أن المادة الثانية من قانون الاحوال الشخصية نصت على أن القانون يسري على العراقيين إلا من استثني منهم بقانون، وان نص القانون على شمول حكمه العراقيين فقط يفهم منه بدلالة المفهوم المخالف إلى أن غير العراقي مسلما أو غير مسلم غيرُ مشمول بحكم القانون والحقيقة ان عدم حكم الأجنبي(1) غير المسلم بأحكام قانون الأحوال الشخصية لا يثير إشكالية إلا في حالات معينة أما عدم شمول أحكام القانون المسلم غير العراقي(2) فهذا يعني أن المسلمين سوف تحكمهم قوانين عدة تبعا لاختلاف جنسياتهم فهل يمكن إيجاد الأصل الشرعي لهذا التعدد في القوانين التي تحكم المسلمين؟.
يمكن القول بان الاتجاه الذي تبناه المشرع في هذه المسالة اتجاه أصيل تبناه فقهاء الشريعة في القديم والحديث فكما هو معلوم ان شخصية القانون هي الصفة البارزة في قواعد الأحوال الشخصية على اعتبارها قواعد سلوك خاصة بالفرد وبروابطه بالأسرة والمجتمع فهي ترتبط بشكل وثيق بمجمل العادات والأعراف السائدة في المجتمع تلك الأعراف التي تختلف من بلد إلى بلد ، ولما كانت قواعد الشريعة قد قامت على اعتبار أعراف الناس وتقاليدهم فيما لا يخالف الشرع بل أن أراء الفقهاء واجتهاداتهم يجب أن لا تكون بعيدة عن عادات الناس وتقاليدهم على أساس أن (العرف معتبر في كثير من الأحكام الشرعية العملية بين الناس لما له من تأثير واسع في استنباط الأحكام والاجتهاد فيها وذلك لان كثيرا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه فلا بد من النظر إلى هذا المألوف المتعارف العرف- حين استخراج الحكم الشرعي للمسائل المتجددة أو المشكلات التي تنشا بين الناس.
فكما هو معلوم ان النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات والمسائل المتجددة وإنما تتخذ أساسا للاجتهاد وبيان الأحكام، والعرف يساعد كثيرا في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم -التصرف أو- الواقعة وتطبيق الحكم الشرعي عليهما حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئاتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة وهذا هو سبب تغير اجتهادات الإمام الشافعي في مسائل كثيرة توصل إليها حين كان في بلاد العراق فلما انتقل إلى مصر ورأى تغير أعراف الناس وعاداتهم عدّل في اجتهاداته حتى صارت تعرف بالمذهب الجديد للإمام الشافعي وسميت اجتهاداته في العراق المذهب القديم)(3) وإذا كان العرف بهذه الأهمية في استنباط الأحكام الشرعية ابتداء فهو من باب أولى يتمتع بنفس الأهمية أو يزيد في حالة التخير بين المذاهب لحكم مجتمع من المجتمعات(4)
لذا يجب القول أن للمشرع بل عليه في كل بلد أن يختار من أراء الفقهاء ما يتلاءم مع ظروف وأحوال الناس في ذلك البلد فما يحقق من أراء الفقهاء مصلحة في بلد مثل العراق قد يكون وسيلة إلى مفسدة في بلد إسلامي أخر (فالشي الذي لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال أن الأماكن التي يعيش عليها الناس المنتشرون فوق الأرض أماكن مختلفة ومتباينة أجوائها ومياهها وشمسها وأقاليمها وسحبها وأمطارها وأحجارها وجبالها ووديانها وتبعا لقوانين الطبيعة المتنوعة بهذا القدر يختلف الناس جميعا في حياتهم وفي أعمالهم وعلاقاتهم الاجتماعية وقوة فهمهم وإدراكهم للأمور أيضا وبينما تحدث تلك التغيرات تحدث تغيرات في أحوال الناس وفي أفكارهم وتصرفاتهم أيضا في أن واحد)(5) توجب على كل مشرع في بلد من البلدان أن يضع ما يتلاءم مع خصوصية بلده من الأحكام القابلة للتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والمقصود بهذا التغير (تغير العادات والأحوال للناس في زمن عنه في زمن آخر أو في مكان عنه في مكان آخر، مهما اختلفت المؤثرات التي أدت إلى تغير الأعراف والعادات…)(6) فقد اشرنا سابقاً إلى أن الأحكام المبنية على العرف تتغير بتغير الزمان والمكان(7) لأنه بتغير الازمان والاماكن تتغير احتياجات الناس، وبناء على هذا التغير يتبدل أيضا العرف وبتغير العرف تتغير الأحكام المبنية عليه(8). واشرنا أيضاً إلى أن (من أسباب تبدل الأحكام الاجتهادية في فقه الشريعة الإسلامية اختلاف الأوضاع والأحوال والوسائل الزمنية عما كانت عليه في السابق حينما قررت تلك الأحكام). وما هذا إلا من باب مراعاة الواقع من خلال سن ما يتطلبه هذا الواقع من تشريعات وهو ما تسعى إليه السياسة التشريعية فقد عُرفت هذه السياسة: بأنها (مكنة وفن تحقيق الأهداف التي يجب أن يحققها القانون)(9).لان القانون ليس غاية في ذاته وإنما هو وسيلة للوصول إلى تحقيق أهداف وغايات واضعية(10). لهذا فإنه وقبل المباشرة في تنظيم هذه الوسيلة يجب تحديد الأهداف والغايات، ثم خلق الوسائل لها، ومن هنا تظهر أهمية السياسة التشريعية في تحديد الهدف أو الغاية التي يراد تحقيقها بعد دراسة الواقع دراسة تحليلية تمهيداً لتحديد المصالح التي يسعى القانون لتحقيقها، وعلى هذا فالسياسة التشريعية.
تقوم على أساسين:
أولهما: معرفة وقائع الحياة ومقتضياتها لتحديد الحاجات البشرية التي يراد سدُّها.
ثانيهما: إقامة القاعدة القانونية أو القانون الذي يحقق الهدف المطلوب، وبعبارة أخرى وضع أنسب القواعد القانونية لمجابهة هذه الوقائع وإشباع تلك الحاجات والمقتضيات(11).
فالقانون يجب أن يكون تاطيرا للواقع ينمو بنمو الواقع ويتطور بتطوره مثلما ينكمش بانكماشه ويركد بركوده(12).وعلى … أن اتجاه المشرع العراقي في استثناء الأجنبي من أحكام قانون الأحوال الشخصية اتجاه أصيل يشهد له اعتبار الفقهاء المسلمين للعرف في استنباط الأحكام وقبل ان ننتقل الى بحث التأصيل الشرعي لاستثناء العراقي غير المسلم من أحكام القانون ارى انه لا بد من الإشارة إلى القواعد التي نظمت حكم العلاقة التي يكون فيها عنصر أجنبي وهي القواعد التي أشارت إليها الفقرة الثانية من المادة الثانية من قانون الاحوال الشخصية بقولها (تطبق المواد 19و20 و21 و22و23و24من القانون المدني في حالة تنازع القوانين من حيث المكان) وهذه المواد هي كالآتي:
مادة 19:
(1. يرجع في الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين أما من حيث الشكل فيعتبر صحيحا الزواج ما بين أجنبيين أو ما بين أجنبي وعراقي إذا عقد وفقا للشكل المقرر في قانون البلد الذي تم فيه أو روعيت فيه الأشكال التي قررها قانون كل من الزوجين.
2. ويسري قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج بما في ذلك من اثر بالنسبة للمال.
3. ويسري في الطلاق والتفريق والانفصال قانون الزوج وقت الطلاق أو وقت رفع الدعوى.
4. المسائل الخاصة بالبنوة الشرعية والولاية وسائر الواجبات ما بين الآباء والأولاد يسري عليها قانون الأب.
5. في الأحوال المنصوص عليها في هذه المادة إذا كان احد الزوجين عراقيا وقت انعقاد الزواج يسري القانون العراقي وحده).
مادة20:
(المسائل الخاصة بالوصاية والقوامة وغيرها من النظم الموضوعة لحماية عديمي الأهلية وناقصيها والغائبين يسري عليها قانون الدولة التي ينتمون إليها).
مادة 21:
(الالتزام بالنفقة يسري عليها قانون المدين بها).
مادة 22:
(قضايا الميراث يسري عليها قانون المورث وقت موته مع مراعاة ما يلي:
أ. اختلاف الجنسية غير مانع من الإرث في الأموال المنقولة والعقارات غير أن العراقي لا يرثه من الأجانب إلا من كان قانون دولته يورث العراقي منه.
ب. الأجنبي الذي لا وارث له تؤول أمواله التي في العراق للدولة العراقية ولو صرح قانون دولته بخلاف ذلك).
مادة 23:
(1. قضايا الوصايا يسري عليها قانون الموصي وقت وفاته.
2. تطبق القوانين العراقية في صحة الوصية بالأموال غير المنقولة الكائنة في العراق والعائدة إلى متوفى أجنبي وفي كيفية انتقالها).
مادة 24:
(المسائل الخاصة بالملكية والحيازة والحقوق العينية الأخرى وبنوع خاص طرق انتقال هذه الحقوق بالعقد والميراث والوصية وغيرها يسري عليها قانون الموقع فيما يختص بالعقار ويسري بالنسبة للمنقول قانون الدولة التي يوجد فيها هذا المنقول وقت وقوع الأمر الذي ترتب عليه كسب الحق أو فقده). هذه هي المواد التي نظمت حكم العلاقة التي يكون فيها عنصر أجنبي وبها ننتهي من بحث التاصيل الشرعي لاستثناء الانسان المسلم غير العراقي من نطاق سريان قانون الاحوال الشخصية.
___________________________
[1]- نصت المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية للأجانب رقم (78) لسنة 1931م على ان (على المحاكم العراقية عندما تنظر في دعاوى المواد الشخصية المتعلقة بالأجانب والتي جرت العادة بتطبيق قانون البلد الأجنبي فيها ان تطبق ذلك القانون وفق أحكام حقوق الدول الخاصة باعتبارها القانون الشخصي والقانون الشخصي هو قانون الدولة التي يكون ذلك الشخص من رعاياها أو قانون دولة أخرى عندما ينص القانون المذكور على تطبيقه).
2- نصت المادة الثانية من قانون الأحوال الشخصية للأجانب (1. للمحاكم المدنية ان تنظر في دعاوى المواد الشخصية المختصة بالاجانب 2. للمحاكم الشرعية صلاحية النظر في المواد الشخصية المتعلقة بالمسلمين الأجانب فقط عندما لم يكن القانون الشخصي المقتضى تطبيقه وفق المادة الأولى من هذا القانون قانوناً مدنياً بل هي الأحكام الفقهية الشرعية).
3- ينظر د. عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، نشر مكتبة الاقصى، عمان، 1397هـ-1977م ص39.
4- (إن مراعاة الشارع لاعراف الناس المتغيرة المبنية على تحقيق مصالح لهم إنما يشير إلى مرونة الشريعة واتساع واستيعاب أحكامها لكل جديد ولكل بيئة وأهمية الأخذ بعين الاعتبار مسالة تغير الأزمان والأمكنة والبيئات وفي ذلك إشارة واضحة إلى عالمية الشريعة الإسلامية فهي ليست لقوم دون غيرهم وأحكام الشريعة صالحة وقابلة للتطبيق في القرية والمدينة في الغرب والشرق والسفر والحضر… وهكذا أينما التفت المرء ألفى شرع الله حاكما منظما لحياته وما ذلك إلا لأنها شريعة معصومة خالدة اشتملت على المواقف المرنة التي تتغير تبعا لتغير البلدان والأشخاص والأقوام) ينظر رقية طاهر جابر، تحديد معايير وضوابط منهجية للعمل بغلق الذريعة، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية قسم أصول الفقه، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، 1997، نقلا عن صبحي الصالح، معالم الشريعة الإسلامية، دار العلم الملايين، بيروت، ص68 وما بعدها.
5- ينظر رقية طاهر جابر، المرجع السابق، نقلا عن حسين أتاي، الإسلام في الزمان والمكان، مجلة المسلم المعاصر، العدد 28، ص32.
6- ينظر د. عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، نشر مكتبة الاقصى، عمان، 1397هـ-1977م، ص77.
7- (أن تغير الأحكام المترتبة على الاعراف يتطلب أولا اثبات كون الحكم انما وضع لاجل ذلك العرف ثم ثانيا أن يتغير ذلك العرف ويحل محله عرف اخر مخالف له وكل من الامرين يحتاج إلى نظر واجتهاد) ينظر د. احمد الريسوني، الاجتهاد –الواقع- المصلحة، دار الفكر، ط2، 1422هـ، 2002م.
8- ينظر د. عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الاسلامية، ص102.
9- ينظر د. منذر الشاوي، فلسفة القانون، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، 1414ـ-1994م، ص218.
0[1]- ينظر المهداوي، المرجع السابق، ص349.
1[1]- ينظر: د. حسن علي الذنون، فلسفة القانون، ط1، مطبعة العاني، بغداد، 1975، ص240، وأيضا، د. منذر الشاوي، المرجع السابق: ص218و220.
2[1]- ينظر د. احمد الريسوني، الاجتهاد –الواقع- المصلحة، دار الفكر، ط2، 1422هـ، 2002م ، ص60.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً