جريمة الحرب في القانون الدولي والاسلامي
الدكتور عادل عامر
تعريف “جريمة الحرب” في القانون الدولي يسمح بتفسير القصف الإسرائيلي لغزة وهدم بيوتها وقتل أبنائها المدنيين واستهداف مقرات وأفراد قوات الأمن التي هي قوات شرطة وليست قوات عسكرية، على أنه جريمة حرب.
إن القصف البربري الوحشي الصهيوني لمنازل المدنيين وللبنية التحتية الفلسطينية، والذي أدى إلى استشهاد قرابة الثلاثمائة شهيد في أقل من يومين فقط، إنما هو هجوم عشوائي على مدنيين، بحسب أحد المعايير الرئيسية لتعريف جريمة الحرب وفقا للقوانين الدولية.
فبموجب هذه القوانين فإن تعريف جريمة الحرب هي الأفعال التي ترتكب خلال الحرب وتنتهك القوانين الخاصة بالحرب.
وتعتبر الجريمة جريمة حرب سواء ارتكبت من قبل عسكريين أو مدنيين. وجريمة الحرب بموجب القانون الدولي الإنساني هي الجريمة التي ترتكب خلال حرب بين دولتين، وليس في إطار حرب أهلية.
إسرائيل في دفاعها عن نفسها، وتأكيدها أن مجزرة غزة ليست “جريمة حرب” تقول إن غزة معقل لحركة “حماس”، وأن الحركة تطلق منها صواريخ على أراضيها، وبهذا المنطق يرى النظام الصهيوني أنه بهذا القصف استهدف عسكريين من “حماس” مدججين بالسلاح، وأن إسرائيل بذلك تدافع عن نفسها.
القانون الدولي لا يلتفت إلى هذه التبريرات، ويقول إن هذا القصف يشكل جريمة حرب إذا كان هجوما عشوائيا، وقد حدد تعريف جرائم الحرب في اتفاقيتي “لاهاي” الموقعتين في 1899 و1907 ثم في “اتفاقيات جنيف” في 1949 والبروتوكولات الملحقة بهذه الاتفاقات.
وينص البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف خصوصا على أن “السكان والأشخاص المدنيين يتمتعون بحماية عامة من المخاطر الناجمة عن عمليات عسكرية”، مؤكدا أن “الهجمات من دون تمييز محظورة”.
وما حدث في غزة هو أن إسرائيل ارتكبت جريمة حرب لأنها لم تميز بين المقاتلين والمدنيين.
أبناء حركة “حماس” لا يعدون جنودا، ووجود الحركة بين السكان المدنيين لا يعني أن هؤلاء فقدوا حقهم في الحماية التي يؤمنها لهم القانون الدولي، وإنذار المدنيين بالمخاطر التي يواجهونها باختيارهم البقاء في قطاع سيتعرض للقصف لا يعفي المهاجم من مسؤوليته القانونية.
خبراء القانون الدولي يؤكدون أيضًا أن الهجمات التي تسبب “أضرارًا جانبية” يمكن أن تعتبر جرائم حرب إذا لم يكن هناك تكافؤ بين حجم الهجوم والهدف العسكري المرجو، فالتكافؤ يشكل العنصر الأساسي.
جرائم الحرب إذن هي تلك الانتهاكات لقوانين الحرب- أو القانون الإنساني الدولي- التي تعرّض شخصاً للمسؤولية الجنائية الفردية.
ومع الحرب العالمية الأولى، قبلت بعض الدول اعتبار انتهاكات معينة لقوانين الحرب جرائم، قُنن معظمها في اتفاقيات لاهاي لسنة 1899 و سنة 1907.
وعرّف ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية لسنة 1945 جرائم الحرب بأنها “انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها، بما في ذلك قتل مدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم؛ قتل أسرى حرب أو إساءة معاملتهم؛ قتل رهائن؛ سلب ملكية خاصة؛ والتدمير غير الضروري عسكرياً.
وكانت اتفاقيات جينيف لسنة 1949 التي قننت القانون الإنساني الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، علامة على أول تضمين لطقم من جرائم الحرب- الخروق القانونية الجسيمة للاتفاقيات- في معاهدة قانونية إنسانية.
وتحتوي اتفاقيات جينيف الأربع (حول جرحى ومرضى الحرب البرية، جرحى ومرضى الحرب البحرية، أسرى الحرب، والمدنيين) قائمتها الخاصة بالخروق القانونية الجسيمة.
والقائمة بمجموعها هي: القتل العمد؛ التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية (بما في ذلك التجارب الطبية)؛ تعمد إيقاع معاناة كبيرة أو أذى بدني أو صحي؛ تدمير واسع للملكية أو الاستيلاء عليها بشكل لا تبرره الضرورة العسكرية وبشكل غير شرعي تعسفي؛ إجبار أسير حرب أو مدني على الخدمة في قوات الدولة الخصم؛
تعمد حرمان أسير حرب أو مدني محمي من حقه في محاكمة عادلة في محكمة منظمة تنظيماً قانونياً؛ إبعاد أو نقل مدني محمي بشكل غير شرعي؛ اعتقال مدني محمي بشكل غير شرعي؛ وأخذ رهائن.
ووسع البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 حمايات اتفاقيات جينيف للنزاعات الدولية فأصبحت الانتهاكات التالية خروقاً قانونية جسيمة: تجارب طبية معينة؛ الهجوم على مدنيين أو مواقع مجردة من وسائل الدفاع مما يجعلهم ضحايا حتميين له؛ الاستعمال المخادع لشارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر؛ قيام دولة محتلة بنقل قطاعات من سكانها إلى أرض تحتلها؛ الإبطاء غير المبرر في إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم؛ الأبارتيد؛ الهجوم على النصب التاريخية؛ وحرمان الأشخاص المحميين من محاكمة عادلة.
وعلى الدول، حسب اتفاقيات جينيف والبروتوكول الإضافي الأول، أن تحاكم الأشخاص المتهمين بخروق قانونية جسيمة أو تسليمهم إلى دولة مستعدة لمحاكمتهم.
ويمكن للأعمال الوحشية التي ترتكب في وقت الحرب، غير المحظورة بمقتضى اتفاقيات جينيف أو البروتوكول الإضافي الأول، أن تكون، رغم ذلك، جرائم حرب وفقاً لعنوان القانون العرفي التالي “انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها” (وهذه الجملة هي الجملة نفسها الموجودة في ميثاق نورمبرغ).
وبالنسبة للنزاعات بين الدول، توافق الدول أن مثل جرائم الحرب تلك تشمل انتهاكات معينة لاتفاقية وتدابير لاهاي لسنة 1907، من مثل استخدام الأسلحة السامة، التدمير التعسفي للمدن ولا تبرره الضرورة العسكرية، الهجمات على المواقع غير المحمية؛ الهجمات على المؤسسات الدينية والثقافية؛ وسرقة الممتلكات العامة والخاصة.
ولا يدرج نظام محكمة الجنايات الدولية الأساسي كجرائم حرب في النزاعات الدولية الخروق الجسيمة لاتفاقيات جينيف فقط، بل وأيضاً نحو ستة وثلاثين انتهاكاً خطيراً لقوانين الحرب وأعرافها، معظمها تعتبره الدول جرائم، منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل. ولقد ضربت إسرائيل خلال 60 عاماً عرض الحائط كل قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي, وتنكرت لالتزاماتها المترتبة عن كافة المعاهدات الدولية وقواعد القانون الإنساني المتعلق بحماية المدنيين.
بعد حرب عام 1967 وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية فتغير وضعها إلى “أرض محتلة”, وبذلك أصبح سكانها أشخاصاً محميين بموجب القانون الدولي الإنساني. ويرمي القانون الدولي الإنساني إلى حماية المدنيين من معاناة إسقاطات الحرب والأعمال العسكرية, ويكفل لهم الحماية من آثار العمليات العدائية.
ومسألة المدنيين تحكمها بشكل رئيسي اتفاقية جنيف الرابعة لحماية الأشخاص المدنيين لعام 1949, حيث أن الغرض الرئيسي منها تأمين حد أدنى من الحماية الإنسانية لسكان الأراضي المحتلة, فتضمن حظر الإجراءات الانتقامية والعقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين في الأراضي المحتلة والتعذيب وغير ذلك من المعاملة اللاإنسانية أو المهينة والأبعاد والاستيلاء على الأملاك.
وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتمنع إهلاك الحرث، وتبتعد عن المدنيين، ولا يقاتل إلاّ من حمل السلاح معتديا، ولا يقطع فيها زرع، ولا تباد فيها مقدرات الشعوب.
فالحرب الإسلامية حرب حماية ووقاية، وحرب فضيلة وتعمير، فالشريعة الغراء لم تتخذ من الحرب وسيلة للقهر والإعنات والإبادة، وإنما أباحتها – عند الضرورة علاجاً لمرض لم يُجْدِ معه توجيه ونصح وإرشاد، ولم تنفع معه محاولات المودة والسلام فكان لا مفر من مواجهة الباطل بقوة الحق، ليدمغ الحق الباطل، وتظل كلمة الله هي العليا. ومادامت الحرب في الإسلام حرب حماية للإنسان وغيره من الكائنات التي سخرت له فإن البيئة في هذه الحرب يحرم أن تتعرض لكل ما يلوثها.
إن الإسلام يضيق دائرة المعارك الحربية، ويقصرها على الأهداف العسكرية ويحول دون أن تتعرض البيئة بعناصرها المختلفة، وكذلك البيئة المشيدة وبخاصة ما يتعلق منها بوسائل الحياة كالمزارع والحيوانات والمياه والمصانع التي تنتج الغذاء والكساء والدواء وما إلى ذلك – لأسباب التخريب أو التلوث والإفساد، فهي بمنأى عن أن توجه إليها أسلحة تحدث بها ضرراً أو دماراً.
وإذا اقتضت الضرورة الدفاعية أن يلحق بالبيئة بعض الأضرار فإن ذلك يكون محدوداً ومقيداً بالضرورة فلا يترتب عليه غالباً إفساد عام أو تدمير شامل.
الإسلام يأمر إذًا بتضييق دائرة المعارك ومقاتلة المقاتلين دون سواهم، والأخذ بمنطق الرأفة والرحمة والجنوح إلى السلم إذا جنح إليه الأعداء، وعدم اللجوء إلى القتل إلا إذا فرضت الضرورة ذلك، والنهي عن الإسراف في إزهاق الأرواح، ومراعاة حرمة الميت فلا مثلة ولو بالحيوان، والأمر بسرعة دفن القتلى وعدم ترك الجثث في العراء دون مواراة لها في الثرى.
ومن أهم هذه الوصايا في مجال الحرب ما أوصى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمير أول بعثة حربية في عهده وهو أسامة بن زيد، قال له: “لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له “.
هذه الوصية تعد دستوراً لآداب الجهاد في الإسلام واشتملت على تشريعات في الحرب لا يدانيها ما وصلت إليها قواعد القانون الدولي الحديث.
وما كان للصديق أن ينهى في وصيته عما نهى عنه إلا من هدي أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً أن الصحابة أجمعين أقروه على ذلك ولم يوجد منهم من استنكر ذلك، ولو أنكر ذلك أحد على الصديق لعلم من سيرة الصحابة ما يدل عليه.
اترك تعليقاً