المباديء الدستورية المهمة في شأن القضاء/ المحامي هاتف الاعرجي
1- استقلال القضاء:
لا شك ان القضاء هو محور العدالة وضمان الحريات ومنع ما عساه ان يقع عليها من جور وتطاول لذلك فمن الضروري ان ينص الدستور على ضمانات خاصة باستقلاله . ولا يعني هذا الاستقلال الانفصال عن السلطات الاخرى في الدولة , وانما يعني ان القضاء وحده هو الذي يستقل بالفصل في الخصومات وانزال العقاب على الخارجين عن حكم القانون . ( محمد عبد الحميد ابو زيد – سيادة الدستور وضمان تطبيقه – سنة 1989 دار النهضة العربية ص 145 وما بعدها ) .
كما يعني هذا الاستقلال ان القضاة لا يخضعون الا للقانون وحده اثناء مباشرة اختصاصاتهم ولا يستطيع احد منهم مهما علت مكانته ان يملي عليهم ارادته اثناء تأدية اعمالهم , فالقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة ) . ولا تستطيع السلطة التنفيذية ان تتدخل في عمل القضاء ولا تقحم نفسها في عملية اصدار الاحكام في المنازعات كذلك لا يجوز للسلطة التشريعية , ان تباشر عملاً من اعمال القضاة , ولا تتدخل في سير القضاء واحكامه . ( المادة (88) من دستور جمهورية العراق – 2005 ) واعتمد الدستور الالتزام بنظرية فصل السلطات الثلاث , اذ نص الدستور في المادة (47) منه على ذلك . اذ ان العراق اعتمد مبدأ الفصل بين السلطات وتأسيس الدولة القانونية التي تخضع للقانون في جميع جوانبها التشريعية والقضائية والتنفيذية .
وبذلك يكون الدستور قد كفل استقلال القضاء بحيث لا يحده في احكامه الا القانون والضمير واوجد الضمان الكافي لاطلاق يده في الحكم دون تطاول حكومي , ويترتب على استقلال القضاء عدم قابلية القضاة للعزل سواء من السلطة التنفيذية او من السلطة التشريعية وفي ذلك ضمان لحسن سير العدالة وموضعية حسم المنازعات بحيث يغدو القاضي حراً في عمله لا يتأثر بشخصية او نفوذ . وعندئذ سيكون القضاء الملاذ الامين للمواطن وسنده وحمايته ليس فقط من التعسف الواقع من قبل السلطة , بل يأخذ شكلاً اخر . يتجسد في تدخل السلطة القضائية في حال خرق القوانين او الدستور , مهما كانت السلطة التي تمارس هذا التعسف او الخرق . ومهما كان المركز القانوني للمسؤول المتهم بالخرق الدستوري او التجاوز على القانون سواء من خلال الالغاء او الرقابة . وقطع الدستور على جميع الجهات خرق القاعدة العامة , اذ لا استثناء لاي فرد او جهة مهما كانت من ذلك . فقد اكد الدستور في المادة (100) منه .. انه يحظر النص في القوانين على تضمين اي عمل او قرار اداري الاستثناء من الطعن خارج نطاق القانون . وان لا سلطة فوق سلطة القانون .
ولان اقامة العدل عن طريق التطبيق القانوني السليم يوفر الضمانات الاكيدة لتحقيق العدالة , وهذه الضمانات يوفرها القضاء في حال استقلاليته وتحرره من قيود السلطة التنفيذية , اضافة الى حياديته في الحرص على تطبيق المباديء والنصوص التي اكدها الدستور والتي نصت عليها القوانين , مما يجعل ركائز ودعائم القانون واضحة ومتينة , ويكون فيها مفهوم العدالة التي يسعى الى تحقيقها القضاء اوسع شمولاً من العدالة التي يفترض تحقيقها من قبل السلطة او الحكومة مما يجعل وبالنتيجة جوهر العدالة التي يحققها القضاء , تنعكس بشكل انساني وايجابي على النظام السياسي القائم .
لذلك يتمكن القضاء من اداء دوره المرسوم دستورياً وفقاً لقانون التنظيم القضائي بشكل الي وروتيني , وليس مهماً ان يكون القضاء يسد الفراغ , والقضاة يملؤون ابنية المحاكم ويسدون شواغرها , انما المهم ان يكون هذا القضاء مستقلاً بالمعنى الحقيقي للاستقلالية , حيادياً بعيداً عن الميل الى اية جهة سياسية او مراكز قوى اخرى . وينأى بنفسه عن ان يكون طرفاً في شؤون خارج اختصاصه , تبعده عن التمكن من اداء دوره الحقيقي في الاستقلالية . واستقلالية القضاء تعني بناء قضاء مستقل قوي , يعتمد على رموز قضائية تتمتع بالكفاءة والخبرة الى جانب حياديتها وتظافة سيرتها .
ان استقلالية القضاء لا تعني بأي شكل من الاشكال ان تكون الاحكام والقرارات القضائية خاضعة لطرق الطعن , وانما تعني الالتزام باجراءات التقاضي واصدار الاحكام وفقاً للقانون وان يبذل القاضي اقصى ما يستطيع لتحقيق العدالة . وحتى يتم تبلور مفهوم استقلالية القضاء , ويجب ان تلتزم مؤسسات الدولة بعدم التدخل بالشأن القضائي , او العمل على ادخال عناصر منسجمة او ملتزمة مع احزابها او تنظيماتها السياسية او تجمعاتها الطائفية الى الجسد القضائي بغض النظر عن كفاءتها او خبراتها مما سيحدث اثراً سلبياً مستقلاً على القضاء , ويشكل حجر عثرة في طريق الاستقلالية . ( القاضي الاستاذ زهير كاظم عبود – جريدة المدى العدد 1544 في 27 حزيران 2009 – مقالة بعنوان القضاء في الدستور العراقي 2 ص10 ) .
ضمانات استقلال القضاء:
وهذه الضمانات على نوعين :
النوع الاول : الضمانات الواجب توافرها من قبل الدولة تجاه القضاء وتتمثل ب :
1- عدم تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في شؤون القضاء . اذ يجب ان يكون القضاء متحرراً في مباشرةاختصاصه من اي تدخل من قبل السلطتين المشار اليهما . فالقضاة لا يخضعون لغير القانون , لان واجبهم في اعمال حكم القانون وتطبيقه على الوقائع المطروحة امامهم يتطلب منهم الوقوف على ارادة المشرع على الوجه الصحيح , وهذا لا يتأتى الا اذا كان لقضاة الحرية الكاملة والرضاء الصحيح في استخلاص تلك الارادة دون ضغط او تدخل من قبل هاتين السلطتين . فالقاضي في استخلاصه لحكم القانون وتطبيقه لا يخضع الا لضميره واقتناعه السليم المبني على ارادته الحرة ( القاضي زهير كاظم عبود- استقلالية القضاء العراقي في الدستور من ركائز دولة القانون – جريدة التآخي العدد 5787 في 28/1/2010 ص3 ).
والقضاء بهذا المدلول يعد سلطة مستقلة عن الادارة وعن البرلمان , اسند الدستور اليها مهمة الفصل في المنازعات التي تعرض في ساحتها . ومن ثم فليس لها ان تعرض عن التصدي للاقضية الماثلة امامها , بخلاف ما هو متبع في التظلمات الادارية , ويخضع الفصل في القضايا لاجراءات ومواعيد معينة ( الدكتور محمد عبد الحميد ابو زيد – القضاء الدستوري شرعاً ووضعاً – دار النهضة العربية – القاهرة ص 316 ) .
كما ان اعضاء السلطة القضائية لهم من الخبرة والحيدة والدراية القانونية مما يكفل للمتقاضين حقوقهم ويصون حرياتهم من عسف الافراد او جور الادارة او طغيان الحكام . والرقابة القضائية متعددة الصور اهمها في القضاء العادي والاداري وعلى رأسه محكمة التمييز , والمحكمة الاتحادية العليا , والتي يأتي تشكيلها في العراق خطوة اكيدة على سبيل ترسيخ مبدأ الاستقلالية والقضاء الدستوري الذي يتصدى لمدى توافق التشريعات العادية او الثانوية مع احكام الدستور تحت رقابة واشراف المحكمة الاتحادية العليا .يقول العلامة ( مونتسكيو) في روح القوانين انه اذا كانت السلطتان التشريعية والتنفيذية في يد شخص واحد او هيئة واحدة لضاعت الحرية , اذ يخشى ان يضع ذلك الشخص او تلك الهيئة تشريعات جائرة , تنفذ بوسيلة ظالمة , كما تنعدم الحرية اذا لم تستقل سلطة القضاء عن سلطة التشريع , لان حرية الافراد وحياتهم تصبحان تحت رحمتها , طالما كان القاضي مشرعاً , واذا انخرطت السلطة القضائية في سلك الوظيفة التنفيذية غدا القاضي طاغياً ( الدكتور محمد عبد الجبار ابو زيد – حل المجلس النيابي دراسة مقارنة ص8 وما بعدها ).
وتتفق جميع الاراء في الدول الديمقراطية على وجوب اتباع اسلوب الانتخابات في اختيار اعضاء السلطة التشريعية .
لكنها لا تستقر على طريقة تشكيل السلطة القضائية . فالاخذ بوسيلة الانتخاب في اختيار القضاة كما هو سائد في اغلب الولايات المتحدة يؤدي احياناً الى سوء اختيار القضاة وضعف مستواهم لأن الناخبين لا يستطيعون تقدير كفائتهم كما انهم يتأثرون في حكمهم باعتبارات حزبية او شخصية , لا تتفق مع ما يشترط في القاضي من قدرة على تفهم القوانين وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً وعادلاً . واذ ان مهمة القاضي هي تطبيق القوانين التي تضعها الدولة وتعبر عن ارادتها العامة فيكون القاضي المنتخب اداة لحزب معين يعمل على ارضائه بدلاً ان يكون خادماً للامة ويعمل لصالحها ( د.ثروت بدوي – النظم السياسية 1975 ص 295 وما بعدها ) ولصالح المجموع . ويرى البعض ان الطريقة الاصلح في اختيار القضاة , هي طريقة التعيين وان يكون هذا التعيين بيد السلطة التنفيذية . ونظراً لما لهذه الطريقة التي تجعل القضاء خاضعاً للسلطة التنفيذية . فقد فضل البعض عليها , طريقة الاختيار الذاتي , وان كانت هذه الطريقة هي الاخرى معيبة , لانها تؤدي الى اقامة دولة القضاة داخل الدولة وتكوين طبقة تحتكر وظائف القضاء فيما بين افرادها .
ولا يمنع عندئذ من خضوع القضاة للسلطة التنفيذية , مما اقتضى وضع قواعد عامة مجردة تحكم رجال القضاء في تعينهم وترقيتهم وتبين حقوقهم وواجباتهم وعدم تركهم تحت رحمة السلطة التنفيذية . ومن الضمانات الاكيدة ما نجده في الدول الدستورية التي تؤكد المباديء الانسانية النبيلة والتي اعتمدها الدستور العراقي لعام 2005 والتي لا قيمة لها مطلقاً ما لم تتحول الى واقع ملموس يتم تطبيقها في القضاء ضمن الاحكام والقرارات وهذا التطبيق تقوم به السلطة القضائية التي يؤكد الدستور ويحرص على استقلاليتها ومن اجل تجسيد وتأكيد هذه الاستقلالية لا بد من سلطة تقوم عملية تجربة تأسيس قضاء مستقل حقيقي بعد غياب دهر طويل من تغيب استقلالية القضاء , واستغلاله لصالح ونوايا السلطات الدكتاتورية التي تعاقبت على الحكم وجاء نص المادة (87) من الدستور ليؤكد على ان السلطة القضائية مستقلة وهذه الاستقلالية تجسدها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها , من خلال عدم تدخل اية سلطة في القضاء او في شؤون العدالة لغير القانون , وذلك من خلال المساواة في الاحكام على جميع الناس وتطبيق القوانين عليهم دون تمييز , والحيادية في الفصل , لقد نص على استقلال القضاء في العراق دستورياً بصدور دستور جمهورية العراق عام 2005 حيث خص الفصل الثالث منه السلطة القضائية ومكوناتها كما يؤكد اهمية واستقلال القضاء وجود مجلس القضاء الاعلى في ادارة شؤون المحاكم والاجهزة القضائية الاخرى وحيوية مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور في المادة (47) من واكدت المادة (88) منه ( كون القضاة مستقلين لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لاي سلطة التدخل في القضاء او شؤون العدالة ).
لا شك ان القضاء في فترة ما قبل 2003 قد مر بظروف اقل ما يقال فيها مرحلة طالت ام قصرت من ان استقلاله قد ثلم , لذا تدارك دستور 2005 ذلك , حيث اورد في المادة (97) منه ضمانة كبيرة للقضاة والتي نصت على ان القضاة غير قابلين للعزل الا في الحالات التي يحددها القانون , كما اكد في الفقرة ثالثاً من المادة (91) منه , على ان يمارس مجلس القضاء الاعلى ( اقتراح الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية , وعرضها على مجلس النواب للموافقة عليها لتأكيد استقلالية القضاء من النواحي كافة وخاصة الناحية المالية وعن السلطة التي تتجسد في مجلس القضاء الاعلى اكدت المادة (89) من الدستور على ان تتكون السلطات الاتحادية في الدستور العراقي من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويتولى مجلس القضاء الاعلى ادارة شؤون جميع الهيئات القضائية , ويعتبر مجلس القضاء الاعلى رأس الهرم القيادي في المؤسسة القضائية ويمارس عملية ادارة شؤون القضاء والاشراف على القضاء الاتحادي في العراق , كما اعتمد الدستور ايلاء القضاء العراقي مهمة رقابية على دستورية القوانين , وهو عمل قانوني يهدف الى التأكد من عملية تطابق القوانين مع الدستور والحكم وفقاً لالتزام السلطة التنفيذية بعدم خرقها لنص الدستور وخص الدستور هذه المهمة بالمحكمة الاتحادية العليا – اذ جعل ضمن اختصاصها وكما ورد في المادة 93 الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً