اِنَّ الميزات التي تتمتع بها وثيقة التأمين العائمة والتي اختلفت عن باقي وثائق التأمين البحري – بضائع- ادت بدورها الى اختلافً كلٍ من الفقه والقضاء في تحديد طبيعتها القانونية . وسنحاول في هذا الموضوع التطرق والتعرف على اهم ما طرحه الفقه والقضاء من آراءٍ، والذين حاولوا بدورهم التوصل الى الطبيعة القانونية للوثيقة العائمة، لترجيح ما ينطبق على الوثيقة العائمة، وذلك عبر الفقرات الثلاث الاتية:
اولاً : وثيقة التأمين العائمة هي وعد بالتعاقد
الوعد بالتعاقد إِما ان يكون ملزماً لجانب واحد عندما يصدر الوعد من الواعد، او ان يصدر من جانبين عندما يكون كل واحد فيهما واعداً وموعوداً له. من المعروف أَنَّ الحاجة تظهر للوعد الملزم لجانبين عندما يكون هناك ما يحول دون ابرام العقد، لذلك يتم ارجاء العقد النهائي في المستقبل(1) وعلى هذا الاساس، نجد ان هناك من الشراح(2) من ذهب الى القول: ان وثيقة التأمين العائمة هي وعد بالتعاقد (بالتأمين) وليست عقداً نهائياً. اذ ان المؤمن له يعد المؤمن أن يؤمن على جميع شحناته لدى المؤمن نفسه، وهذا الاخير يعد المؤمن له بقبول التأمين على هذه الشحنات. ويؤسسون رأيهم هذا على ان وثيقة التأمين العائمة لاتتضمن تحديداً دقيقاً للبضائع المؤمن عليها، ومن ناحية اخرى أَنها لاتتضمن تعهد من المؤمن على التأمين على جميع الشحنات المستقبلية بصورة جازمة. ومما تجدر ملاحظته ان المشرع العراقي قد تناول مسألة الوعد بالتعاقد في م91 من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951، إذ نصت تلك المادة على “1-الاتفاق الابتدائي الذي يتعهد بموجبه كلا المتعاقدين او احدهما بأبرام عقد معين في المستقبل لا يكون صحيحاً الا اذا حُدِّدت المسائل الجوهرية للعقد المراد ابرامه والمدة التي يجب ان يبرم فيها. 2- فاذا اشترط القانون للعقد استيفاء شكل معين فهذا الشكل يجب مراعاته ايضاً في الاتفاق الابتدائي الذي يتضمن وعداً بابرام هذا العقد”.
لذلك يجب ان تتوافر في الوعد بالتعاقد (الاتفاق الابتدائي) الشروط الاتية:
الاتفاق على جميع المسائل الجوهرية.
اذ لابد من الاتفاق على جميع المسائل الجوهرية ذلك، لأنَّ وظيفة الوعد بالتعاقد هو من اجل التمهيد للعقد النهائي، وبذلك لايحتاج الامر بعد ذلك الى الاتفاق مجدداً من اجل ان يتم العقد النهائي(3).
شرط المدة
يعدّ شرط المدة من الشروط الاساس في الوعد بالتعاقد، ذلك حتى لايبقى الواعد ملتزماً بوعده دون مدة محددة. وتعيين المدة يمكن ان يكون صريحاً ويمكن ان يكون ضمنياً كما لو تم استخلاص المدة من ظروف التعاقد، كأن يقترن ابرام العقد الموعود به بعقد أخر محدد المدة او ان العقد الموعود به لايمكن تنفيذه مجدداً اذا مرت مدة معينة او ميعاد معين(4).
شرط الشكلية
يقضي هذا الشرط انه اذا اشترط القانون شكلاً معين لاتمام العقد لابد من مراعاة ما اشترطه القانون(5).
ثانياً : الوثيقة العائمة عقد نهائي
ذهب القضاء(6) ويسانده الفقه في ذلك الى القول أنَّ وثيقة التأمين العائمة هي عقد نهائي وليست مجرد وعد بالتعاقد كما ذهب اليه اصحاب الرأي الاول، الذين وصفوها بانها مجرد وعد بالتعاقد. إذ أنَّ اصحاب هذا الرأي يذهبون الى القول أنَّ الوثيقة العائمة هي عقد نهائي كبقية عقود التأمين البحري ، وقد انتقد اصحاب هذا الرأي الحجة التي استند اليها الرأي الاول الذي يرى في الوثيقة العائمة مجرد وعد بالتأمين، بحجة انها لاتتضمن تحديداً للبضائع المؤمن عليها عند التعاقد، هذا من ناحية. أَمَّا من الناحية الاخرى فأن الوثيقة العائمة لاتشتمل على تعهدٍ صادرٍ بصورةٍ قطعيةٍ من قبل المؤمن (شركة التأمين). ويردون على الحجة الاولى بالقول أنَّه ما دامت هذه البضائع قابلة للتحديد او التعيين، فلا يوجد ما يسوّغ وصفها بانها مجرد وعد بالتأمين إذ أن البضائع المؤمن عليها يتم تحديدها بواقعة الشحن.
أما فيما يخص الاقرار الذي يلتزم المؤمن له بتقديمه للمؤمن –شركة التأمين- بحصول الشحن، فليس هو الذي يتحقق به تحديد البضاعة، إذ أنّ كل ما يقصد من تقديم الاقرار هو تمكين المؤمن من حساب قسط التأمين، على وفق مقدار البضاعة المشحونة وطبيعتها(7) والواقع أًنَّ عدم تعيين المحل –الشيء المؤمن عليه- عند التعاقد لايؤدي بالضرورة الى جعل العقد المبرم مجرد وعد بالتأمين ما دام بالامكان تعينيه في المستقبل ، اذ ان من شروط المحل هي :
1- ان يكون موجوداً او ممكن الوجود.
2- ان يكون معيناً او قابلاً للتيعين.
3- ان يكون قابلاً للتعامل فيه او مشروعاً(8).
من هذا نجد انه لايشترط في المحل ان يكون معيناً عند التعاقد، ولكن بشرط ان يكون بالامكان تعينيه في المستقبل ، وبذلك يمكن القول أنَّ الوثيقة العائمة هي عقد وليست مجرد وعد بالتعاقد. وسنرى أَنَّ هذا العقد هو عقد معلق على شرط واقف. أمَّا الحجة الثانية وهي أَنَّ المؤمن (شركة التأمين) لا يمكن أَنْ يقبل التأمين على هذه الشحنات بصورة جازمة(9)، فيمكن الرد على هذا القول أنَّ المؤمن او وكلاءه يكونون ملزمين بقبول على التأمين على جميع الشحنات التي تعود للمؤمن له، والتي تكون له مصلحة في التأمين عليها إذ لايكون له حق رفض التأمين عليها.
ثالثاً : الوثيقة العائمة عقد معلق على شرط واقف
ان نشوء الالتزام او تخلفه قد يكون معلقاً على تحقق شرط واقف، فاذا ما تحقق الشرط تمَّ انعقاد العقد وترتبت الالتزامات في ذمة طرفي العقد، ولكن إِذا تخلف الشرط فإِنَّ العقد لايظهر الى الوجود ويعد بمثابة العدم(10) لذلك فأن هناك من يرى في الوثيقة العائمة عقد معلق على شرط واقف(11). والشرط الواقف في وثيقة التأمين العائمة هو وجود شحنات في المستقبل تشحن لحساب المؤمن له او شحنات يشحنها هو – المؤمن له – لحساب الغير، ما دامت هناك مصلحة للمؤمن له في التأمين عليها. ويجب على المؤمن له ان يقدم الاقرارات(12) الخاصة بتلك الشحنات وفقاً للوقت المحدد في الوثيقة العائمة. وبناءاً على ذلك لايجوز للمؤمن له ان يقوم بتقديم الاقرار الخاص بشحنة معينة، (او يمتنع) عن تقديم الاقرارات الخاصة بشحنة اخرى تكون نسبة احتمالية تحقق الخطر فيها وتعرضها للضرر اكبر، بل عليه ان يخطر شركة التأمين (المؤمن) عن جميع تلك الشحنات ومن دون استثناء. إذ أن تقديم الاقرار او الامتناع على تقديمه اذا كان متوقفاً على ارادة ومشيئة المؤمن له ، سوف يجعل الالتزام معلقاً على شرط ارادي(13). محض، باعتبار أَنَّ المدين بتقديم الاقرارات هو المؤمن له. ونرى ان قيام المؤمن له بتقديم الاقرار عن كل الشحنات المستقبلية يعتمد في الدرجة الاساس على مبدأ حسن النية(14)، الذي يعدَّ من المبادئ الاساس في عقود التأمين البحري. ويبدو ان اهمية هذا المبدأ يتضح في وثيقة التأمين العائمة لاسيما وان المؤمن يعتمد في الاصل على حسن نية المؤمن له في تقديم الاقرار عن شحنة ، يكون ملزماً بالتأمين عليها وعلى الرغم من انه يجهل كمية ونوع البضاعة. لذلك يمكن القول ان لوثيقة التأمين العائمة طبيعة خاصة تتميز بها، اذ ان هذه الطبيعة تجعل مركز المؤمن قلقاً وهذا خلاف طبيعة عقد التأمين الذي يكون عليه مركز المؤمن له، على اساس ان عقد التأمين البحري هو من عقود الاذعان(15). ويرجع سبب هذا القلق الى ان المؤمن يعتمد على المؤمن له في تقديم جميع الإقرارات، إذ قد يكون المؤمن له هو السبيل الاساس لمعرفة المؤمن بالشحنات المشمولة بالتغطية التأمينية.
ومن خلال ماتم طرحه من آراء لتحديد الطبيعة القانونية لوثيقة التأمين العائمة :
نرى أنَّ وثيقة التأمين العائمة هي عقد من العقود المستمرة(16). والمعلقة على شرط واقف. فالاستمرارية متأتية من ناحيتين : الاولى هي أنّ وثيقة التأمين العائمة تعد الشكل المعبر عن عقد التأمين البحري الذي يعد بدوره من العقود المستمرة، اذ أنَّ كلاً من طرفي عقد التأمين البحري ملتزم امام الطرف الاخر بما تم الاتفاق عليه طوال نفاذ العقد. ومن ناحية اخرى، نجد ان التزام المؤمن لاينتهي بالتأمين على شحنة معينة، بل ان المؤمن ملتزم بالتأمين على جميع الشحنات المستقبلية التي يكون للمؤمن له مصلحة بالتأمين عليه، لحين انتهاء المدة المحددة في وثيقة التأمين العائمة، ولايبرأ المؤمن عندما يؤمن على شحنة معينة من دون شحنة اخرى. اما كون التزامات طرفي عقد التأمين معلقة على شرط واقف، فانه وكما اشرنا سابقاً الى ان المؤمن له لن يحصل على التغطية التأمينية لأي شحنة، مالم يقدم الاقرار عنها ضمن المدة المحددة في الوثيقة. وأنّ المؤمن حتى اذا علم أن هناك شحنة لم يخطر المؤمن له عنها ، فانه لن يستطيع إلا المطالبة بالفسخ مع التعويض ، إذ لا يستطيع المطالبة بالتأمين عليها، وبذلك يكون التزام المؤمن بالتأمين على الشحنة معلقاً على تقديم الاقرار ايضاً.
_______________________
1- عبد القادر الفار: مصادر الالتزام ، مصادر الحق الشخصي في القانون المدني، عمان ، مكتب دار الثقافة للنشر والتوزيع ، 1998، ص51.
اسماعيل غانم : النظرية العامة للالتزام ،مصادر الالتزام ، القاهرة، مكتب عبد الله وهبة، 1966، ص137، ص139.
2- د. مصطفى كمال طه: مبادئ القانون البحري، الدار القومية للطباعة والنشر، بدون ذكر سنة الطبع ، ص424. خالص نافع امين : التأمين على البضائع المنقولة بحراً ، رسالة ماجستير مقدمة لكلية القانون والسياسية، جامعة بغداد، 1983، ص66.
3- د.عبد المجيد الحكيم: الموجز في القانون المدني ، ج1، مصادر الالتزام ، ط5، بغداد، مطبعة النديم، 1977، ص58.
4- د. اسماعيل غانم: النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، القاهرة، مكتبة عبد الله وهبة، 1966، ص141.
5- د. عبد القادر الفار: مصادر الالتزام ، مصادر الحق الشخصي في القانون المدني، عمان ، مكتب دار الثقافة للنشر والتوزيع ، 1998، ص52.
6- نقض فرنسي:5 نوفمبر/1951.D. M. F. 1952/ 129، اشار اليه د. .مصطفى كمال طه: الوجيز في القانون البحري، القاهرة، المكتب العصري الحديث للطباعة والنشر، سنة 1971، ص481-482. وخالص نافع امين: مصدر سابق، ص67.
7- د.فياض عبيد: البيوع البحرية والاعتماد المستندي في البيوع البحرية ، ج1، بدون ذكر مكان الطبع،1970، ص140.
د. مصطفى كمال طه: الوجيز في القانون البحري، القاهرة، المكتب العصري الحديث للطباعة والنشر، سنة 1971، ص482.
8- د. عبد المجيد الحكيم: الموجز في شرح القانون المدني، مصادر الالتزام ، ج1، ط5، بغداد، مطبعة النديم، 1977، ص181. ود. صلاح الدين الناهي: الوجيز في النظرية العامة ، مصادر الالتزام ، بدون ذكر سنة الطبع، 1950 ، ص83.
9- فياض عبيد: البيوع البحرية والاعتماد المستندي في البيوع البحرية، ج1، بدون ذكر مكان الطبع، 1970، ص141.
10- د.عبد المجيد الحكيم: الموجز في شرح القانون المدني ، ج2، احكام الالتزام ، ط3، بغداد، دار الطباعة للنشر، 1977، ص183-184. عبد الحي حجازي: النظرية العامة للالتزام ، ج1، الالتزام في ذاته، القاهرة، مطبعة النهضة ، 1954، ص179. د.ياسين محمد الجبوري : الوجيز في شرح القانون المدني الاردني ، ج2، ط2، اثار الحقوق الشخصية ، احكام الالتزام ، الاردن ، مركز حماد للطباعة ، 1997، 306. د.عبد القادر الفار: احكام الالتزام ، اثار الحق في القانون المدني ، عمان ، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1995، ص136 .د.منذر الفضل : النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني دراسة مقارنة بين الفقه الاسلامي والقوانين المدنية الوضعية ، عمان ، مكتبة دار الثقافة للنشر والطباعة ، 1995، ص156-157.
11- مصطفى كمال طه : الوجيز في القانون البحري ، مصدر سابق ، ص482.
12- يقصد بالاقرارات هي مجموعة البيانات التي يلتزم المؤمن له تقديمها لشركة التأمين عندما يصل اليه العلم بكمية البضاعة ونوعها وواسطة النقل وطريق الرحلة البحرية، وهذا ما سوف نوضحه في الفصل الثالث من الرسالة.
13- الشرط الارادي : هو الشرط الذي يكون تحققه او تخلفه متروكاً لمشيئة احد الطرفين المتعاقدين من دون الاخر. وهذا الشرط إما أنْ يكون ارادياً بسيطاً في حالة ما اذا كان تحقق او تخلف الشرط متروكاً لمشيئة الدائن. وإما ان يكون هذا الشرط شرط ارادياً محض وذلك اذا كان تحقق او تخلف الشرط متروكاً لمشيئة المدين .
د. منذر الفضل: النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني، دراسة مقارنة بين الفقه الاسلامي والقوانين المدنية الوضعية ، مكتب دار الثقافة للنشر والطباعة، 1995، ص159-160.
د.انور سلطان : احكام الالتزام ، الموجز في النظرية العامة للالتزام. دراسة قانونية مقارنة بين القانونين المصري والليبي ، بيروت ، دار النهضة العربية ، 1980، ص208.
14- احمد حسين خليل : الرجوع والعواريات في التأمين البحري ، مصدر سابق، ص11-12. طعن صادر عن محكمة النقض المصرية عن جلسة 25/5/1981 : “يعتبر مبدأ حسن النية من المبادئ الاساسية في عقد التأمين اذ ان المؤمن له يجب ان يكون صادقاً في كل ما يدل من معلومات او بيانات خاصة بالشيء المراد التأمين عليه وتوفر مبدأ حسن النية من المبادئ الاساسية سواء عند انعقاد العقد او اثناء تنفيذه او ان اخفاء حقيقة ما يجعل من عقد التأمين باطلاً”.
سعيد احمد شعلة: قضاء النقض في التأمين، الاسكندرية، منشأة المعارف، 1997، ص295.
15- يقصد بعقد الاذعان “بانه العقد الذي لايحول دون قيامه انه يجيء القبول من احد طرفيه اذعاناً لارادة الطرف الاخر وذلك بان يرتضي التسليم بمشروع عقد وضعه الطرف الاخر مسبقاً ولا يقبل مناقشة شروطه”.
د.يعقوب يوسف صرخوة: الوسيط في شرح القانون البحري الكويتي ، ج1، ط1، الكويت ، 1985، ص315.
وجاء في قرار محكمة التمييز ما يؤكد هذا المبدأ إذ نصت في قرار لها “عقد التأمين من عقود الاذعان التي يقوم بها المؤمن بطباعة نماذج للعقد يضع فيها شروطه التي لايقبل بها نقاشاً وما على المؤمن له سوى القبول والتسليم باعتباره الطرف الضعيف المذعن الذي لايملك الا القبول او الرفض” . قرار صادر عن محكمة التمييز الاردنية رقم 531 لسنة 1998 . انظر امين محمد احمد : التأمين والقضاء في قرارات محكمة التمييز، عمان ، 2001، ص447.
16- اِنَّ ايَّ عقدٍ اما ان يكون فوريً التنفيذ، ويقصد به العقد الذي لايكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه، واما ان يكون مستمراً او ما يسمى بالعقد الزمني ، ونقصد به العقد الذي يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيه، اذ بمرور الزمن يتم تحديد الشيء المعقود عليه (اي محل الالتزام).
د. عبد القادر الفار: مصادر الالتزام، الحق الشخصي في القانون المدني، عمان، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1998. ص35-36.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً