشبوهة.
و الملاحظ أن دعاوى عدم مساواة نظام الارث الاسلامي تتركز اساسا على الطعن في أحكام الاية الكريمة التالية ( يوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً )، و الحال أن مثل هذا التركيز فيه نوع من التغليط للمتلقي لهذا الخطاب النقدي، لأنه لا يراعي السياق العام لأحكام الارث في مجموعها من جهة، كما أنه ينحصر في جميع الاحوال في استهلال الاية فقط اي في قوله تعالى (يوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ) و لا يسري على باقي الاحكام التي تلت هذا الاستهلال.
و قبل بيان بعض تجليات عدالة قانون المواريث الاسلامي و عدم محاباته لطرف دون آخر من أقارب المتوفى، لابد من التذكير من كون أحكام القرآن توقيفية من حيث الاصل، لأنها فرع تابع لصحة الاعتقاد في قدسية هذا النص و كونه وحيا منزلا، مما يكون معه التسليم بهذه الاحكام و الانقياد لها يدور وجودا و عدما مع صحة الاعتقاد، و في هذا المعنى يقول الشهيد سيد قطب في سياق تفسيره للآية المذكورة سابقا
(إن الله هو الذي يوصي , وهو الذي يفرض , وهو الذي يقسم الميراث بين الناس – كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء , وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة – ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين , وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم – وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم – وهذا هو الدين .
فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده ; وليس هناك إسلام , إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور – جل أو حقر – من مصدر آخر .
إنما يكون الشرك أو الكفر , وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس)
و يضيف الاستاذ الشهيد سيد قطب (وإن ما يوصي به الله , ويفرضه , ويحكم به في حياة الناس – ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم , وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم – لهو أبر بالناس وأنفع لهم , مما يقسمونه هم لأنفسهم , ويختارونه لذرياتهم ، فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا . وإنما نحن أعرف بمصالحنا … فهذا – فوق أنه باطل – هو في الوقت ذاته توقح وتبجح، وتعالم على الله، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول ..)
و يلاحظ الاستاذ سيد قطب أن مثل هذه الدعاوى المثارة في العصر الحديث أثيرت بكيفية أخرى أثناء نزول الوحي، ويقول في ذلك (فهذا كان منطق الجاهلية العربية , الذي كان يحيك في بعض الصدور ; وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة . . ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم – وهي تواجه فريضة الله وقسمته – لعله يختلف كثيرا أو قليلا عن منطق الجاهلية العربية . فيقول: كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري ? وهذا المنطق كذاك . . كلاهما لا يدرك الحكمة , ولا يلتزم الأدب ; وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب ! )
و بغض النظر عن الصفة التوقيفية لنظام المواريث الاسلامي، فإن التأمل في صيغة الاية السابقة يتبين أن المولى عز و جل جعل نصيب الانثيين هو المقدار الذي يقدر به نصيب الذكر، و في ذلك نكتة لطيفة أوردها جمع من المفسرين، و ممن أشار إلى هذا المعنى الامام ابن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير إذ يقول في ذلك
( (وقوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحاً لأن يؤدّى بنحو: للأنثى نصف حظّ ذكر، أو للأنثيين مثلّ حظّ ذكر، إذ ليس المقصود إلاّ بيان المضاعفة. ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد عُلم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات. )
و غني عن البيان أن من بين أسباب استحقاق الذكر مثل حظ الانثيين في هذه الاية مراعاة الالتزامات التي تقع على الرجل بخصوص النفقة و إعفاء المرأة منها، و إن كنا نعتقد أن هذا يبقى سببا من الاسباب التي لا تقع على سبيل الحصر كما توهم ذلك غلاة العلمانيين و من حذا حذوهم ممن يزعم حدوث ظروف جديدة من شأنها إلغاء هذه الاية، و هي تلك الظروف المتعلقة بولوج المرأة لسوق العمل و مشاركتها للرجل في تحمل كثير من التكاليف في الواقع العملي، كأن المرأة لم تكن لها اموال تديرها في الصدر الاول من الاسلام و ما تلاه،
مع العلم أن الشريعة الاسلامية لم تصادر ممتلكات المرأة لفائدة زوجها أو تحظر عليها الاتجار في أموالها الا بإذن زوجها كما هو الحال في كثير من التشريعات الاوروبية و منها التشريع الفرنسي التجاري الذي نقله المشرع التجاري المغربي الملغى حرفيا فالزم المرأة المتزوجة ضرورة الحصول على اذن زوجها قبل ممارسة التجارة، قبل أن يلغى ذلك بصدور مدونة التجارة سنة 1996، و الحال أن الشريعة الاسلامية لا تعرف مثل هذا النوع من المصادرة او الحظر.
و لقد اعتبر الشيخ الشعراوي في خواطره أن قوله تعالى (للذكر مثل حظ الانثيين) فيه محاباة للمرأة و ليس للرجل، و هذه عبارته
(والذين يقولون: هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم: انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج، وإن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظاً في القسمة؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ.. } [النساء: 11] فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولاً جعل نصيبها المكيال الذي يُرد إليه الأمر؛ لأن الرجل المطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف حظ الذكر يكون خالصاً لها، وكان يجب أن تقولوا: لماذا حابى الله المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فَصَانَها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله. )
و يشير الشنقيطي إلى نفس المعنى في تفسيره اضواء البيان فيقول //
(لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة.
ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى: (ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)
لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقّب للنقص دائماً، و المَقُوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائماً، والحكمة في إيثار مترقّب النقص على مترقّب الزيادة جبراً لنقصة المترقّب ظاهرة جِداً.)
و من جهته يوضح الاستاذ سيد قطب ان الامر ليس فيه اي محاباة و يقول في ذلك
(وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس . إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة , ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة , وهي معه , وهي مطلقة منه . . .
أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط , وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء . وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال . . فالرجل مكلف – على الأقل – ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي , وفي النظام الاجتماعي الإسلامي .
ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم .
ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى , وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة )
(فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء . والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال . والله هو الذي يفرض , وهو الذي يقسم , وهو الذي يشرع . وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم , ولا أن يحكموا هواهم , كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم ! )
(إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء ; ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال . يبدو هذا واضحا حين نوازنه بأي نظام آخر , عرفته البشرية في جاهليتها القديمة , أو جاهليتها الحديثة , في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق . )
(إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملا , ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل . فعصبة الميت هم أولى من يرثه – بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة – لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به , ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم . فهو نظام متناسق , ومتكامل .
وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة .
فلا يحرم امرأة ولا صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير . لأنه مع رعايته للمصالح العملية – كما بينا في الفقرة الأولى – يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة . فلا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي .
وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة , وفطرة الإنسان بصفة خاصة . فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة . لأن الجيل الناشىء هو أداة الامتداد وحفظ النوع . فهو أولى بالرعاية – من وجهة نظر الفطرة الحية – ومع هذا فلم يحرم الأصول , ولم يحرم بقية القرابات . بل جعل لكم نصيبه . مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل.
وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي – وبخاصة الإنسان – في أن لا تنقطع صلته بنسله , وأن يمتد في هذا النسل .
ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة , ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله , إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل , وأن جهده سيرثه أهله من بعده .
مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد ومما يضمن للأمة النفع والفائدة – في مجموعها – من هذا الجهد المضاعف . مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام .
وأخيرا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة , على رأس كل جيل , وإعادة توزيعها من جديد . فلا يدع مجالا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة – كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر , أو تحصره في طبقات قليلة – وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة , ورده إلى الاعتدال , دون تدخل مباشر من السلطات . .
هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح . فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد ; فيتم والنفس به راضية , لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها ! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس ..)
وقال الإمام النووي – رحمه الله – في بيان الحِكمة مِن تفضيل الرجال على النساء في الإرْث: (حِكمته أنَّ الرجال تلحقهم مؤنٌ كثيرة في القيام على العيال، والضيفان، والأرقَّاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمُّل الغرامات وغير ذلك، والله أعلم.)
و أما الفيلسوف الامام بديع الزمان سعيد النورسي فيرى أن القاعدة القرانية ( للذكر مثل حظ الانثيين) تنبني على أهداف حكيمة من شأنها الحفاظ على العلاقات الاسرية بين الاخوة و الاخوات، بحيث تحتفظ الاخت بمكانة متميزة في هذا النسق، يقول النورسي
( ان الحكم القرآني (فللذكر مثلُ حظِّ الانُثيين) (النساء:176) محض العدالة وعين الرحمة في الوقت نفسه نعم، ان ذلك الحكم عدالة؛ لأن الرجل الذي ينكح امرأة يتكفل بنفقتها كما هو في الاكثرية المطلقة. أما المرأة فهي تتزوج الرجل وتذهب اليه، وتحمّل نفقتها عليه، فتلافي نقصها في الارث
ثم ان الحكم القرآني رحمة؛ لأن تلك البنت الضعيفة محتاجة كثيراً الى شفقة والدها وعطفه عليها والى رحمة اخيها ورأفته بها فهي تجد – حسب الحكم القرآني – تلك الشفقة عليها من والدها وعطفه دون ان يكدرها حذر، اذ ينظر اليها والدها نظرة من لا يخشى منها ضرراً، ولا يقول بانها ستكون سبباً في انتقال نصف ثروتي الى الاجانب والاغيار. فلا يشوب تلك الشفقة والعطف الابوي الحذر والقلق
ثم انها ترى من اخيها رحمة وحماية لا يعكرّها حسد ولا منافسة، اذ لا ينظر اليها اخوها نظر من يجد فيها منافساً له يمكن أن تبدد نصف ثروة ابيهما بوضعها في يد الاجانب. فلايعكر صفو تلك الرحمة والحماية حقد وكدر.
فتلك البنت اللطيفة الرقيقة فطرة، والضعيفة النحيفة خلقة، تفقد في هذه الحالة شيئاً قليلاً في ظاهر الأمر. الاّ انها تكسب – بدلاً منه – ثروة لا تفنى من شفقة الاقارب وعطفهم عليها ورحمتهم بها.
والاّ فان اعطاءها نصيباً اكثر مما تستحق بزعم ان ذلك رحمة في حقها ازيد من رحمة الله سبحانه، ليس رحمة بها قط بل ظلم شنيع في حقها، ربما يفتح سبيلاً امام الحرص الوحشي المستولي على النفوس في هذا الزمان لارتكاب ظلم أشنع، يذكّر بالغيرة الوحشية التي كانت مستولية على النفوس في زمن الجاهلية في وأدهم البنات. فالاحكام القرآنية كلها تصدّق – كما يصدّق هذا الحكم – قوله تعالى: (وما ارسلناك الاّ رحمة للعالمين) (الانبياء:107) )
و من الملاحظ أن الفقه الاسلامي المعاصر يجمع على وجوب تطبيق مقتضيات قانون المواريث كما ورد في القرآن و السنة ، و الامر انعقد فيه إجماع الامة حديثا و قديما، و على سبيل المثال فإننا نجد شيخ الازهر السابق طنطاوي رغم تسامحه المبالغ فيه بشأن كثير من أحكام الشريعة و خاصة منها جانب المعاملات المالية و اباحته للفوائد البنكية بزعم أنها ليست من الربا، الا انه يعتبر في تفسيره الوسيط ان تطبيق احكام المواريث واجبا مؤكدا على الامة و خاصة ما يتعلق منه بالآية موضوع التشكيك، و هذه عبارته
(وصدر – سبحانه – هذه الأحكام بقوله { يُوصِيكُمُ } اهتماما بشأنها، وإيذانا بوجوب سرعة الامتثال لمضمونها، إذ الوصيية من الله – تعالى – إيجاب مؤكد.
وقد جعل – سبحانه – نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن التكليفات المالية على الأنثى تقل كثيراً عن التكليفات المالية على الذكر، إذ الرجل مكلف بالنفقة على نفسه وعلى أولاده وعلى زوجته وعلى كل من يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه مشارك.
وبهذا يتبين أن الإِسلام قد أكرم المرأة غاية الإِكرام حيث أعطاها هذا النصيب الخاص بها من الميراث بعد أن كانت فى الجاهلية لا ترث شيئاً.
ولم يقل – سبحانه – للذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن الضعف قد يصدق على المثلين فصاعدا، فلا يكون نصا )
و مما ينبغي التذكير به هنا أن المزاعم التي اثارها المجلس الوطني لحقوق الانسان ليست حديثة العهد، لأنها أثيرت قبل ذلك من الطاغية العلماني المتطرف كمال اتاتورك الذي حاول طمس أحكام الشرع الاسلامي في تركيا و على رأسها قانون المواريث، و انتحلها الحبيب بورقيبة في تونس الذي عدل مقتضيات مجلة الاحوال الشخصية التونسية و سوى بين الذكور و الاناث في الارث و ألغى التعدد،
و هي نفس الاجراءات التي نفذها بالحديد و النار دكتاتور الصومال السابق الشيوعي محمد زياد بري الذي عدل نظام المواريث سنة 1970 وجاء – بعد ذلك – على لسانه في الجريدة الرسمية قوله: “كنا نسمع عن أقوالٍ تقول الربع والثلث والخمس والسدس، فإنَّا نقول: إنَّ ذلك لا وجودَ له بعدَ اليوم، وإنَّ الولد والبنت متساويان في الميراث”)
و هنا نتساءل هل يملك المجلس الوطني لحقوق الانسان و غيره من مؤسسات المجتمع المدني ذات النزعة العلمانية المتطرفة الشجاعة الادبية و الجرأة للطعن في قانون الاحوال الشخصية العبري المغربي، و هو القانون الذي يسري على الرعايا اليهود المغاربة، و المستمد من العهد القديم و التلمود اليهودي و شروحه و كذلك من مصادر الفقه اليهودي المغربي الذي استقر عليه الاحبار المغاربة مثل ( بن هاعيزر)، و (حوشي ميش بات) و (هاتا كانوت هامش) و(بات هاعبري).
و غير ذلك من المصادر اليهودية، مع العلم أنه يتضمن أحكاما خاصة بالميراث تنص على حرمان الزوجة من الميراث فيما تركه بعلها، وإن كان من حقها أن تعيش من تركة زوجها المتوفى ، و الحال أن للزوج أن يرث في تركة زوجته، بل إن كل ما تملكه الزوجة يؤول بوفاتها ميراثا شرعيا إلى زوجها وحده، لا يشاركه فيه أحد من أقاربها ولا أولادها سواء كانوا منه أم من رجل آخر.
و من خصوصيات الشريعة الموسوية كذلك ان المراة اليهودية المتوفى عنها زوجها و التي لم تخلف منه ابناء تكون ملزمة بالزواج من اخ الهالك بالرغم عنها، و يحق لهذا الاخير اللجوء الى المحكمة إذا رفضت أرملة اخيه الزواج منه، و يحق لهذه الاخيرة ان تفدي نفسها منه وفق مسطرة خاصة، بحيث تضربه بنعلها فوق رأسه في جلسة علنية امام القضاة العبريين.
كما أن التشريع اليهودي ينص على أنه إذا توفى الأب كان ميراثه لأبنائه الذكور وحدهم دون الاناث، ويكون للولد البكر مثل حظ اثنين من اخوته الأصغر منه سنا،و ذلك تطبيقا لما ورد في العهد القديم و تحديدا في سفر التثنية أنه
(إِنْ كَانَ رَجُلٌ مُتَزَوِّجاً مِنِ امْرَأَتَيْنِ، يُؤْثِرُ إِحْدَاهُمَا وَيَنْفُرُ مِنَ الأُخْرَى، فَوَلَدَتْ كِلْتَاهُمَا لَهُ أَبْنَاءً، وَكَانَ الابْنُ الْبِكْرُ مِنْ إِنْجَابِ الْمَكْرُوهَةِ، فَحِينَ يُوَزِّعُ مِيرَاثَهُ عَلَى أَبْنَائِهِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ابْنَ الزَّوْجَةِ الأَثِيرَةِ لِيَجْعَلَهُ بِكْرَهُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى بِكْرِهِ ابْنِ الزَّوْجَةِ الْمَكْرُوهَةِ. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِبَكُورِيَّةِ ابْنِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيُعْطِيَهُ نَصِيبَ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ، لأَنَّهُ هُوَ أَوَّ
لُ مَظْهَرِ قُدْرَتِهِ، وَلَهُ حَقُّ الْبَكُورِيَّةِ)
ومما تجدر الاشارة له هنا انه لا يجوز للإناث اليهوديات في التشريع العبري المغربي ان يرثن مع الذكور، و إن كان لهن حق النفقة من التركة حتى تتزوج الواحدة منهن أو تبلغ سن البلوغ، كما يكون للبنت أيضا على إخوتها الذكور قيمة مهرها من التركة بقدر قيمة ما كان سيدفعه لها أبوها،
ولا يحق للإناث أن يرثن في تركة ابيهم ال اغذا لم يخلف ذكورا و ذلك بنص العهد القديم و تحديدا في سفر العدد الذي جاء فيه (وَأَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَيَّ رَجُلٍ يَمُوتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْلِفَ ابْناً، تَنْقُلُونَ مُلْكَهُ إِلَى ابْنَتِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ابْنَةٌ تُعْطُونَ مُلْكَهُ لإِخْوَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ، فَأَعْطُوا مُلْكَهُ لأَعْمَامِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَامٌ، فَأَعْطُوا مُلْكَهُ لأَقْرَبِ أَقْرِبَائِهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَيَرِثَهُ. وَلْتَكُنْ هَذِهِ فَرِيضَةَ قَضَاءٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى)
و بالاضافة إلى ذلك فإن الأم اليهودية لا ترث من ابنها ولا من ابنتها وإن ماتت هى يكون ميراثها لابنها إن كان لها ابن، و إلا كان الميراث لابنتها، فإن لم يكن لها ولد ولا بنت فميراثها يكون لأبيها و جدها منه أو جد ابيها، و لا نصيب لامها البتة، و إن كان رجل يهودي يورث كلالة ( اي ليس له اولاد) فيرثه أبوه و لا شيء لأمه، فإذا كان ابوه متوفي فالميراث ينتقل لأخوته الذكور فقط.
و نحن لا نريد هنا أن نثير النقاش حول قانون الاحوال الشخصية المغربي العبري و نكن له الاحترام و التوقير الواجبين، باعتباره تشريعا وطنيا فريدا في العالم باسره، لأنه يعترف بخصوصيات الطائفة اليهودية المغربية ، و هو الامر الذي لا يتمتع به اليهود حتى في ارقى الدول الاوروبية المتقدمة، و لكننا نود التنبيه الى ان مقتضيات هذا القانون تنص على أحكام في غاية التباين بين الذكور و الاناث استنادا لمعيار الجنس فقط، و انه بمقارنة هذه المقتضيات مع احكام الشريعة الاسلامية المتعلقة بميراث المراة نلاحظ ثمة فرقا شاسعا، لأن اصل استحقاق المرأة للميراث في الاسلام أوسع مدى من غيره من الشرائع الاخرى ذات المنشأ الديني، مع العلم أن الاناجيل المتداولة لدى النصارى اليوم ( و هي اناجيل لوقا و مرقص و يوحنا و متى) لا تتضمن نظاما تشريعيا خاصا بقسمة الميراث.
ولابد أن نقول بصراحة أن المسألة تتعلق أولا و آخرا بمحاولة التشكيك في احكام المواريث في الشريعة الاسلامية، و لا تربطها صلة بحق المساواة المزعوم بين الجنسين، و لذلك ينبغي صد مثل هذه الغارات المغرضة ببيان مدى عدالة التشريع الاسلامي و مراعاته لمبادئ الانصاف و توافقه مع الحس السليم و اتصافه بالوسطية و الاعتدال.
فمما لا شك فيه أن نظام الميراث في التشريع الإسلامي ولد كاملاً، ولم يحتاج لأية إضافة أو تعديل، أو تطور، بخلاف غيره من النظم التي احتاجت إلى الكثير من الوقت حتى تتبلور وتتضح معالمها.
كما أنه لم يستفد من النظم السابقة عليه، ولم يتأثر بها، ولم يقتبس منها، لعدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بها، مما يدل على أنه تشريع رباني أنزله الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه، و لذلك يرى شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ان جميع احكام هذا التشريع منصوص عليها، و إن كان غيره يرى ان بعضها قد ثبت بالاجماع و بعضها بالقياس، و هذا لا ينقص من شأنه لأن جميع موارد الاجماع و الاحوال المقاس عليها منصوص عليها كما يلاحظ بعض الباحثين.
ولقد شهد المستشرق ( فون كريمر) لنظام المواريث الاسلامي بالعمق عندما قال أن (قانون الميراث الاسلامي نوع اصيل ممتاز من القانون الاسلامي)، وإن كان من نافلة القول بيان أن الاصالة و الامتياز لا يتصف بهما قانون الميراث الاسلامي فحسب، و إنما تتصف بهما مجمل احكام الشريعة الاسلامية القطعية الدلالة، و ما يلحقها من فقه رصين،
و لذلك يعتبر المستشرق العلامة سانتيلانا أن الفقه الاسلامي قد بلغ مرحلة الحق المطلق الذي هو اساس المجتمعات المتدنة قاطبة، و ان فقه الشريعة الاسلامية قد استحق اجل المديح من علماء القانون و ان فضله هو الباقي على مر الدهور، كما يرى المستشرق الالماني جوزيف شاخت أن من أهم ما اورثه الاسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يسمى بالشريعة و التي تختلف اختلافا واضحا عن جميع اشكال القانون..إنها قانون فريد في بابه و ابرز ما يميز اسلوب الحياة الاسلامية، و هي لب الاسلام.
اترك تعليقاً