مقال هام عن طرق تفسير النصوص القانونية
إذا كان النص سليماً واضح المعنى فيجب العمل بما تدل عليه صياغة النص بمفردات ألفاظه أو عباراته , أو بمعنى آخر إذا ظهر الحكم من عبارة النص وألفاظه وجب العمل به , وهو ما عبر عنه بأنه لا مبرر للاجتهاد في مورد النص الواضح .
يلاحظ أنه في الحالة السابقة تنحصر وظيفة المفسر في الاستدلال على معنى النص , وليس البحث عن أكثر الحلول عدالة .
تنقسم طرق التفسير إلى نوعين :الطرق الداخلية , والطرق الخارجية .
أولاً : طرق التفسير الداخلية :
يقصد بطرق التفسير الداخلية : مجموع الوسائل التي يلجأ إليها القاضي لتحليل القاعدة القانونية تحليلاً منطقياً علمياً بهدف الوصول إلى المعنى الحقيقي لهذا النص بمقابلته مع عدد من النصوص بطريق القياس أو الموازنة أو المفاضلة بينهما , ليتمكن من استنباط الحكم المطلوب منه مباشرة دون اللجوء إلى وسائل أخرى خارجة عنه .
ومن أهم هذه الطرق الداخلية الوسائل التالية :
1) الاستنتاج بطريق القياس .
2) الاستنتاج من باب أولى .
3) الاستنتاج بمفهوم المخالفة .
أولاً : الاستنتاج بطريق القياس :
يلجأ القاضي إلى الاستنتاج بطريق القياس بإعطاء حالة معينة غير منصوص عليها حكم حالة أخرى ورد بشأنها حكم في القانون لاتحاد العلة في الحالتين .
وعليه تفترض هذه الطريقة وجود حكم منصوص عليه في حالة معينة محددة ووجود حالة أخرى ليست من نوع الحالة المنصوص عليها , ولكن العلة واحدة .
لذلك تقاس الحالة الثانية على الحالة الأولى وتأخذ حكمها عن طريق القياس مثل اعتبار فعل الفحشاء مع مجنونة أو معتوهة فيه إكراه معنوي وفيه اغتصاب قياساً مع البنت الصغيرة لاتّحاد العلة , وهي فقدان الإدراك والإرادة عند كلتيهما .
ومن ذلك أيضاً أن الفقرة الأولى من المادة /663/ مدني سوري تنص على أنه : ” لا ينفسخ عقد العمل بوفاة رب العمل ” .
فهذه المادة لم تكلم عن الحالة التي يحجر فيها على رب العمل الجنون أو عته ومع ذلك فيشملها حكم النص السابق لاتحاد العلة.
على أنه يتوجب على القاضي توخي الحيطة والحذر عند اللجوء للاستنتاج بطريق القياس حتى لا ينتهي التفسير للوصول إلى أحكام تغاير في جوهرها الأحكام القانونية المقيس عليها .
ولذلك يلتزم القاضي بالتحقق من وجود التشابه أو الاتحاد في العلة بين الحالتين ثم التأكد من أن حكم الحالة المنصوص عليها ليس حكماً استثنائياً , وإلا كان هذا الحكم وارداً على خلاف القياس , والقاعدة هنا أن : ” ما ورد على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه ” .
مثال ذلك : ما ورد فغي المادة /1109/ من القانون المدني السوري , والتي تنص على أنه ” لا يكون للحق امتياز إلا بمقتضى نص في القانون ” .
وبالتالي يفهم من ذلك أنه عندما لا يوجد نص لا يمكن أن يوجد امتياز بحيث أنه لا يجوز للأفراد ولا للقضاء اعتبار حق ما ممتازاً إذا لم يوجد نص في القانون يسمح باعتباره كذلك , لأن الأصل هو تطبيق مبدأ المساواة بين الدائنين , وبالتالي إقرار حق الامتياز لبعض الديون هو الاستثناء , لذلك وجب تفسير النصوص التي تقرر الامتياز تفسيراً ضيقاً , إذ الاستثناء لا يجوز التوسع في تفسيره أو القياس عليه .
ثانياً : الاستنتاج من باب أولى :
تسمى هذه الطريقة أيضاً ” القياس بطريق الأفضلية أو الأولوية “.
ففي هذه الحالة يلجأ القاضي إلى تطبيق الحكم الوارد بشأن حالة منصوص عليها على حالة أخرى غير منصوص عليها لأنَّ علة الحكم في الحالة الثانية أكثر توافراً في الحالة الأولى , فلو افترضنا على سبيل المثال أن قانون العقوبات أعفى من العقوبة من يقتل شخصاً دفاعاً عن نفسه , أو عرضه .
فإن الإعفاء من العقوبة يكون إعفاء من باب أولى على شخص جرح أو آذى شخصاً آخر في موقف مماثل دون أن يقتله .
ذلك لأن من يعفى في حالة القتل فمن باب أولى أن يعفى في حالة الجرح والإيذاء إذا ما كانت عناصر الإعفاء المطلوبة في القتل متوفرة فيهما .
وتنص أيضاً الفقرة الأولى من المادة /132/ من القانون المدني السوري على أنه : ” يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلاً “. فمن باب أولى جواز أن يكون محل الالتزام شيئاً موجوداً .
ثالثاً : الاستنتاج بمفهوم المخالفة :
ويقصد بها إعطاء حالة غير منصوص عليها حكماً معاكساً لحكم حالة أخرى منصوص عليها لاختلاف العلة بينهما .
فطريقة الاستنتاج بمفهوم المخالفة هي عكس الاستنتاج بطريق القياس . والأمثلة على ذلك كثيرة :
فالمادة الرابعة من القانون المدني السوري تنص على أنه : ” من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ” .
فيستنتج بطريق المخالفة أن من يستعمل حقه استعمالاً غير مشروع يكون مسؤولاً عما يترتب على هذا الاستعمال من ضرر .
والفقرة الأولى من المادة /94/ من القانون المدني السوري تنص على أنه : ” إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد ” .
فيستنتج بطريق المخالفة جواز العدول إذا ما انقضى ميعاد القبول أو إذا لم يعين في الإيجاب ميعاد القبول .
وأيضاً المادة /393/ من القانون المدني السوري التي تنص على أنه ” إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية , وكان في البيع غبن يزيد على الخمس , فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل ” .
فيستنتج بمفهوم المخالفة أنه لا يحق للبائع طلب عقد فسخ البيع واسترداد المبيع , وإنما يحق له فقط طلب تكملة الثمن , كما يستنتج بمفهوم المخالفة أن هذا الحكم قاصر على شخص لا تتوافر فيه الأهلية , حيث لا يسري على شخص كامل الأهلية.
وتنص أيضاً المادة /1116/ من القانون المدني السوري على أن ” الحقوق المبينة في المواد الآتية ممتازة إلى جانب حقوق الامتياز المقررة بنصوص خاصة ” .
فيستنتج بمفهوم المخالفة أن الحقوق التي لم يرد نص على تمتعها بحق امتياز لا تكون حقوقاً ممتازة , بل تكون مجرد حقوق عادية .
على أن معظم الفقهاء يرون ضرورة توخي الحيطة والحذر عند الأخذ بالاستنتاج بطريق المخالفة , إذ قد يضع المشرع نصاً قانونياً لغاية خاصة لا يتوافر عكسها في المفهوم المخالف , فلا يصح الاستدلال فيها بمفهوم المخالفة .
ثانياً : طرق التفسير الخارجية :
يقصد بطرق التفسير الخارجية : مجموعة الوسائل والوثائق والحجج الخارجة عن النص القانوني ذاته , يلجأ إليها القاضي للوقوف على الإرادة الحقيقية للمشرع .
أهم هذه الوسائل ما يلي :
1- حكمة التشريع وغايته :
يلجأ القاضي أو المفسر إلى البحث عن حكمة التشريع وغايته , أي التعرف على المصلحة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الخلقية التي توخى المشرِّع تحقيقها من وضع الحكم الوارد بالنص .
إذ أن معرفة غاية النص القانوني والحكمة التي يتضمنها تعتبر من الأمور المساعدة لتفسير هذا النص حين يعتريه عيب من العيوب , والوقوف على حكمة التشريع وغايته يجدي عادة في حالتي الغموض والنقص في النصوص فإليها رجعنا لنحدِّد معنى الليل الذي جعله المشرع في قانون العقوبات ظرفاً مشدداً لجريمة السرقة إلا أنه لم يقف بتعريف الليل . فهل يراد من ذلك معناه الفلكي أي الفترة من اليوم الممتدة من غروب الشمس إلى شروقها ؟ أم يراد به الفترة من اليوم التي يسود فيها الظلام فعلاً ؟ .
في الواقع لا بد من تبني المعنى الأخير للفظ الليل أي الفترة التي يخيم فيها الظلام فعلاً , إذ هي الفترة التي تتوافر فيها حكمة التشديد نظراً لما يبعثه الظلام في نفس الناس من الرهبة ونظراً لما يهيئه الظلام للجاني من تسهيل ارتكاب الجريمة .
ولكن يجب أن يلاحظ أن حكمة التشريع وإن كانت من أهم وسائل تفسير التشريع إلا أنه لا محل للتقيد بها في تطبيقه .
فالقاعدة القانونية متى نشأت في صورتها الملزمة وجب تطبيقها ولو انتفت حكمتها في الواقعة المعروضة .
وعلى ذلك إذا كانت حكمة تشديد العقوبة على السرقة ليلاً هي أن السرقة في الظلام تولد الرعب في نفوس المجني عليهم على نحو أشد من السرقة نهاراً , وفرضنا أن شخصاً سرق ليلاً في مكان مقفر فلم يزعج أحداً , فإن ذلك لا يمنع من تشديد العقوبة , لأن التشديد ليس منوطاً بظرف الليل , فمتى توفر هذا الظرف انطبقت القاعدة ولو لم تتوافر حكمتها .
2- المصادر أو السوابق التاريخية :
أي الرجوع إلى المصادر التي استقى منها المشرع أحكامه بغية التعرف على إرادته الحقيقية .
فالشريعة الإسلامية هي المصدر التاريخي للعديد من الأحكام الواردة في القانون المدني , وبالتالي لا بدَّ من الرجوع إليها لتفسير بعض النصوص الغامضة .
مثال ذلك : ما ورد في القانون المدني من أحكام تتعلق بالأهلية أو الأحكام الخاصة ببيع المريض مرض الموت .
كما أن القانون المدني الفرنسي يعتبر مصدراً تاريخياً للقانون المدني المصري الذي يتماثل في كثير من أحكامه مع القانون المدني السوري .
3- الأعمال التحضيرية :
يقصد بها : مجموعة الوثائق التي صاحبت نشوء النص التشريعي وهي تشمل محاضر اللجان الفنية التي صاغت النصوص وتقارير اللجان البرلمانية ومحاضرها والمناقشات التي جرت حول هذه النصوص لدى السلطة التشريعية , والمذكرة الإيضاحية التي تصحب عادة كل تشريع .
هذه الوثائق المختلفة تفيد في فهم عبارة النص والوقوف على حكمته وإيضاح شروط انطباقه وحدود سريانه .
ولكن يجب أن يلاحظ أن هذه الوثائق وإن كانت بالغة الأهمية في تفسير النص إلا أنها لا تلزم القاضي , فهي لا تزيد عن كونها أدوات استئناس يلجأ إليها القاضي ليقف على ما قصده المشرع.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً