“التحايل” حين يقنن
أية السعيد
عام ونصف العام مروا على صدور القانون رقم 107 لسنة 2013 بشأن “تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية”، ثبت خلال تلك المدة أن الوصف الذي يليق به هو قانون منع حرية التعبير عن أراء قد تخالف النظام، ورغم أن ذاك التضييق ظهر جليا منذ صدور القانون إلا أننا أمهلنا أنفسنا فيه، عسى يثبت في جانبنا سوء النية أو يحدث الله من بعده أمرا.
ولا يخفى عليكم أن اكتشاف أثر نص تشريعي ما على الوضع العام لا يمكن أن يستخلص من أيام قلائل إلا إن تدخلت الإرادة السياسية في جعله درع يحميها من مخاوف ما، فأدخلته بسرعة البرق حيز التنفيذ وكأن دولتنا المصونة لا ينقصها على التطور غيره.
هنا تظهر أهميته في الطريقة التي صيغ بها ليصل إلى المنع المقنع بتحايله على معنى التنظيم، أو في طريقة تطبيقه حيث نجد نصوصه تفسر وتترجم تبعا لمصالح مفسرها.
حتى أن الدستور بما له من هيبة شكلية و رغم الإدعاءات بأنه مرآة لإرادة الشعب صاحب القول الفصل ويحقق مطالبه، لم يسلم من ذاك التلاعب بالألفاظ التي تبدو حالمة وطموحة في ظاهرها ولكنها لا ترقى سوى لكونها حبر على ورق، فيأتي -على سبيل المثال لا الحصر- في مادته الرابعة نص على أن السيادة للشعب وحده “رغم من يزاحمونه فيها”، وينص في الخامسة على احترام حقوق الإنسان وحرياته “رغم إهانته وامتهان كرامته”، ثم حلو الكلام عن تحقيق العدالة الاجتماعية وسبل التكافل وضمان الحياة الكريمة طبقا لمادته الثامنة “رغم التزايد المستمر والمفجع في صفوف آكلي فضلات البشر”، يليه الحديث عن التزام الدولة بتحقيق التكافؤ دون تمييز “وكان الله بمن عينوا وترقوا إكراما لذويهم أعلى وأعلم”، والعديد من النصوص المهدرة تلك التي اكتفوا بها زينة لدستور مذبذب لا يدري لأي الاتجاهين يميل حماية المحتاجين وانتشالهم من العوز والحاجة أم تأمين أولي الأمر الحاكمين المتحكمين وما يتحكم فيهم من شهوة الجاه والمال.
فلا تترجم تلك النصوص اليتيمة لقوانين تسعى لتطبيقها في أرض الواقع، وإنما يترجم غيرها من النصوص التي تسعى لتضييق الخناق على أصحاب الرأي والقضية ممن يسعون لإيجاد ما تبقى من كرامة وحرية فلا ينظم القانون إلا ما نص عليه الدستور في مادته الثالثة والسبعون “للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، غير حاملين سلاحاً من أي نوع، بإخطار على النحو الذي ينظمه القانون.
وحق الاجتماع الخاص سلمياً مكفول، دون الحاجة إلى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال الأمن حضوره أو مراقبته، أو التنصت عليه”
ليصبح ذلك التنظيم المتروك للقانون تضييق على تلك الممارسات منعا لأي معارضة قد تجرأ على الظهور في النور.
تلك هي الثغرة التي عرفوا بها كيف تؤكل أكتافنا _وفقا للأحكام والضوابط المنصوص عليها في القانون_ إذ يأتي القانون ملزما بتقديم إخطار للسلطة لتصبح الخصم والحكم، ثم يعدد فيه البيانات المخطر بها بما لا يدع حاجة لتنظيم التظاهرة أصلا، بفرض أن الغرض الرئيسي منها أن يصل اعتراض ما على الأوضاع والممارسات الحكومية.
ويخول في نص آخر لوزير الداخلية أو مدير أمنه لا أمن الوطن أن يضع لمساته الأخيرة إما أن يمنع أو يعدل في التوقيت أو المسار طبقا لهواه، واضعا نص يبدو مطمئنا في نظر مدعي حماية واحترام الحقوق والحريات وهو إلزام مصدر القرار بالمنع أو الإرجاء بتسبيب قراره وكأن إدعاءات حماية الأمن العام أو وجود ما يهدد السلم والأمن ببعيد عن أيديهم ليقتبسوه كلما أرادوا كتم الأفواه.
ويعطيه الحق في الفض متى رأي أن التظاهرة أو الموكب تسعى للعنف أو التخريب، وتحديد حرما آمنا أمام المواقع التي ارتأوا فيها الحيوية ويعلم الله أن لا حيوية تدب فيهم إلا تلك التي تبعث على الشر، ثم بتحديد أماكن لتلك الاجتماعات والتظاهرات، ثم في لفتة قانونية توحي بالإحترافية يأتي النص الذائع الصيت بتجريم وتحريم مخالفة كل تلك النصوص التي ما وضعت إلا لتحمي ديكتاتورية متأصلة في نفوسهم، ويعدد جرائم قد يرتكبها المشاركين لم يكن ليعددها ويلصقها بهم لو لا أنهم شاركوا فيها.
تلك هي النصوص التي برع النظام في أن يبتكرها ليكفي المؤمنين شر القتال، متجاهلا ما للإصلاحات الجذرية من قوة قد تضاهي إن لم تغلب قوة قانونه الجامع لنواهي التظاهر والمانع من حرية الرأي، ناسيا نصوص أولى بأن ينظمها القانون ستسهم إن طبقت في خفض حدة الغضب التي تتزايد كلما تزايدت الممنوعات.
إن قانون كذاك لم يكن ليؤثر لو أن تطبيقه اتسم بشيء من الإنصاف، أو أن مطبقيه اتسموا بالعدل، أو ترك أمر تفسيره لمحايدين لا يميلوا لا لهؤلاء ولا لهؤلاء.
قانون كذاك كان لينسى ويترك وشأنه لو لا أن شابة تدعى “شيماء الصباغ” قتلت وقد التزمت بكل ما أمروا رغم تعسفه و تحايله ولا زال حقها مهدر كمن سبقوها رغم أن الجاني فيها واضح جلي.
قوانين كتلك تنذر بنية واضعها وتشكل ملمحا لعهده إن تم تجاهله فلن نجني سوى الخسران المبين.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً