الموقف القانوني و الفقهي من الانتحار
الإنتحآر في الشرع
حفظ النفس من أهداف الإسلام ومقاصده الكبرى التي توخاها في تشريعاته، إذ هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة، حيث يرى جمهور الفقهاء أن الشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية خمسة أمور، هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، وتسمى بالكليات الخمس، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، وحفظ العقل.
فالحياة الإنسانية لا تتحقق إلا بالحفاظ على النفوس، وقد اتفقت الشرائع الإلهية على وجوب صيانتها وحمايتها من الهلاك، وسنت التشريعات التي تحرم قتل الإنسان بغير حق وتعاقب عليه، وتحرم العدوان على أي عضو من أعضاء جسم الإنسان، ولم يكن ذلك في الدنيا فحسب والتي وصل حد القتل فيها إلى القصاص:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179]، بل امتد ذلك العقاب إلى الآخرة، فتوعد القرآن الكريم عبر العديد من آياته بالعذاب من تعمد القتل دون وجه حق {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، بل إن القرآن قرن هذا الذنب بالشرك بالله، فقال تعالى: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ} [الفرقان:68]، في حين اعتبرت السنة النبوية الشريفة أن المسلم الحقيقي هو من سلم المسلمون من لسانه ويده.
جزاء المنتحر
كما لم يقتصر الموقف الإسلامي الشديد فيما يخص حفظ النفس عند حد القتل أو إيذاء أبدان الآخرين، لكنه امتد ليحفظ النفس من صاحبها، إذ هي مجرد أمانة لديه، فالإنسان ملك لخالقه وليس ملكًا لنفسه؛ لذلك لا يجوز أن يتصرف في نفسه إلا في حدود ما أذن له الخالق، فليس له أن يضر نفسه بحجة أنه لم يتعد على أحد؛ لأن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى. وقد وردت في هذا التحريم العديد من الآيات منها قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، في حين حرصت السنة على أن تشدد النهي عن هذا الفعل، وتوعدت صاحبه بعذاب أليم من جنس عمله بنفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تردى من جبل فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًّا فقتل نفسه؛ فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة؛ فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) [متفق عليه، البخاري، (5778)، ومسلم، (313)]. وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا؛ فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة؛ عذب به في نار جهنم)) [البخاري، (1363)]، وعن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) [متفق عليه، البخاري، (1364)، ومسلم، (321)].
فظاهر هذه الأحاديث يدل على كفر المنتحر لأن الخلود في النار والحرمان من الجنة جزاء الكفار عند أهل السنة والجماعة، لكنه لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة؛ لأن الكفر خروج عن دين الإسلام، وصاحب الكبيرة ـ غير الشرك ـ لا يخرج عن الإسلام عند أهل السنة والجماعة؛ لهذا فإن أغلب الفقهاء قالوا بغسله والصلاة عليه، والكافر لا يصلى عليه إجماعًا.
الشروع في الانتحار
وتؤكد النصوص السابقة وغيرها أن الانتحار جريمة وكبيرة يحاسب عليها مرتكبها في الآخرة حيث استحال العقاب الدنيوي، وإن ترك المنتحر لأهله ما ينغص عليهم عيشتهم ويثير حفيظتهم، فيناله منهم ما يسوءه ويزيده خسرانًا على خسرانه، وهو ما دفع الشريعة الإسلامية إلى التأكيد على حرمة الشروع في تنفيذ هذا الفعل؛ فنهت عن إلقاء النفس إلى التهلكة، فيقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. وهو المبدأ الذي كان سببًا في تحريم الكثير من العادات والسلوكيات التي ربما أضرت بصاحبها، وكانت طريقًا لمرضه وهلاكه فيما بعد، من مثل استعمال المسكرات والمخدرات والتدخين، والتهور في قيادة السيارات، والمخاطرة التي ليس لها ضرورة، كما أمرت بالسعي للتداوي والعلاج في حال المرض، بل إنها أحلت في حال الاضطرار ما كان محرمًا في الأحوال العادية، كالسماح بأكل الميتة حتى يحافظ الإنسان على حياته ويحميها من الموت والهلاك.
والنتيجة أن مجرد الشروع في الانتحار هو مخالفة صريحة للتوجيهات الإسلامية، حيث يتعمد الشارع في الانتحار هلاك نفسه وليس مجرد الإضرار بها؛ لهذا فقد أكد الفقهاء على ضرورة أن يتوب الذي كان يضمر هذا الفعل أو شرع فيه من ذنبه الذي هو رفض لقضائه عز وجل.
الموقف القانوني
وقد تنبهت التشريعات القانونية القديمة إلى فعل الانتحار، والذي شكل فرصة وهمية للكثيرين للهروب من الويل والعذاب الذي كانوا يلاقونه على يد الأمراء وأبناء الطبقة العليا آنذاك، فأسبغت إنزال العقاب بجثة المنتحر، فضلًا عن مصادرة أمواله لحرمان أهله منها. أما في القوانين الحديثة، فلا عقوبة على المنتحر، فقد فاضت روحه وأصبحت بين يدي الله يفعل فيه ما يشاء، فالعقوبة لابد أن تنفذ في شخص حي قادر عليها، وهو ما لم يتحقق في المنتحر. غير أن الأمر يختلف في حال نجاة الشارع في الانتحار من محاولته لشيء خارج عن إرادته، إذ يتم تعريف “الشروع” بصفة عامة في القانون بأنه “البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها”. إذ يستند الكثير من القانونيين إلى أن هذا التعريف كفيل برفض توقيع العقوبة على الشارع في الانتحار، حيث أن الانتحار في ذاته لا يعاقب عليه، وبالتالي لا يعد جريمة أو جناية يعاقب عليها الشارع في فعلها، ما لم ينص القانون على اعتباره كذلك، وهو ما أيده قانون العقوبات في كل من مصر والعراق والأردن والكويت وسلطنة عمان. في مقابل ذلك فإن هناك الكثير من القوانين التي جرمت فعل الشروع في الانتحار، وسنت له عقوبة، كما هو الحادث في القانون الإيطالي والإنجليزي والسويسري وقوانين بعض الولايات الأمريكية والقانون الهندي والسوداني والقطري. ومن ذلك مثلًا ما نص عليه قانون العقوبات في إحدى الدول العربية: “يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز ستة أشهر، وبالغرامة التي لا تزيد على ثلاثة آلاف ريال عماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من شرع في الانتحار بأن أتى فعلًا من الأفعال التي تؤدي إلى الوفاة عادة”.
اترك تعليقاً