أهمية التقنين و أثره على القوانين الإقتصادية
د. أسامة بن سعيد القحطاني
ضرورة و أهمية التقنين
يجري الحديث كثيرا في الأوساط القانونية والقضائية وأحيانا المثقفين عموما عن ضرورة وضع قوانين “أنظمة” لعديد من النواحي غير المقننة حاليا؛ إلا أن البعض قد يتساءل ما ضرورة ذلك؟ وإلى أي حد هذا الأمر مهم؟
سبق أن طرحت عديدا من المقالات حول هذا الموضوع من جوانب عدة؛ إلا أنني أود التركيز باختصار على الجواب عن التساؤلات أعلاه لأهميتها.
بداية تجب الإشارة إلى أنني لا أعلم بلدا في العالم وخصوصا العالم المتقدم إلا ويكون التقنين والإلزام في المبادئ القانونية لديه أمر محسوم منذ قرون ربما، وحتى تلك البلدان التي تأخذ بمبدأ القانون الإنجلوساكسوني فإنها تعتمد التقنين من طريقين؛ الأول بالتشريع القانوني المتصاعد بشكل سريع حتى نشأ ما يسمى بمنهج القانون الهجين في كثير من تلك الدول، والثاني هو من خلال الإلزام بالمبادئ والسوابق القضائية التي تكون ملزمة لجميع محاكم الدولة كالقانون تماما إلا أنها لا تأخذ شكل القوانين في ترتيباتها وهيكلتها.
هذه الحقيقة الواقعية تجعلنا نعرف إلى أي مدى يعتبر هذا الأمر مهما في انتظام القانون وتطبيقاته في الدول وحاجة الناس وكذلك الدولة لتحديد القانون الواجب التطبيق بالضبط.
استمعت لبعض المهتمين الذين يرددون بجهل مقارنة التطبيق القضائي لدينا بما هو ممارس في الدول الإنجلوساكسونية، الأمر المختلف تماما، ومع الأسف أن بعضهم يكون مبدأه مجرد الرفض للنقد دون أدنى موضوعية أو بحث علمي متجرد.
هناك جوانب لا تحصى تكشف أهمية التقنين والإلزام بالمبادئ القانونية، منها أيضا أن الوضوح في القانون الواجب التطبيق من أساسيات عدالة القانون والقضاء، بل حتى إذا كان القانون مكتوبا ولكن يشوبه عدم الوضوح فإن الواجب أن تعالج هذه النقطة، فما بالك بعدم وجود قانون أصلا، مضافا إلى ذلك حرية القاضي في اختيار أي الآراء شاء (من ضمن قواعد شرعية بالتأكيد إلا أن المساحة تبقى كبيرة).
في الحقيقة؛ إن اختصاص القاضي حاليا بأنه هو من يختار الرأي الملزم (القانون الواجب التطبيق)، وهو من يحكم به، فإن القاضي حاليا يمارس اختصاصا تشريعيا ــــ حسب المصطلحات الحديثة- واختصاصا قضائيا أيضا، وهذه النقطة مما يتعارض كليا مع مبادئ الحوكمة القضائية التي تعزل السلطات عن بعضها البعض وتسعى لضبطها بشفافية ووضوح.
أمر آخر مهم جدا؛ أن من معايير الحوكمة والنزاهة؛ أن تكون القواعد القانونية الأصلية والفرعية في كل جوانب القانون منشورة وواضحة، وهذا ما يؤدي لتعزيز المحاسبة والشفافية في الجهاز القضائي، فوضوحها يحمي القضاء أولا من تهمة عدم الحياد، لكون القواعد القانونية منشورة وملزمة، كما أنها تحمي المواطنين من احتمال تعرضهم للفساد وعدم النزاهة أيضا، وهذا الأمر من أساسيات الحوكمة الرشيدة في العالم كله.
الخلاصة؛ أن التقنين يعتبر في أقصى الضرورات المُلحّة لتطوير القضاء، وهو في نظري أهم نقطة مُلحّة لأجل التطوير والتحديث .
لا اقتصاد بلا قانون وتقنين
يعتبر اختبار وتقييم مستوى نضج وتطور القوانين في أي بلد هو أول خطوة أساسية لتقييم أي استثمار أو تعامل تجاري أجنبي، كما أنه لا يمكن لرجال الاقتصاد أن يحققوا التنمية المستدامة خصوصا والنمو الاقتصادي دون أن يترجموا أهدافهم وخططهم الاقتصادية على شكل قوانين ولوائح تنفيذية تتوافق مع تلك الأهداف. الأمر الذي يعكس مدى تطور ودقة تلك الأهداف ويختبرها أيضا.
على سبيل المثال؛ فإن أهم معايير تحديد مستوى المخاطرة التجاريةRisk Assessment في أي بلد هو النظر لمدى جودة وشفافية قوانين ذلك البلد
أولا، ثم مدى الالتزام بتطبيق تلك القوانين
ثانيا. ولذلك فإن وجود قوانين واضحة وشفافة ومتطورة يعتبر مرتكزا أساسيا للتحديث والانطلاق لاقتصاد قوي ومتطور. ولذلك فإن الشروع في تقنين أجزاء كثيرة من الفراغات التشريعية لدينا هي نقطة من المفترض أننا تجاوزناها منذ زمن إلى قوانين حديثة ومبنية على ما لا يخالف الشريعة الإسلامية.
إننا يجب العمل على تحديث ووضع مزيد من الأنظمة التجارية المتطورة، إذ لا يمكن للأنظمة القديمة أن تساعد في بناء اقتصاد تنافسيّ وحديث دون أن يكون قائد ذلك البناء تطوير الأنظمة التي يستند عليها.
وفي هذا الإطار؛ فإنه في نظري يجب إصدار نظام تجارة متكاملا وجديدا، يغطي أكبر قدر من الجوانب، ويتوافق مع حاجيات الزمن، ويماثل في المستوى أحدث القوانين التجارية العالمية، ويمنع خوف المستثمرين من أن يقعوا ضحية التخمين والاجتهادات الشخصية بين المحاكم والمسؤولين، فقد آن الأوان ليصبح الاقتصاد السعودي اقتصادا منظما وحديثا وشفافا، في كثير من الأنظمة التجارية الحديثة والمتطورة.
وما زلنا ننتظر نظام الإفلاس وغيره من الأنظمة المهمة، وهناك كثير من الجوانب لا تزال تحتاج إلى تنظيم وتحديث فيما يتعلق بوضع القوانين واللوائح لها. يضاف إلى هذا الأمر؛ ضرورة مواكبة تطوير أنظمة إصلاح القضاء وتطويره ليكون قضاء حديثا وفعالا، ومن أهم ما نحتاج إليه في هذا السياق؛ ضرورة اعتماد آلية لضبط اختلاف الأحكام القضائية وتفاوتها، الذي يستوجب اعتماد التقنين كما سبق، والالتزام بالسوابق القضائية التراتبية، أسوة بالأجهزة القضائية المتطورة في العالم، ولا شك هناك جهود حثيثة لبلوغ هذا المطلب نتمنى لها التوفيق والنجاح.
عندما يتابع المختصون الكم الهائل من القوانين والمعاهدات الدولية التي تتوالى كل فترة، إضافة إلى توالي تعديلات وإصدارات القوانين لدى شركاء المملكة الاقتصاديين، فإن من الضروري مواكبة ذلك بتغييرات وتعديلات في الأنظمة السعودية لتتوافق مع تلك المستجدات وتواكبها، وأحيانا لتواجهها في حال انطوت على مخاطر اقتصادية. وفي الحقيقة؛ فإن السنوات الأخيرة صدر فيها عديد من الأنظمة والتشريعات المتوالية، وتحديث الأنظمة القديمة مثل نظام الشركات الجديد ونظام الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات الشرعية وغيرها، والتي تعكس الاهتمام بهذا الأمر ومعالجته، وبإذن الله ستستمر المملكة في التحديث والتطور والازدهار.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً