آليات التغطية الإعلامية في القضايا الجنائية ..! / القاضي ناصر عمران الموسوي
لا تحظى العلاقة بين الإعلام والقضاء بتلك المنظومة التفاعلية القادرة على استثمار الطاقة الفاعلة للسلطة القضائية كمحور ضامن لهيكلية البنى التنظيمية للدولة ، ولم يخرج عن أطار الصورة القراراتية والاحكامية الفاصلة الدائرة في محيط مبدأ المشروعية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ) ولم تنزاح باتجاه الصورة الأخرى المكتملة وهي حالة الردع العام كصيغه ملوحه بالنهي والتحذير متماهية بفهم واضح ودقيق لمدلول وماهية الجزاء كهدف وغاية أكثر منه وسيلة عقابية ، في المقابل ظل الإعلام بعيدا ًعن التغطية والتفعيل واعتبر المساحة القضائية الجنائية بعيدة عن اهتماماته وان صادف أن تعامل مع القضايا الجنائية فانه يتعامل مع الجزاء كوسيلة عقابية أكثر منه هدف وغاية لتحقيق الأمن المجتمعي بعقيدة سلوكية اجتماعية تنأى عن السلوك الإجرامي متسلحة برؤية فكرية وثقافية تنطلق أصلا ً من وجود القانون كناظم للحياة يجد الجميع ضماناتهم في هيمنته وفرض سيادته ، ولعل أسباب ذلك ترجع الى ثنائية يشترك فيها الإعلام والقضاء فكلاهما عانى من سلطوية الاستبداد ،التي جعلت من القضاء رهين مديات العمل القضائي كمحاولة منه لخلق نسيج وقائي يجعل منه بعيدا ًعن سلوكيات السلطة المستبدة ولم ينجح ،فعلى الدوام كانت يد السلطوي تطال الجميع فعانى القضاء والقضاة كثيرا ًمن خضوع إداري لسلطة الوزير التي أبعدت القضاء عن دور السلطة إلى أداء الوظيفة ،حتى تهيأ للقضاء التحرر بعد سقوط النظام لتكون السلطة القضائية إحدى السلطات الثلاث للدولةحسب نص المادة (47) من الدستور العراقي ،اما الإعلام فكان صورة السلطة وأحدى أهم أدوات القمع الثقافي والفكري وتشويه الحقائق والاهتمام بتجميل الصورة البشعة لوجه الدكتاتورية القبيح بل أن جلادي السلطة وطباليها هم من استحوذ على مقاليد الوزارة بجميع مفاصلها ، وبعد سقوط النظام وإلغاء وزارة الإعلام والاتجاه نحو الإعلام الحر القادر على أن يكون السلطة الرابعة وصوت الرأي العام وصورة الحقيقة ،وبالرغم من المثالب الكثيرة التي رافقت الظهور الكبير والسريع لوسائل الإعلام والقنوات الفضائية ،إلا أن الإعلام شكل في كثير من المواقف قنوات الضغط الواضحة التيحققت للرأي العام انتشاره وتأثيره وبالتالي فرض قراره .
إن التغطية الإعلامية للعمل القضائي بعد سقوط النظام انعكست بشكل ايجابي في التعامل مع القضاء واستقلاليته كهيكلية قانونية دستورية فرضتها المحصلات الديمقراطية ،والحقيقة إن التغطية الإعلامية كانت مؤثرة جدا ً حيث اضافة وعيا قانونيا لحقيقة العمل القضائي وأهميته وهو أمر لا يتأتى بهكذا شكل ومفهوم لولا الاهتمام الإعلامي بذلك ،الأمر الذي حدا بمجلس القضاء الأعلى إلى تشكيل مراكز ومواقع إعلامية منبثقة من هيكليته الإدارية ،هدفها إبراز فاعلية وتأثير العمل القضائي والعمل على إيجاد وعي وثقافة قانونية وقضائية وذلك يتحقق بالتعاون مع المؤسسات والمواقع الإعلامية ،وعلى الرغم من ان العلاقة بين الإعلام والقضاء والتي شكلت جوانب ايجابية بوجود محكمة متخصصة بجرائم النشر ،إلا أنها في ميدان القضايا الجنائية ظلت خجلة متعكزة على ذاكرة قديمة ،فما زال القضاء الجنائي غير متسع بشكل كافي للتغطية الإعلامية الموضوعية القادرة على بناء منظومة الردع العام والأمن المجتمعي ،ومازال الإعلام محملا ًبتركة المساحات المحرمة ،وبناء آليات عمل مهنية للتغطية الإعلامية مؤثرة في الراي العام يأتي من الاستجابات المتبادلة لمران إعلامي جديد وجدير بالاهتمام واهم آليات التغطية الإعلامية للقضايا الجزائية هي :
1_ التغطية الإعلامية للقضايا الجنائية تتطلب ثقافة قانونية قادرة على الموائمة بين البحث عن المعلومة والحقيقة الواقعية التي يتطلبها العمل الإعلامي وبين التعامل مع القضايا الجنائية التي تصطدم مع السرعة والسبق الصحفي ،فالتغطية الصحفية للقضية الجنائية هي تغطية وثائقية مرتهنة بالحقائق القضائية ،كون الحكم عنوان الحقيقة وإبرازها يتم عبر حيثياتها القضائية ونتائجها الحكمية ،ولا يجوز التعقيب على الأحكام القضائية .
وان تعتمد في تغطيتها على الوثائق والمستندات المؤيدة للمادة المنشورة حتى لا تفقد مصداقيتها أمام الرأي العام
بنشر وقائع غير صحيحة ،وبالتالي الخضوع للمسائلة القانونية .
2_ الدقة والحقيقة والصدق في المادة المنشورة لان خلاف ذلك يؤدي إلى الإضرار بأطراف القضية الخصوم وقد يلحق بهم أضرار جسيمة وحتى القاضي سيكون من ضمن المتضررين من ذلك .
3_ المتهم بريء حتى تثبت إدانته ،مبدأ متسع في حضوره لدى الإعلامي القائم بالتغطية والذي يدخل في كل مفاصل المعلومة والخبر حتى صدور قرار بالإدانة ثم الحكم .وخلاف ذلك سيكون تعديا على حقوق وحريات الآخرين في ميدان الحقوق والحريات وضماناتها .
4_ الأخبار التي تتعلق بالرأي العام تكون مجردة كمعلومة وعصية على التعليق والإضافة والرأي لان ذلك يؤثر في الرأي العام ومجريات الدعوى الجزائية .
5_ الحيادية في نقل وقائع القضايا بدون تحيز او ميل باتجاه طرف على حساب طرف آخر .
6_ ان تكون التغطية الإعلامية محققة لرسالة العدالة وساعية في تحقيقها .
7_في قضايا الرأي العام تنشر أحكام الإدانة والعقوبة دون الإشارة إلى الحيثيات والأدلة حتى لا يتم تجنبها من قبل الجناة فيما بعد ،في حين تنشر أحكام البراءة بشكل يعتمد فيه الأسلوب اللائق والملفت للنظر ويتم فيه التطرق الى أسباب الحكم ومنطوقة والحيثيات التي رافقت مجريات التحقيق والمحاكمة .
9_القضايا الجنائية المرتبطة بقضايا الأسرة والحريات الشخصية مسائل فيها من الحساسية والتأثير بالشكل الذي إذا تمت فيه الإساءة تؤدي إلى انهيار اسر كثيرة .
10 _ أن تكون التغطية الصحفية في القضايا الجنائية خارجة من حقيقة الرؤية المتشكلة لدى القاضي الجنائي وليست مؤثرة فيه ،مع الالتزام بسرية التحقيق ومجريات المحاكمة .ويكون تأثير التغطية ايجابيا في الرأي العام .
إن هذه الآليات وان كانت مبتسرة هي أدوات الإعلامي في تغطيته للقضايا الجنائية وكلما أوغلت ثقافته القانونية في مهنيته الإعلامية كلما كان قادرا ً على التأثير الايجابي في تقديم تغطية إعلامية وازعها المهم هو رسالة العدالة التي تخرج من اضبارة الدعوى وساحات المحاكم باتجاه الضمير والفهم المجتمعي ،ليكون القانون والحكم والقضائي عقيدة إيمانية اجتماعية أكثر منها تحذيرا ًوجزاء ً عقابيا ً .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً