مقومات دولة القانون
المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون
لدولة القانون مقومات جوهرية ، تعد أساساً لوجودها ، وهذه المقومات هي :
أولاً : وجود الدستور .
وجود الدستور يعني إقامة نظام في الدولة وبيان قواعد ممارسة السلطة فيها ووسائل وشروط استعمالها ، ومن ثم يمنع كل استخدام للسلطة العامة لا تراعى فيه هذه الشروط او تلك القواعد(1). وقد عرف الدستور بانه ” مجموعة القواعد المتعلقة بتبيان مصدر السلطة وتنظيم ممارستها وانتقالها والعلاقة بين القابضين عليها وكذلك تلك المتعلقة بالحقوق والحريات العامة في الدولة “(2). والدستور قد يكون مدوناً اي كتبت مبادئه وأحكامه في وثيقة رسمية بمعرفة لجنة متخصصة ، وقد يكون غير مدون (عرفي) كالدستور الانكليزي مثلا الذي يستمد أحكامه من العرف والتقاليد والسوابق القضائية(3).
ولا يؤثر في إقامة نظام دولة القانون أن يكون الدستور عرفيا او مكتوبا ، اذ المهم هو وجود تلك القواعد الدستورية التي تقيم الكيان القانوني للهيئات الحاكمة وترسم لها قواعد ممارستها للسلطة وتلزمها بأن يدور نشاطها في إطار قانوني محدد ليس لها ان تخرج عليه . وما دامت تلك القواعد الدستورية ، عرفية كانت ام مكتوبة ، أسمى من السلطات الحاكمة ، فان تلك السلطات تكون مقيدة بها بالضرورة لأنها سلطات منشأة بموجب تلك القواعد الدستورية . والسلطات الحاكمة إذا خرجت على الدستور أو القواعد الدستورية التي كانت الأساس في وجودها ، فانها تهدم أساس وجودها القانوني ، وبذلك تفقد الصفة القانونية ، وإذا فقدتها زالت صفة الشرعية عن تصرفاتها ، وعلى ذلك يتعذر تصور وجود دولة القانون بدون وجود الدستور. ومن هنا كان وجوده اساساً في إقامة دولة القانون (4).
ثانياً : تدرج القواعد القانونية .
تعد فكرة تدرج القواعد القانونية وتوالدها من بعضها حجر الزاوية عند مدرسة (Kelsen) القانونية ، وتقوم النظرية على أن القواعد القانونية تتوالد من الأعلى إلى الأدنى(5)، وانها تتخذ في البناء القانوني شكل طبقات أو درجات بعضها فوق بعض . ففي قمة النظام القانوني يوجد الدستور ، وهو مجموعة القواعد التي تبين كيفية إنشاء القواعد القانونية العامة المسماة بالتشريع، والتي قد تحدد – فوق ذلك – مضمون هذا التشريع على نحو إجمالي عام ، فالمهمة الأساسية التي يقوم بها الدستور في البناء القانوني هي تحديده للهيئات القائمة على إنشاء القانون ، وبيان الوسائل والإجراءات التي يتم عن طريقها ذلك الإنشاء ، ويلي الدستور درجة هذه القواعد القانونية العامة التي نظم الدستور إصدارها والمسماة بالتشريع ، وفي قاعدة هذا البناء تقوم القواعد القانونية الفردية المسماة بالقرارات الإدارية ، وبهذه القواعد الفردية يتم البناء القانوني ، وتنتهي عملية التوالد الآلي التي يقوم عليها (6). ويترتب على مبدأ تدرج القواعد القانونية ، وجوب خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى درجة، وهذا الخضوع يكون من ناحيتي الشكل والموضوع ، أي أن القاعدة الأدنى يجب أن تصدر عن السلطة التي حددتها القاعدة الأعلى وبإتباع الإجراءات التي بينتها ، وأن يتفق مضمون القاعدة الأدنى مع مضمون القاعدة التي تعلوها (7) .
وبهذا يستطيع مبدأ تدرج القواعد القانونية أن يضع حلاً لمشكلة التعارض بين القواعد القانونية المختلفة (8).ويترتب على تدرج القواعد القانونية التزام كل سلطة لدى قيامها بإنشاء القواعد القانونية، بأحكام القواعد القانونية التي تعلوها مرتبة حتى يكون عملها مطابقا لمبدأ المشروعية ، بحيث إذا خرجت عليها تلك السلطة وخالفتها فانها تهدر بذلك القوة الإلزامية التي تتمتع بها القواعد الصادرة عنها . ومعنى ذلك ، ان القوانين التي تقرها السلطة التشريعية بالمخالفة لأحكام الدستور تكون باطلة وليس لها أية قوة إلزامية لمخالفتها للمشروعية ومن ثم يمكن للقضاء أن يحكم بعدم دستوريتها ، كما أن اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية بالمخالفة لأحكام الدستور او القوانين تكون باطلة لمخالفتها للمشروعية ، وبالتالي يحق للقضاء الحكم بعدم شرعيتها او عدم دستوريتها (9). ومبدأ هرمية القواعد القانونية ، على وفق ما تعتمده دولة القانون ، يربط القواعد القانونية كافة المعمول بها في الدولة بمصدرها الأساسي وهو الدستور ، بما يطمئن المواطن على حقوقه وحرياته التي كفلها الدستور ، لانه مهما بعد نطاق القانون أفقياً أو أرتفع عمودياً ، لابد أن يبقى تحت سقف نص القاعدة الدستورية (10).
ثالثاً : مبدأ سمو الدستور.
لما كان الدستور هو أصل كل نشاط قانوني تمارسه الدولة فهو لذلك يعلو ويسمو على أوجه هذا النشاط كافة ، إذ منه وحده تصبح هذه الأوجه صحيحة فهو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها النظام القانوني في الدولة (11). وان الطبيعة الخاصة التي يتميز بها الدستور تضفي عليه صفة السيادة لكونه كفيل الحقوق والحريات وعماد الحياة الدستورية و أساس نظامها ، وحقاً لقواعده أن تستوي على القمة في البناء القانوني للدولة وأن تتبوأ مكان الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد الآمرة التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات تنفيذية (12). لذا فان مبدأ سمو الدستور يعني أن يكون للدستور مكان الصدارة بالنسبة لسائر القوانين في الدولة ويتعين على جميع السلطات الحاكمة احترام نصوصه والتزام حدوده والتصرف في النطاق الذي رسمه .
وهذا المبدأ لا يسود إلا في الأنظمة الديمقراطية (13) . فمبدأ سمو الدستور يعد من أهم الأسس التي تقوم عليها دولة القانون . وإذا كان مبدأ المشروعية يعني أن تكون جميع تصرفات السلطات العامة في الدولة متفقة مع أحكام القانون ، وأن تسود القاعدة القانونية فوق ارادات الأشخاص القانونية كافة ، فان مبدأ سمو الدستور يعد أهم النتائج الحتمية والملازمة لمبدأ المشروعية (14) . هذا السمو الذي تتمتع به القواعد الدستورية ، يستند إلى طبيعة هذه القواعد أو موضوعها ، كما يستند من الناحية الاخرى إلى الشكل الذي تتبلور فيه ، ومن هنا قد يكون سمو الدستور موضوعياً وقد يكون شكلياً أو كلاهما في آن واحد (15).
السمو الموضوعي : يعود السمو الموضوعي للدستور إلى تلك القواعد التي يتضمنها ويتم من خلالها تحديد أسس الدولة وتنظيم الحكم وتوزيع السلطات وتحديد العلاقة بينها واختصاصات كل واحدة منها ، أي ان أهمية الموضوعات التي يتناولها الدستور هي التي تكسبه سمواً على القوانين العادية (16).
ويتمثل السمو الموضوعي للدستور من ناحيتين :
الأولى : ان الدستور هو الذي يؤسس فكرة القانون السائدة في الدولة ويحدد الفلسفة السياسية والاجتماعية للنظام . وهذا يعني ان الدستور بما له من سمو يعد الإطار القانوني لأوجه النشاط القانوني كافة في الدولة . وعليه يعد كل اجراء أو نشاط يخالف أهدافه وأحكامه باطلا(17).
والثانية : ان الدستور هو السند الشرعي لوجود الهيئات الحاكمة في الدولة وهو الذي يحدد اختصاصات كل منها ، وهو إذ يمنح لها هذه الاختصاصات فانه يمنحها إياها لا باعتبارها حقاً لها وانما باعتبارها وظائف يجب أن تمارس باسم الدولة وما دام الدستور هو الذي ينشئ هذه الهيئات وهو الذي يحدد اختصاصاتها وصور نشاطها فان ذلك يؤدي إلى وجوب خضوع هذه الهيئات فيما تمارسه من اختصاصات لأحكام الدستور والحاكم أو الهيئة الذي لا يخضع لأحكام الدستور يهدم السند القانوني لوجوده وأساس شرعية تصرفاته(18). ويؤدي السمو الموضوعي إلى النتيجتين الآتيتين :
أ- مبدأ السمو الموضوعي يؤكد مبدأ المشروعية ويوسع من نطاقها فلا تكون مقصورة على معناها الضيق ، أي لا تكون مقصورة على مجرد ضرورة احترام القوانين الصادرة من السلطة التشريعية وعدم إمكان مخالفتها والخروج عليها سواء بواسطة الافراد أم بواسطة الجهات الإدارية المختلفة ، بل سيمتد نطاق المشروعية ليشمل إلى جانب القوانين الصادرة من السلطة التشريعية – القواعد الدستورية (19).
ب- كما يؤدي السمو الموضوعي إلى عدم جواز تفويض الاختصاصات ، فطالما أن الدستور هو الذي يحدد اختصاصات السلطة ، فيتعين على كل سلطة أن تمارس بنفسها الاختصاصات التي خولها الدستور لها ، ولا يجوز لها أن تفوض غيرها للقيام بها بدلا منها ، إلا إذا أجاز ذلك الدستور نفسه ، ونظم مثل هذا التفويض ، إذ لا يمكن لأحد أن يفوض لغيره سلطة لا يستطيع هو التصرف بها (20).
السمو الشكلي للدستور : لا يتحقق السمو الشكلي للدساتير إلا إذا كان تعديل الدساتير يتطلب إتباع إجراءات خاصة (أكثر تعقيداً) تختلف عن إجراءات تعديل القوانين العادية. وبناءً على ذلك إذا كان السمو الموضوعي يتحقق لكل أنواع الدساتير المكتوبة والعرفية الجامدة أو المدونة في مواجهة كل القواعد الأدنى منها ، فان السمو الشكلي لا يتحقق إلا في الدساتير الجامدة التي لا تعدل إلا بإجراءات أشد من قواعد وإجراءات تعديل القوانين العادية . وهنا تظهر التفرقة بين القواعد الدستورية والقواعد القانونية العادية ، فهذا الجمود هو الذي يعطي للقواعد الدستورية مركزاً أسمى ووضعاً أعلى بين ما عداها من القواعد القانونية (21).
وإذ أن السمو الشكلي للدستور يستند إلى الشكل والإجراء فقط نتج عن ذلك ضرورة تحققه لكل القواعد القانونية التي يتطلب لوضعها أو تعديلها الشكل والاجراءات نفسها. وبالتالي تكون جميع القواعد التي تضمنتها الوثيقة الدستورية بصرف النظر عن موضوعها حتى ولو لم تكن تتعلق بموضوعات الوظائف الدستورية ، تكون جميعها في مرتبة أسمى من القوانين العادية . وعلى العكس لا تتحقق صفة السمو الشكلي للقوانين الصادرة من المشرع العادي التي تعالج موضوعات دستورية ، أي التي تتعلق بنظام الحكم أو تشكيل السلطات وبيان العلاقة بينها ، اذ العبرة هنا بشكل القاعدة لا بموضوعها(22) . ويترتب على الاختلاف بين الدستور والقوانين العادية عدة نتائج تتمثل بالآتي :
أ- ثبات القوانين الدستورية : وهذا يعني ان المشرع العادي وبالاجراءات العادية لا يتمكن من تعديل النصوص الدستورية . وهذا الثبات نسبي غير مطلق والا أدى إلى الجمود وخالف سنة التطور من جهة ولناقض السيادة الشعبية من جهة ثانية. فمن حق الأمة على الدوام ووفقاً لمبدأ سيادتها أن تغير دستورها ما دامت هي مصدر السلطات (23).
ب- القوانين الدستورية لا تلغى إلا بقوانين دستورية مماثلة : لما كانت القوانين الدستورية أسمى من القوانين العادية ، فانه لا يمكن إلغاؤها أو تعديلها إلا بقوانين لها ذات المكانة والدرجة نفسها ، وهذا يعني أن القوانين العادية لا يكون بمقدورها تعديل أو إلغاء القوانين الدستورية ، لان القوانين العادية اقل مرتبة من القوانين الدستورية . إلا أن الفقهاء على الرغم من ذلك ذهبوا إلى انه إذا قامت ثورة في البلاد وتم لها النجاح فان الدستور القائم يسقط فوراً من تلقاء نفسه وتنسخ أحكامه . ويفسرون ذلك بأن الشعب بقبوله الثورة التي تمت بإرادته ، أو بدون مقاومة منه ، قد أظهر أرادته في إلغاء الدستور السابق (24).
ج. عدم جواز تعارض القوانين العادية مع القوانين الدستورية : يترتب على التفرقة بين القوانين الدستورية والقوانين العادية وإعطاء الأولى المنزلة العليا ومكان الصدارة على سواها من القوانين السائدة في الدولة ، انه لا يجوز لهذه القوانين الأخيرة أن تخالف أحكام الدستور ، إذ يجب أن تصدر القوانين العادية في نطاق الأحكام التي تتضمنها القوانين الدستورية وإلا كان ذلك خروجاً من السلطة التشريعية عن حدود سلطاتها ، وغدت القوانين الصادرة عنها في هذا الخصوص غير دستورية وباطلة (25).
ولما كانت مطابقة القواعد القانونية لأحكام ونصوص الدستور هي الضمانة الكبرى لحماية حقوق وحريات الأفراد وعدم افتئات السلطات الحاكمة عليها ، فانه قد أصبح متعيناً تقرير نوع من الرقابة على دستورية القوانين تؤدي إلى إبطال القواعد المخالفة للدستور ولا سيما إذا ما كان المبدأ السائد في الدولة هو اعتناق الأسلوب المدون للدساتير (26).
رابعاً : الخضوع لحكم القانون – مبدأ المشروعية – .
يعني مبدأ المشروعية خضوع الدولة للقانون ، والمقصود بخضوع الدولة للقانون هو أن تخضع السلطات كافة بالدولة للقانون ، سواء أكانت هذه السلطات تشريعية أم قضائية أم تنفيذية(27). ويكاد الفقه يجمع على أن مبدأ المشروعية يعني ” سيادة حكم القانون ” (28) ، وبهذا المبدأ تتميز الدولة البوليسية عن الدولة القانونية التي يخضع فيها نشاط الجميع ” حكاماً ومحكومين ” اياً كان نوع هذا النشاط أو الغرض منه للقواعد القانونية المطبقة اياً كان مضمون هذه القواعد واياً كان مصدرها ومستواها في التدرج الهرمي للقواعد القانونية .
فالخضوع للقانون لا يعني القانون بمعناه الضيق ، أي الصادر من السلطة التشريعية وحدها ، بل يقصد به القانون في معناه الواسع الذي يشمل كل القواعد القانونية بدأ من الدستور ونزولاً حتى اللائحة أو القرار الفردي الذي يصدر في إطارها (29). ويعد مبدأ المشروعية ، الضمان الحيوي والأساسي لحقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة السلطة العامة ، إذ يكونون بمقتضاه في مأمن من ان تعتدي عليهم الدولة على خلاف ما يجيزه القانون ، أو بأكثر مما يرخص به ، وتظهر أهمية هذه الضمانة إزاء ما هو مسلم به لجهة الإدارة – في كل الأنظمة – من إمتيازات متعددة تكفل لها وحدها حق الأمر والنهي بالإرادة المنفردة الملزمة وحق التنفيذ المباشر لقراراتها بالقوة الجبرية التي تملكها وحدها ، فضلا عن تزايد دورها في الأنظمة المعاصرة ، إذ انه ما لم تكن الدولة – التي تملك كل هذه الامتيازات والتي أصبح تدخلها في أوجه النشاط كافة مسلماً به في الأنظمة المعاصرة – خاضعة للقانون ومحكومة به .
لتحولت في التطبيق – وبأقصر طريق – إلى مجرد قوة قهر مادية ، تعسفية واستبدادية ، ولخرجت بالتالي من مجال القانون ، الأمر الذي ينذر بتهديد حقوق الافراد وحرياتهم العامة ويعرضهم للضياع (30). ولعل أهم ما يميز دولة القانون – هو أن السلطات الإدارية – لا يمكنها أن تلزم الافراد بشيء خارج نطاق القوانين المعمول بها . وذلك يعني تقييد الإدارة من ناحيتين :
فمن ناحية لا تستطيع الإدارة حينما تدخل في معاملات مع الافراد أن تخالف القانون او تخرج عليه . ومن ناحية أخرى لا تستطيع أن تفرض عليهم شيئا إلا إعمالا لنص القانون – أو بموجب قانون – فعلى الإدارة اذاً قبل أن تتخذ أي إجراء ضد أحد الأفراد ، التأكد من أن يكون لها سند من القانون الذي تستمد منه سلطة إتخاذ هذا الإجراء ، وبعبارة اخرى ليس على الإدارة فقط أن تمتنع عن مخالفة القانون ، بل يجب عليها فوق ذلك الا تتصرف إلا بموجب نص قانوني. على أن ذلك لا يكون إلا عنصراً من عناصر دولة القانون ، إذ انه للوصول إلى نظام دولة قانون متكامل لا يكفي إخضاع الإدارة للقانون ، بل يلزم كذلك إخضاع جميع السلطات العامة الأخرى، وعلى الأخص السلطة التشريعية ، أي سلطة عمل القوانين (31).
خامساً : الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية .
الحرية هي ” تأكيد كيان الفرد تجاه سلطة الجماعة ، وهو ما يعني الاعتراف للفرد بالإرادة الذاتية ، مما يعني الاتجاه إلى تدعيم هذه الإرادة وتقويمها بما يحقق للإنسان سيطرته على مصيره ” (32). ومن هذا التعريف ، فهمت الحرية خلال القرن التاسع عشر على انها وسيلة لمقاومة الدولة ، ولتقييد سلطاتها لصالح الأفراد ، ولذلك عدت الحريات الفردية وسيلة لمقاومة الحكام، وعدت ضماناً لاستقلال الفرد والاعتراف بذاتيته ، وتحقيق كرامته الإنسانية ، ومن ثم سارت الحرية في اتجاهين (33) :
الأول منهما اتجه إلى تحديد مجال خاص معترف به للنشاط الفردي ، بما يعد منطقة مغلقة في مواجهة النشاط الحكومي ، وهذا المجال يتضمن المجموعة الأولى من الحريات الفردية وتشمل هذه المجموعة طائفة الحريات الشخصية ، وطائفة الحريات الاقتصادية ، وطائفة الحريات الفكرية .
واما الاتجاه الثاني ، فقد ذهب إلى الاعتراف بمجال محدود للنشاط الحكومي ، وفي هذا المجال يملك الافراد وسائل كثيرة لمنع الدولة من أن تبسط نفوذها وسلطاتها ، مما يحول دون تهديدها لنشاطهم الفردي ، وهذا المجال يتضمن المجموعة الثانية من الحريات الفردية وهي تلك المتعلقة بالحريات السياسية .
ولقد شهد القرن العشرين في مستهله انتشار المذاهب الاشتراكية المنادية بالعدالة الاجتماعية مما أدى إلى اعتناق مذهب التدخل من جانب كل الدول المعاصرة ، وذلك بدرجات متفاوتة تختلف باختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة على حدة ، وإذ أن الفكرة الأساسية وراء الاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي أن يضمن لكل المواطنين الظروف المادية التي تسمح لهم بالتمتع بالحريات التقليدية ، فإن قائمة هذه الحقوق قد تضمنت كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية. ولقد بدأ الأخذ بهذه الحقوق أو بعضها بعد الحرب العالمية الأولى فقد نصت بعض الدساتير على هذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت هذه الحقوق في جميع الدساتير التي صدرت عقب انتهاء هذه الحرب (34).
يستنتج مما سبق ذكره أن الحقوق الفردية في الدولة الحديثة قد فقدت مدلولها التقليدي الحر الذي كان يجعل منها حواجز منيعة امام سلطان الدولة ، ويسد في وجهها مجالات معينة يحظر عليها الاقتراب منها ، وبالتالي يحدد سلطاتها . وأصبحت الحقوق الفردية بمدلولها الجديد لا تتطلب حتما تقييد سلطات الدولة ، بل على العكس توجب تدخل الدولة في بعض الأحيان . ومع ذلك فان الحقوق الفردية بمدلولها الحديث ، وإن كانت تحد من مبدأ خضوع الدولة – فهي لا تتنافى كليا مع ذلك المبدأ ، بل على العكس تدعمه وتقويه من حيث انها تفرض على الدولة التزامات معينة ، وبالتالي تخضع نشاطها لقواعد معينة يمتنع عليها أن تخالفها. فبعد أن كان خضوعها للقانون خضوعا سلبياً ، إذ يمتنع عليها الاعتداء على الحقوق الفردية إعمالا لمبادئ المذهب الفردي الحر، أصبح خضوعها ايجابياً في الدولة الحديثة ذات النزعات الاشتراكية نظراً لما يفرضه عليها القانون من التزامات إيجابية بقصد تحقيق مستوى مادي معين للأفراد(35). وعليه فان الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية بما تتضمنه من امتيازات للافراد وبما تفرضه من قيود على سلطات الحاكم وتثبيت ذلك في الدستور أو ايمان الحاكم والمحكومين بها، يشكل أحد مقومات دولة القانون (36).
__________________
([1]) انظر د. منير حميد البياتي ، الدولة القانونية والنظام السياسي الاسلامي ، ( دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة) ، ط1 ، الدار العربية للطباعة ، بغداد ، 1979 ، ص67
(2) د. احسان حميد المفرجي ، و د. كطران زغير نعمة ، و د. رعد ناجي الجدة ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، مطبعة دار الحكمة ، بغداد ، 1990 ، ص 161
(3) انظر د. ابو اليزيد علي المتيت ، النظم السياسية والحريات العامة ، ط 3 ، مؤسسة شباب الجامعة ، الاسكندرية، 1982 ، ص 27
(4) انظر د. منير حميد البياتي ، الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي ، مرجع سابق ، ص68
(5) انظر د. يحيى الجمل ، هانز كلسن .. الأب الروحي للقضاء الدستوري ، مجلة الدستورية ، العدد الاول ، السنة الاولى ، يناير 2003 ، ص 54
(6) انظر د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1960 ، ص 41 هامش (2)
(7) انظر د. فؤاد العطار ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، ج1 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1965 – 1966، ص ص 231 – 232
(8) انظر د.رفعت عيد سيد، الوجيز في الدعوى الدستورية ، ط1 ، دار النهضة العربية، القاهرة ، 2004 ، ص 22
(9) انظر د. سامي جمال الدين ، تدرج القواعد القانونية ومبادئ الشريعة الإسلامية ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1975 ، ص 161
(0[1]) انظر د. أمين عاطف صليبا ، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون ، المؤسسة الحديثة للكتاب ، طرابلس– لبنان ، 2002 ، ص 86
(11) Burdeau (G.); Droit Constitutionnel et Institutions Politiques، 13eme Ed.، Paris، 1968، P. 77
(2[1]) انظر د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، قضاء الدستورية في مصر في ضوء قانون أحكام المحكمة الدستورية العليا، ط2 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 2002 ، ص 18
(3[1]) انظر د. ابراهيم عبد العزيز شيحا ، القانون الدستوري ، الدار الجامعية للطباعة والنشر ، بيروت ، 1983 ، ص175 هامش (1) ، و د. محمد كامل ليلة ، القانون الدستوري ، دار الفكر العربي، القاهرة ، 1967 ، ص 111
(4[1]) انظر د.عبد العزيز محمد سالمان، رقابة دستورية القوانين، ط 1، دار الفكر العربي، القاهرة ، 1995 ، ص60
(5[1]) انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مطبوعات جامعة الكويت ، الكويت ، 1995، ص 19
(6[1]) انظر د.عبد الله اسماعيل البستاني، مذكرات أولية في القانون الدستوري، مطبعة الرابطة، بغداد،1951،ص180
(7[1]) انظر د. حميد الساعدي ، مبادئ القانون الدستوري وتطور النظام السياسي في العراق ، مطابع دار الحكمة ، الموصل ، 1990 ، ص121
(8[1]) انظر د. ثروت بدوي ، القانون الدستوري وتطور الأنظمة السياسية في مصر ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1971 ، ص97
(9[1]) انظر المرجع السابق نفسه ، ص 97 ، و د. محمود حلمي ، المبادئ الدستورية العامة ، ط6 ، دار الفكر العربي، القاهرة ، 1983 ، ص19
(20) انظر د. عبد الحميد متولي ، الوجيز في النظريات والأنظمة السياسية ومبادئها الدستورية ، دار المعارف ، الاسكندرية ، 1958 – 1959 ، ص 291
([1]2) انظر د. ابراهيم عبد العزيز شيحا ، القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص181
(22) انظر د. عزيزة الشريف ، الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص 20
(23) انظر د. نوري لطيف ، القانون الدستوري ، ط1 ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1976 ، ص216 ، و د. عثمان خليل ، القانون الدستوري ، الكتاب الاول في المبادئ الدستورية العامة ، مطبعة مصر ، القاهرة ، 1956، ص36
(24) انظر د. السيد صبري ، النظم الدستورية في البلاد العربية ، معهد الدراسات العربية العالية ، القاهرة ، 1956 ، ص145 ، ولنفس المؤلف ، الرقابة على دستورية القوانين ، بحث مقدم إلى المؤتمر الرابع للمحامين العرب المنعقد ببغداد من 26/11 إلى 30/11/1958 ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1958 ، ص7
(25) انظر د. ابراهيم عبد العزيز شيحا ، القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص ص 185 -186 ، و د. السيد صبري ، مبادئ القانون الدستوري ، المطبعة العالمية ، القاهرة ، 1949 ، ص219
(26) انظر د. مصطفى محمود عفيفي ، الوجيز في مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة ، الكتاب الاول – المبادئ العامة للقانون الدستوري – ، ط2 ، بدون ذكر مكان وسنة الطبع ، ص91
(27) انظر د. ثروت بدوي ، النظم السياسية ، الجزء الاول ، النظرية العامة للنظم السياسية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1970 ، ص 136
(28) الا ان د. ثروت بدوي في بحثه الموسوم بـ ” الدولة القانونية ” ، ذهب إلى التفرقة بين مبدأ ” سيادة القانون ” ومبدأ ” خضوع الدولة للقانون ” حيث يعني هذا الاخير – من وجهة نظره – ، خضوع جميع السلطات في الدولة للقانون وتقييد الادارة على الاخص بالقوانين واللوائح ، في حين ان مبدأ سيادة القانون ينبع – حسب رأيه – عن فكرة سياسية تتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة وتهدف إلى وضع الجهاز التنفيذي في مركز أدنى بالنسبة للجهاز التشريعي ، وهو بذلك يعد ضيقا لاستهدافه السلطة الادارية في الدولة فقط .
انظر د. ثروت بدوي ، الدولة القانونية ، مرجع سابق ، ص 56
(29) انظر د. أحمد عبد الوهاب السيد ، الحماية الدستورية لحق الانسان في قضاء طبيعي ، مؤسسة بيتر للطباعة ، 2002 ، ص 192
(30) انظر د. أحمد عبد الوهاب السيد ، الحماية الدستورية لحق الانسان في قضاء طبيعي ، مرجع سابق ، ص 209 ، و د. طعيمة الجرف ، مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الادارة للقانون ، ط3 ، دار النهضة العربية، 1976 ، ص 4
([1]3) انظر د. شحاتة أبو زيد شحاته ، مبدأ المساواة في الدساتير العربية ، مطابع Press ، القاهرة ، 2001 ، ص 463
(32) انظر د. طعيمة الجرف ، نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي ، الكتاب الثاني ، مكتبة القاهرة الحديثة ، القاهرة ، 1973 ، ص 202
(33) Duverger (M.) ; Institution Politiques et Droit Constitutionnel، Paris ، 1975، P.206
(34) انظر د. عبد الحميد حسن محمد ، حماية الحقوق والحريات في أحكام المحكمة الدستورية العليا ، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق – جامعة القاهرة – ، 1999 ، ص ص 128 -129
(35) انظر د. ثروت بدوي ، الدولة القانونية ، مرجع سابق ، ص ص 63- 64
(36) انظر د. منير حميد البياتي ، الدولة القانونية والنظام السياسي الاسلامي ، مرجع سابق ، ص151
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً