المدخل لدراسة حقوق الإنسان
الدكتور الدكتور
مازن ليلو راضي حيدر ادهم عبد الهادي
استاذ القانون العام المشارك استاذ القانون العام المساعد
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من امرنا رشدا
صدق الله العظيم
الآية 10 سورة الكهف
مقدمه عامه
تعد حقوق الانسان حجر الزاويه في اقامة المجتمع المتحضر الحر , واحترام حقوق الانسان ورعايتها هو عماد الحكم العادل في المجتمعات الحديثه والسبيل الوحيد لخلق العالم , الحر الآمن والمستقر .
وفي جنبات هذا المؤلف حاولنا استعراض موضوع حقوق الانسان والقينا الضوء على هذا الموضوع الذي طالما شغل رجال القانون و السياسه , واستاثر باهتمام المختصين بهذا المجال من العلاقات الانسانيه لما في تعزيز احترام هذه الحقوق من نتائج منشوده يتجلى فيها خير الحاكم والرعيه , مما حداهم الى بذل الجهد الفكري المتواصل للتثقيف في مجال هذه الحقوق وضمان تطبيقها .
واذا كانت البحوث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع قد ركزت في اغلبها على الجانبين القانوني والسياسي , فان الجانب التاريخي يبقى بحاجه الى مزيد من البحث , ومتابعة الدراسه والاستقصاء , خاصه في مجتمعاتنا العربيه التى تشيع فيها فكره مفادها ان مبادئ حقوق الانسان انما هي نتاج للعقل الغربي وتتناسى موروثها الحضاري بهذا الخصوص .
ان هذا المؤلف “المدخل لدراسة حقوق الانسان ” يشكل محاوله منا لبيان الجذور التاريخيه لحقوق الانسان وتطور مفاهيمها الذي ترافق مع التطور البشري ونظال الشعوب الطويل من اجل الحريه والكرامه وصولا الى الوقت الحاضر الذي اصبحت فيه مناره تشع بنور الفضيله والقيم الانسانيه الساميه وتتباهى بتبنيها الدول المتقدمه .
هذا المؤلف موجه الى مجموعه متنوعه من القراء الا ان الشريحه الاكثر استهدافا هي شريحة الطلبه الجامعيين باعتبارهم الاقدر على مواصلة الطريق في سبيل اشاعة هذه المبادئ والتثقيف بشانها وتعزيز احترامها .
فقد اضحت هذه الحقوق اليوم المعيار الرئيس للحكم العادل ومقياس شرعية السلطه وممارستها, فلم يعد بالامكان ان يتعامل الحكام مع مواطنيهم بعيدا عن المعايير الدوليه لحقوق الانسان.
ان احترام هذه الحقوق اليوم يعد التزاما دوليا على عاتق الدوله امام الاسره الدوليه ومقياسا لشرعية الحكم فيها , وفي هذا السبيل من الضروري الوفاء بالالتزامات المتعلقه باحترام الدول هذه الحقوق والتثقيف بها واشاعتها , كتلك الالتزامات الناشئه من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديه والاجتماعيه والثقافيه , واتفاقية حقوق الطفل , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ضد المرأه , واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ,واتفاقية مناهضة التمييز في التعليم .
وقد اقتضت هذه الدراسه ان نقسم البحث الى ستة فصول بذلنا وسعنا ان تكون موازنه بين الدساتير العالميه والعربيه المختلفه كما لم نغفل اخر الاتفاقيات والمقررات الدوليه , وفق التفصيل الاتي :
الفصل الاول : الجذور التاريخيه الاولى لحقوق الانيان
الفصل الثاني : حقوق الانسان في الاسلام
الفصل الثالث : تطور حقوق الانسان
الفصل الرابع : اشكال وصور حقوق الانسان والترابط بينها
الفصل الخامس: الحمايه الداخليه لحقوق الانسان
الفصل السادس : الحمايه الدوليه لحقوق الانسان
الفصل الأول
الجذور التاريخية الأولى لحقوق الانسان
ان المسيرة الفلسفية والقانونية لحقوق الإنسان لم تبدأ في غفلة من التاريخ فهناك أصول وأسس سابقة بنت عليها الحضارة الحديثة مفاهيمها عن حقوق الإنسان، ومن ثم فان القيمة التاريخية لمضامين الحقوق لا تقل أهمية عن القيمة الموضوعية فالأولى تبرز أهمية الثانية بشكل مضاعف والتطرق لموضوع حقوق الإنسان من الناحية التاريخية ومحاولة التماس الأصول التاريخية لهذه المسيرة أمر له أهميته بهدف رسم صورة لعملية التغيير التي حدثت في الأفكار الإنسانية التي ترتب عليها الدعوة إلى حركة وطنية ودولية لحقوق الإنسان لمعرفة إمكانية ضمان تطبيق هذه الحقوق بصورة عملية.
ان هذا الفصل يهدف إلى محاولة الإجابة عن سؤال مهم، وهو هل يوجد شيء نطلق عليه حقوق الإنسان بصورة فعلية في الأزمنة القديمة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأدوات أو الآلية التي وفرها النظام القانوني في العصور القديمة لحفظ تلك الحقوق ؟ وإذا لم يكن هناك شيء اسمه حقوق الإنسان قديماً فما هي الأسباب ؟
المبحث الأول
حقوق الإنسان في الحضارات القديمة
لا يمكن القول بوجود لحظة محددة بدأت عندها الأصول الأولى لفكرة حقوق الإنسان، ولكن في أغلب الظن فان هذه الأصول قد بدأت مع بداية تكوين حياة مشتركة لمجموعات البشر، ومن ثم فان هذه الفكرة ولو بصورتها البدائية هي فكرة قديمة قدم الحياة البشرية ذاتها وتمثل المدينة بأوجه الحياة المختلفة فيها والتي شكلت بدايات ظهور الدول في تاريخ العالم البدايات الأجدر بالبحث من خلالها عن تفاصيل محددة لفكرة حقوق الإنسان فمدينة لا رأي فيها الا لرجل واحد ليست مدينة كما انه لا يكفي لكي نعيش حياتنا ان يتحول الصراع إلى مناقشات منطقية إلا حيث تقدر قيمة الاختلاف في الرأي وتتاح المعارضة فالمدينة كمكان يعيش فيه البشر هي مستقر ومرتع تشجع فيه الحروب العقلية لا الحروب البدنية.
عليه فان البدايات لفكرة حقوق الإنسان ضمن إطار الدولة تبدأ مع ظهور المدينة.
المطلب الأول
حقوق الإنسان في حضارة وادي الرافدين
ان للعدل باعتباره المثل الأعلى للسلوك الإنساني وللحكم واقامة السلطة التي يتمتع بها الملوك والأمراء وزعماء الجماعات البشرية المختلفة تاريخاً قديماً اكثر عمقاً من الفكر اليوناني، فهو لا ينطلق من جمهورية افلاطون إذ انه عرف بصورة واضحة في شرائع وقوانين بلاد ما بين النهرين، وإذا كان لقضية الخوف التي يعاني منها الإنسان منذ ان وجد على سطح الأرض عاملاً هاماً في دفعه مع الآخرين من بني جنسه إلى البحث عن مركز ثابت للاجتماع والاستقرار الأمر الذي ترتب عليه بمعونة عوامل أخرى إلى ظهور تنظيمات مختلفة للإنسان على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جرى تنظيمها عن طريق القوانين والشرائع التي ظهرت على مر العصور،
فمن الوجهة السياسية يلاحظ أن القوة السياسية كانت دائماً في يد مجلس شيوخ المدينة أو القرية وفي معظم المجتمعات فأصول قواعد السلوك والحكومة والقانون والعدل كانت موجودة في مجلس شيوخ القرية ويبدو ان هذه الوسيلة البدائية من أدوات الحكم كانت من مميزات المجتمعات القروية في كل العصور، ولقد بلغ من خطورة شأن هذه المنظمة انها تركت طابعها على كل القصص الدينية ونشاط الأداة الحكومية في مدن بلاد ما بين النهرين اذ انه إلى ما بعد ذلك بآلاف السنين كان لا يزال في بابل مجلس للآلهة على نمط القرية العتيق،
وهكذا فانه مع تطور المدينة أصبح في المجتمع طبقة مميزة تسيطر على الطبقات الأخرى وعندها أدعى الملوك والزعماء أنهم يستمدون سلطانهم من مصادر الاهية حيث أصبحوا حلقة الوصل بين السماء والأرض، وبذلك امتزجت السلطتان الدينية والزمنية كما كان الأمر في الحضارات القديمة كلها، وهذه حقيقة تشمل حضارات بلاد ما بين النهرين والحضارات الأخرى كالمصرية القديمة والصينية والهندية واليابانية(13).
ان هذه الأوضاع الجديدة منحت الحاكم صلاحية الانفراد بالسلطة واسترقاق الآخرين حيث امتد الأمر ليشمل طبقات بأكملها داخل مجتمعه، وعليه فانه لم يكن هناك حق إنساني إلا في حدود ما يقره الحاكم فقط، ويمكن بالاستناد إلى ذلك تفسير ظاهرة الحرب والسبي والقتل والتدمير اذ أن كل ملك من الملوك كان يطمح إلى المزيد من القوة المادية والمعنوية والتي لا يتم الحصول عليها إلا بمقابلة الآخرين أو قتلهم والاستيلاء على أموالهم،
وهذا الوضع العام أدى إلى وجود أقلية حاكمة ومسلحة على حساب الكثرة التي غالباً ما تحرم من حقوقها الإنسانية، فإذا كان ظهور الملك الحربي قد حقق الأمن لنظامه الملكي ولحاشيته وعسكره فانه من جهة أخرى قد فرض نظاماً قاسياً على رعيته، وبقدر تعلق الأمر ببلاد ما بين النهرين يشير أحد الكتاب إلى أن (الإرهاب كان هو السمة العامة للمجتمع، وقد بلغت أعمال الوحشية ذروتها في شخص آشور بانيبال ملك آشور، وتضاعفت مظاهر القسوة هذه ووصلت الذروة في عهد متأخر كعهد حمورابي حيث كانت نصوص القانون الذي اشتهر به يحتوي على قائمة من الذنوب لا حصر لها، وكثير منها طفيف، لكنها كانت تستوجب العقاب بالموت، أو بالتشويه عملاً بالنص الحرفي لمبدأ العين بالعين والسن بالسن(14).
وربما كان لهذا الشكل من أشكال الإرهاب أسبابه المتعددة ومنها قسوة الطبيعة. ففي بلاد ما بين النهرين للطبيعة قسوة مميزة تمثلت في فيضان الأنهار المفاجئ والمدمر لمحاصيل الفلاحين بينما يمثل النيل سهولة الحياة وسلاستها فالفلاح المصري يعرف أوقات الفيضان، الأمر الذي يقود إلى استغلال المحاصيل الزراعية على أكمل وجه وهو ما يقود بدوره إلى حياة الأمن والاستقرار، ويمكن تفسير القسوة الإنسانية كنتيجة لقسوة الطبيعة في بلاد ما بين النهرين ونقيض ذلك في بلاد النيل من خلال الضغط والإرهاب الذي أدى إلى وحدة الأقاليم في المنطقة الأولى بينما أقيمت وحدة الأقاليم في وادي النيل على المنفعة العامة التي تجنى من مياه النيل.
وقد ازدادت الحياة قسوة عندما جاء رجل ووضع قدمه على قطعة أرض وقال هذه ملكي مما ترتب عليه تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، ومع ذلك فان التقسيم الحقيقي للملكية لم يبدأ إلا عندما بدأ الحكام يوزعون هباتهم للمقربين منهم ولم تظهر حقوق الملكية بتفاصيل قانونية إلا في الألف الثاني قبل الميلاد وهو ما جاءت به شريعة حمورابي التي عالجت تفاصيل الملكية وحق نقلها، وهنا يمكن ملاحظة حقيقة أساسية، وهي أن معظم الحضارات القديمة قد قامت بشكل أو بآخر على أكتاف الرقيق،
وبالمثل فانه يمكن القول أن الثروات الطائلة التي يجمعها أفراد مهيمنون لا تتم إلا عن طريق الاسترقاق والقسوة التي تخلو من الشعور بالإنسانية تجاه الآخرين، ومن ثم فإن الفترة الأولى التي شهدت عصر ما قبل التاريخ والحضارات القديمة لم تتعرض لقضية حقوق الإنسان بمعناها الحقيقي من حيث حقه في تقرير المصير وحقه في الوجود حتى أن القوانين التي وضعها حمورابي لا تؤدي إلا لأن يكون الناس جميعاً بلا عيون وبلا أسنان وبلا أطراف وفي نهاية الأمر فلا نجد في ظل هذه القوانين داخل المجتمع الإنساني سوى عقاب يتبعه عقاب وليس حقوقاً تليها حقوق.
عليه فان الحقوق التي أقرتها الشرائع القديمة لم تكن حقوقاً جماعية بالمعنى المعروف في الوقت الحاضر بل كانت حقوقاً فردية يتمتع بها الحاكم، ومن ثم فان تناقض الوعي وصراع الذات والموضوع لم تؤدي إلى تطور الوعي في الحضارات القديمة ولذا انعدمت الحرية فيها حيث لم يكن هناك سوى شخص واحد حر هو الحاكم(15) .
أن ما تقدم من أفكار يمثل وجهة نظر واحدة عن حقوق الإنسان وأصولها في المجتمعات القديمة على وجه العموم، وفي حضارة ما بين النهرين على وجه الخصوص، ومن ثم فانه يحق لنا ان نتساءل فيما إذا كانت الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟ فمن الضروري أن نلاحظ أن البدايات الحقيقية للتشريع والقانون إنما ظهرت في بلاد ما بين النهرين التي تكونت فيها أولى التجمعات البشرية المشكلة للأشكال الأولى للدولة بكل ما تعنيه من تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي.
عليه فان هناك وجه آخر فازدهار القوانين في بلاد ما بين النهرين أمر مؤكد بالمقارنة مع المدنيات الأخرى التي زامنت الحضارة العراقية القديمة، والحقيقة هي أن تطور القانون لا ينفصل عن تطور الفكر بشكل عام وهو بدوره يمثل انعكاساً للمديات المتقدمة في جوانب الحياة المادية، فالقانون في الأساس، منطلق لتنظيم العلاقات، وتثبيت حقوق وواجبات طرفي العلاقة في أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومن بين أوجه العلاقات تلك التي تقوم بين الناس،
فرادى وجماعات في جانب، وبين الحاكم أو من يمثله من سلطات وإدارات وهيئات من جانب آخر، ولأن الملك في نظرة العراقيين القدماء شخص لا يختلف كثيرا ً عن بقية الناس، أوكلت الآلهة إليه مهمة حكم البشر وادارة شؤونهم، فهي من واجباته، مثلما له حقوق على الناس، لذلك برزت الحاجة الماسة إلى تعيين الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة الرئيسيين الملك من جانب والمجتمع من جانب آخر.
وعلى الرغم من أن هذا التصور للعلاقة لم يصل إلينا مدوناً بشكل مباشر ولكننا نستشفه من أقوال الملوك وبعض النصوص الدينية، فالملك مكلف بنصرة المظلومين والاقتصاص من الظالمين وهو الراعي العادل، ولكنه لم يمثل صورة الحكم الإلهي (فإذا لم يحرص على تطبيق العدالة، فسيغير الإله ايا قدره) بمعنى أن مصير الملك كصاحب سلطان منوط بموقفه من العدالة وعمله على تطبيقها، لأنها إرادة الآلهة.
وجانب من هذه الحقيقة تشير إليها قوانين حمورابي إذ نقرأ على لسان هذا الملك (انتدبني آنذاك آنو وانليل، أنا حمورابي الأمير الكريم عابد الالهة، لأنشر العدل في البلاد واقضي على الشر والغش وامنع القوي من اضطهاد الضعيف).
وبقدر تعلق الأمر بالجوانب الخاصة بحقوق الإنسان يلاحظ على القوانين العراقية القديمة إقرارها ببعض العقوبات الصارمة أو اعتمادها على بعض المبادئ الساذجة والتي لا تتوافق مع أعراف البشر المتمدنين في العصر الراهن، ومن أمثلة ذلك تعميم المسؤولية أو استنتاج البينة عن طريق الامتحان، وما إلى ذلك، ولكن إذا ما تذكرنا اننا نستعرض أعمالاً قانونية يقرب عمرها من أربعة آلاف عام، سنقبل بالضرورة بعض المآخذ التي تسجل على جوانب من القوانين، غير متناسين أن القوانين العراقية القديمة تشكل التجربة الأولى في تاريخ البشر، وانها بالمقارنة مع الكثير من الأعمال القانونية اللاحقة، تمثل الأساس الصحيح والسليم لتجربة الإنسان القانونية(16).
ومن النصوص القانونية التي جاءت بها شريعة حمورابي والتي لا تنسجم مع أسس حقوق الإنسان النص الذي يعالج حالة أي مواطن يتهم مواطناً آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه فانه يعدم عوضاً عنه، كما تضمنت هذه المدونة النص على حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، حتى لو كانت قد تزوجت أثناء أسره برجل آخر، وهي تحتم على زوجة الأسير ان تلزم داره مادام فيها ما تقيم به أودها وإذا ما تزوجت رجل فانه يلقى بها في النهر،
ومع ذلك فان هناك نصوصاً عبرت عن احترام بعض الأسس التي تعد من حقوق الإنسان حتى في العصر الحديث، فقد اعتبرت الدولة مسؤولة عن تقصيرها في حماية الأشخاص والممتلكات، ولهذا السبب، فانه إذا قتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله تعاونت المدينة وحاكمها على دفع الدية إلى أهله، وإذا سرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات عوضته مدينته وحاكمها عما سرق منه.
فضلاً عما تقدم من أحكام تبرز ملامح أخرى لحقوق الإنسان يمكن الإشارة إليها كالإصلاحات المنسوبة إلى حاكم مدينة لجش أوروكوجينا التي تتمحور إصلاحاته على معالجة الوضع الضرائبي وشؤونه بصورة أساسية ومع ذلك فقد أكدت هذه الإصلاحات على بعض المبادئ المهمة كفكرة الحرية في حدود القانون وان المناصب الوظيفية العالية في الحكومة والإدارة لا تعفي صاحبها من الحدود القانونية، وهذا كله بهدف توفير أساس قانوني لمعاقبة الموظفين وجامعي الضرائب ممن خرقوا التقاليد وتجاوزوا على حقوق المواطنين وممتلكاتهم(17)، ومما تجدر الإشارة إليه ان إصلاحات اوروكوجينا هي الوثيقة الأولى في تاريخ البشرية التي وردت فيها كلمة الحرية(18).
القانون الآخر هو قانون اورنمو الذي يعد من اقدم القوانين المدونة في تاريخ البشرية وقد اعتمد مبدأ التعويض في العقوبات على خلاف المبدأ الذي يعتمده قانون حمورابي وهو القصاص.
وفي إطار عمل الأجهزة القضائية يمكن الإشارة إلى جريمة قتل اخبر القتلة الزوجة بمقتل زوجها فلما عرضت القضية على مجمع المواطنين في مدينة (نفر) صدر الحكم بان العقوبة ينبغي ان لا تشمل سوى القتلة والفاعلين وقد ترجمت تلك الوثيقة وعرضت على عميد كلية الحقوق بجامعة بنسلفانيا وعضو المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1930 – 1940 لبيان رأيه فيها فأجاب بان القضاة المعاصرين يتفقون مع القضاة السومريين القدامى في هذا الحكم، لأن تلك الزوجة لا يمكن أن تعد شريكة في الجريمة بموجب أحكام قوانيننا فان من ينبغي أن يعد شريكاً في الجرم ليس من علم بارتكاب الجريمة فقط، بل يجب أن يكون قد أوى المجرم القاتل أو أسعفه أو زين له أو ساعده.
ووثيقة أخرى تدل على العدالة القضائية اذ يستدل في تلك الوثيقة على أن المحاكم السومرية لم يكن يحق لها أن تصدر حكماً على شخص يرفع أمره إليها ما لم يكن حاضراً المحاكمة أو بلغ بالحضور فلم يحضر(19).
بناءً على ما تقدم فان الأصول القديمة لفكرة حقوق الإنسان يمكن أن تلاحظ بصورتها البدائية مع ظهور التشريعات العراقية القديمة والإصلاحات المالية والاجتماعية التي شهدها العراق القديم فلا يمكن الحديث عن الحقوق والواجبات ضمن المجتمع إلا في ظل القانون أو الأعراف المطبقة من جانب البشر، وقد عبر العراقيون القدماء بشكل أو بآخر عن فهم لهذه الحاجة الإنسانية فشرعوا القوانين التي كفلت لكل الأطراف حقوقها ضمن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع البشري في ذلك الوقت،
وإذا كانت المجتمعات القديمة الأخرى قد سنت بدورها قوانين خاصة بها وطبقت أعرافاً اجتماعية في علاقات أطرافها فانه مما لا شك فيه أن هاجس العدالة كان مسيطراً على المجتمع العراقي القديم بشكل متميز عن بقية المجتمعات القديمة، ومن ثم فان الأصول البدائية والأفكار الأولية لجوانب من مفهوم حقوق الإنسان كان معروفاً في المجتمعات العراقية القديمة وهو ما عبرت عنه القوانين التي طبقت في ذلك الزمان بشكل أو بآخر.
كذلك يتعرض الأستاذ جاكوبسن في بحثه الموسوم (الديمقراطية في بلاد ما بين النهرين) والدكتور عامر سليمان في كتابه الموسوم بالقانون في العراق القديم إلى جانب مهم يتعلق بالبحث المتقدم اذ يشير الكاتب الأخير إلى أن التناقض بين الحكم الديكتاتوري المطلق الذي تميزت به ممالك العراق القديمة في الآلف الثاني قبل الميلاد، وبين وجود بعض المظاهر الديمقراطية فيها حمل العلامة جاكوبسن على دراسة الأساطير الدينية،
والملاحم والقصص السومرية والأكدية للتعرف على الحال الذي كان عليه العراق القديم في الألف الثالث قبل الميلاد وما قبل هذا التاريخ، وقد انتهى هذان الكاتبان وغيرهما إلى أن الحكم في بلاد ما بين النهرين يستحق أن يوصف بالديمقراطية البدائية، فقد كانت آلهة أولئك السكان القدماء مقيدة بقرارات مجلسها وكان لذلك المجلس صلاحيات دينية وعقابية معينة لتحديد الآجال ومحاكمة الإنسان على ارتكابه ما يغضب الآلهة، وانتخاب أحد الآلهة ليكون رئيساً، ومنحه السلطة المطلقة في حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية وإسباغ الصفة الملكية على إنسان ليحكم باسم الآلهة على الأرض، وخلع تلك الصفة عنه،
كما أكد هؤلاء على أن الغاية من تخويل السلطة الملكية لإنسان على الأرض هي بهدف حماية الحقوق الأزلية التي خلق الكون بموجبها، وهذه حقائق تحكم الآلهة والبشر، أما السبيل إلى ذلك فنشر العدالة وإصدار القوانين ومراقبة حسن تطبيقها فان صدق كل ذلك فان أولئك القدماء هم أول من رسم مخططاً بدائياً للديمقراطية والعدالة وفلسفة القانون، وأول من ذهب إلى وحدة القانون العادل في السماء وعلى الأرض بين الآلهة وبين البشر(20).
ضمانات تحقيق العدالة
أما ضمانات تحقيق العدالة في حضارة وادي الرافدين فيمكن ردها إلى مبدأ خضوع الحكام لسيادة القانون، والقانون، والقضاء. فمبدأ خضوع الحاكم لسيادة القانون كان ولا يزال يعد من المبادئ الأساسية لتحقيق العدالة وهو من أهم الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها في الوقت الحاضر إذ تتحقق فكرة المساواة في جانب منها يتحقق المبدأ المذكور، وهو يعني خضوع السلطة إلى جانب الأفراد إلى حكم القانون الصادر عن الدولة والدولة التي يخضع فيها الأفراد والحاكم لحكم القانون يطلق عليها تسمية الدولة القانونية على أن خضوع الحاكم يكون بالاستناد إلى التقييد الذاتي،
ومن ثم فان هذا الخضوع من جانب الحاكم للقانون يختلف عن خضوع الأفراد له، ويبدو أن هذا المبدأ كان معمولاً به بشكل أو بآخر في العراق القديم فإذا كان الملوك هم الذين يصدرون القوانين وإذا كانت أوامرهم وكلماتهم هي القانون فان خضوع سلطانهم كان مقيداً بقواعد العدالة فالقواعد الدينية والعرفية والقانونية كلها شكلت قيوداً على سلطة الحاكم، فالتزام الملك بضمان وتحقيق العدالة كان يعد من أبرز الأمور التي تقود إلى ازدهار مملكته وهناك نص من أدب الحكمة تضمن النصائح الموجهة إلى الحاكم إذ تلزمهم بتحقيق العدل بين المواطنين ويعود تأريخه إلى العصر الآشوري الأخير (911-612 ق.م) إذ جاء فيه (أن الملك إذا لم ينشر العدالة …. وإذا لم يستمع إلى نصح مستشاريه، فان حياته ستكون قصيرة وان رعيته ستثور عليه وان مملكته ستتهاوى).
ويبدو أن الحكام قد طبقوا شيئاً أو أشياء مما تغنوا به من أفكار عن العدالة ففي زمن حمورابي أرسل بعض الأفراد رسائل يشكون من تجاوز بعض الموظفين على حقولهم وأموالهم دون وجه حق فأرسل حمورابي إلى حاكم المدينة يخبره أنه أخذ من المدعي أرضه التي يمتلكها منذ ثلاث سنوات، كما سأله عن سبب أخذه للمحصول من الرجل وأمره بقراءة لوح التعليمات وإرجاع الحقل وغلتها طبقاً لهذه التعليمات.
كما توجد وثيقة هامة أخرى إذ تشير سابقة حدثت قبل 3400 عام في مدينة نوزي (Nuzi) القديمة وهي تبعد حوالي عشرة أميال عن مدينة كركوك الحالية إلى مبدأ سيادة القانون من جهة التطبيق فقد سيق حاكم هذه المدينة المدعو (كوشي – حارب) إلى المحكمة لمحاكمته عن التهم التي وجهت إليه بأخذ الرشوة والغش وهتك العرض، وقد استمع القضاة وهم ثلاثة إلى دفاع الحاكم المتهم الذي كانت الأدلة ضده، إذ حضر مجموعة من الشهود وكان من بينهم أحد أعوانه فلم يجرأ الحاكم على نفي تلك التهم وأدين بهذه الجرائم ونال العقوبة القانونية عليها(21).
أما القانون بوصفه من ضمانات تحقيق العدالة في العراق القديم فهو يعد الوسيلة الأكثر ثباتاً في تحقيق هذا الهدف إذ انها كانت أشبه بتقارير ملكية موجهة إلى الآلهة، وتتضمن القضايا التي فصلت فيها المحاكم التابعة للملك والدولة واتخذت بخصوصها قرارات عادلة لتثبيت عدالة الملك واستقامته أمام الآلهة.
ودراسة جانب من القوانين العراقية القديمة يظهر الهاجس الذي ظل مسيطراً على المشرع في بلاد ما بين النهرين وحلمه بتحقيق العدالة فعلى سبيل المثال أخذت القوانين في وادي الرافدين بمبدأ عدم التعسف في استعمال الحق الفردي، وهو مبدأ يستند إلى اعتبارات العدالة كما نصت المادة 137 في شريعة حمورابي على أن ضرورة التزام الزوج الذي يطلق زوجته التي أنجبت له أولاداً،
أن يتنازل لها عن نصف ثروته لكي تقوم بتربية أولادها كما نصت المادتين 168 و 169 على عدم جواز حرمان الوارث ورثته من التركة، ولا إنقاص نصيب أي منهم ما لم يرتكب الوارث خطأ جسيماً، وتقدير الخطأ الذي يسمح للوارث حرمان ورثته من التركة يخضع لرقابة القضاء فلا يجوز للمورث حرمان ورثته من التركة إلا بعد صدور قرار قضائي وأن يكون ذلك الخطأ قد حدث منه للمرة الثانية(22).
كما ثبت قانون اشنونا المبدأ الذي يقضي بالتعويض عن الضرر الذي يلحقه الجاني بالمجني عليه بما يتناسب مع جسامة الضرر إذ نصت المادة (45) من القانون المذكور على أنه (إذا قطع رجل إصبع رجل آخر فانه يؤدي غرامة ثلثي المنا من الفضة) كما نصت المادة (47) على أنه (اذا كسر قدمه فانه يدفع غرامة نصف مناً من الفضة).
ومن الأحكام التي سعت إلى ايجاد نوع من الحقوق القائمة على التضامن الاجتماعي ما جاءت به شريعة حمورابي التي تجعل المدينة وحاكمها الجهة المسؤولة عن تعويض الضرر الذي يتعرض له الأفراد بسبب ارتكاب جريمة سرقة ضدهم، وعدم تمكن السلطات المختصة من التوصل إلى معرفة الفاعل، وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة قتل ولم يتم التعرف على الفاعل فعلى المدينة دفع دية إلى أقرباء القتيل.
وعند هذا الحد يشير أحد الكتاب إلى أنه لا يعرف تشريعاً قديماً أو حديثاً يتضمن مثل هذا المفهوم المتقدم الذي يستهدف تحقيق نوع من التضامن الاجتماعي القائم على تحمل السلطة العامة المسؤولية في حماية المواطنين وأموالهم، ويعرف هذا المفهوم في العصر الحديث بنظرية الضرر الاجتماعي ولم يتم تطبيقها حتى الوقت الحاضر إلا في حدود ضيقة اقتصرت على التأمين الصحي والعجز.
وهنا يقيِّم ول ديورنت في كتابه قصة الحضارة الإنجاز المتقدم إذ يقول (هل ثمة في هذه الأيام مدينة بلغ صلاح الحكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها مثل هذا التعويض، وهل ارتقت الشرائع حقاً كما كانت عليه أيام حمورابي أو أن كل الذي حدث لها أنها تعددت وتضخمت)(23).
أما القضاء وهو الضمانة الثالثة من ضمانات تطبيق القانون في بلاد الرافدين فضلاً عما أشرنا إليه فيما تقدم من أمثلة تؤكد على دور القضاء في تحقيق العدالة فان القضية التي نظر فيها في مدينة نفر تظهر وجود نوع من المحاماة في العراق القديم وأن لم يكن يوجد قانون ينظم هذه المهنة في ذلك الوقت إذ عرفت بابل طبقة من الحكماء كانت تقوم بالدفاع عن الغير والمطالبة بحقوقهم ويطلق عليهم وكلاء الغير وكانوا يتمتعون بمنزلة اجتماعية رفيعة وكان الملك يختار القضاة منهم وكان لحمورابي دور مهم في نقل القضاء كمهنة سامية من إطار المعبد حيث كان يقوم به الكهنة إلى قضاة مدنيين وان كانت هذه الخطوة قد سبقت حمورابي في العراق القديم وكان القضاء يحاول التخفيف من شدة القانون الصارم(24).
المطلب الثاني
حقوق الإنسان في الحضارتين اليونانية والرومانية
في إطار الوضع العام لحقوق الإنسان في الحضارات الأوربية القديمة فإن التعرض للموقف من هذه المسألة على المستوى النظري والتشريعي من خلال المدارس الفلسفية التي ظهرت في تلك البلاد والقوانين التي شرعت من الحكام والمشرعين هو أمر يمكن أن يوضح لنا الموقف من حقوق الإنسان ويبرز الصورة من هذه المسألة فإذا كان اليونانيون قد نجحوا في ميدان الفكر فإن الرومان قد أسسوا إمبراطورية مترامية الأطراف، فكيف كان يعيش الإنسان في تلك الفترة ؟ وما هو التنظيم القانوني الذي خضع له في تلك المجتمعات؟
الفرع الأول – حقوق الإنسان في الحضارة اليونانية
في إطار الحضارة اليونانية فان البحث او التعرض لمسألة حقوق الإنسان وأصولها الأولى يمكن ان تتم عبر منفذين: الأول يخص التشريعات اليونانية القديمة، والثاني يرتبط بالمدارس الفلسفية اليونانية التي أكدت على بعض الأسس أو المبادئ الرئيسية التي تعكس رؤية محددة لموضوعات لها علاقة بفكرة حقوق الإنسان إلى حدٍ ما فبموجب قانون صولون الذي صدر عام 594 ق.م منح الشعب حق المشاركة في السلطة التشريعية عن طريق مجالس الشعب، كما جعل القانون للشعب حقاً في المساهمة بانتخاب قضاته، وقد حرر صولون المدينين من ديونهم وأطلق سراح المسترقين منهم ومنع استرقاق المدين والتنفيذ على جسمه كوسيلة لإكراهه على الوفاء بالدين وقضى على نفوذ أرباب الأسر عن طريق تفتيت الملكيات الكبيرة(25).
والحقيقة أن المواطن الأثيني كان دائم الاهتمام بالشؤون العامة والمشاركة فيها دون قيد أو شرط اذ استطاعت أثينا أن تتغلب على قضية حق الفرد الواحد في الحكم والسياسة العامة والاقتصاد ونظرت إلى قضية حق المواطن في الحرية والحياة بشكل متطور عن الحضارات السابقة، فقد كان الإنسان محور الحياة وهذه هي الفترة التي امتدت بين صولون وبركليس(26) إلا ان المسالة بدأت تتغير بعد بركليس،
فهذا الحاكم الذي حكم أثينا اعتباراً من عام 444 ق.م إلى عام 429 ق.م تمتع المواطنون أثناء حكمه بحق المساواة في حرية الكلام والمساواة أمام القانون كما أخذت الديمقراطية الإغريقية شكل الديمقراطية المباشرة التي تقوم على أساس فكرة مزاولة المواطنين للسلطة بأنفسهم دون أن يوكلوها إلى من يمثلهم(27)، وهكذا يعتبر بركليس خير من دافع عن النظام الديمقراطي في أثينا حيث أكتسب مكاناً بارزاً بين قادة الفكر الديمقراطي بسبب إصلاحاته ونجاحه في إدارة شؤون دولة المدينة وتخطيط سياستها العامة، فالديمقراطية كما طبقتها أثينا كانت تقوم في نظر بركليس على الأسس الآتية:
1. المساواة أمام القانون، وهي مساواة مدنية وسياسية، فالكل يخضع للقانون والديمقراطية هي نظام الشرعية ونظام المساواة.
2. حرية الرأي، فالكل يقول رأيه بحرية فيما يخص المصالح العامة، ولا يوجد في النظام الديمقراطي وجهة نظر رسمية، إذ أن كل مواطن في دولة المدينة يستطيع إبداء رأيه ورأي الأغلبية هو الذي تلتزم به الدولة.
أما أخلاقيات الديمقراطية كما يؤكد عليها بركليس فإنها تتلخص في الأخوة بين المواطنين والتسامح وتقديم المساعدة إلى الضعفاء والفقراء.
وكان سكان دولة المدينة الإغريقية ينقسمون إلى ثلاث طبقات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى من الناحيتين السياسية والقانونية، إذ كان هناك طبقة المواطنين الذين لهم حق المشاركة في الحياة السياسية للمدينة وفي الشؤون والوظائف العامة، أما الطبقة الثانية فهي طبقة الأجانب المقيمين في المدينة، وهي محرومة من المساهمة في الحياة السياسية برغم كون أعضائها أحرارا، أما طبقة الأرقاء فتأتي في أدنى السلم الاجتماعي، فقد بقي الاسترقاق مشروعاً عند الإغريق وربما كان ثلث سكان أثينا من طبقة الأرقاء،
وهذه الطبقة لا تدخل في حساب المدينة الإغريقية مطلقاً وكان الرقيق ملكاً لسيده وشيئاً من أشيائه، ولقد دعا ارسطو صراحة إلى أن يخصص المواطنون أنفسهم للشؤون السياسية تاركين كل الأعمال اليدوية للأرقاء، أما افلاطون فلا يقول شيئاً عن نظام الرق حيث يتحدث عن نظريته في الملكية الفردية ولكن يبدو أنه لم يقصد إلغاء نظام عالمي في ذلك الوقت هو نظام الرق دون أن يذكر ذلك صراحة.
عليه يمكن القول أن مسألة حقوق الإنسان لم تبلغ شأواً كبيراً عند الإغريق وهذا أمر يرجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية اشتركت فيها الحضارات القديمة عموماً ولكن بعض الفلاسفة الإغريق انتقد مع ذلك التقاليد القائمة والقوانين النافذة في المجتمع والتي تقصي العبيد والأجانب فقد اثر عن بعض هؤلاء قوله (اننا جميعاً متساوون في الميلاد وفي كل شيء إننا جميعاً نستنشق الهواء من الفم والأنف)، ولقد جاء في بعض النصوص على لسان أحد الأرقاء (أنني يا سيدي وان أك رقيقاً، اعد أنسانا مثلك، ولقد خلقنا من لحم واحد، فليس هناك من هم أرقاء بالفطرة).
وقد أنكر يوريبيدس صحة الفوارق الاجتماعية القائمة على أساس المولد حتى بالنسبة للرقيق إذ قال (ان هناك أمراً واحداً يجلب العار على الأرقاء وهو الاسم ولا يفضلهم الأحرار فيما عدا ذلك الشيء، فكل منهم يحمل روحاً سليمة).
أما السفسطائيون فقد أنكروا بدورهم أن الرق ونباله المولد أمران طبيعيان وقد نسب إلى واحد منهم قوله ان الله خلق جميع الناس أحرارا ولم يجعل أي واحد منهم عبداً، بل وقد أنكر السفسطائي أنطيفون في القرن الخامس قبل الميلاد وجود أي فارق طبيعي بين الإغريق والبرابرة(28).
وكان للسفسطائيون وجهة نظر من فكرة العدالة تربط بين العدالة وبين مصلحة الأقوى، وهذا معناه أن السفسطائيون لهم موقف من فكرة العدالة ذات الطابع الثوري فهم يشيرون إلى الصلة بين العدالة القائمة في كل دولة وبين ما تقدره الطبقة الحاكمة من مصالح اقتصادية واجتماعية تملي على المشرع تشريعه، فان الأقوى هو الدولة وحيث أن الدول متنوعة فان معنى العدالة بعيد عن الثبات بل هو في الدولة الديمقراطية ديمقراطي وفي الدولة المستبدة يحمي القانون مصالح الطبقة المستبدة.
أما افلاطون 427-347 ق.م فقد قبل مذهب المحافظين من هذه الفكرة القائم على فكرة الثبات في العدالة فهو يعتقد أن من أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة التي تجعل كلا من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصناع والحاكمين والمحكومين يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره ومن ثم فان أحداً لا ينبغي ان يتعدى على ما يمتلكه الغير أو يحرم مما يمتلكه هو…. إن العدالة إنما هي ان يمتلك المرء ما ينتمي إليه فعلاً، ويؤدي وظيفته الخاصة به .. ان التعدي على وظائف الغير والخلط بين الطبقات الثلاث يجر على الدولة في نظر افلاطون أوخم العواقب بحيث ان المرء لا يعد الصواب اذ عد ذلك جريمة.
وهذا الموقف الافلاطوني من العدالة التي وضع لها حدوداً طبقية واضحة لا يسمح بتخطيها فتعرض بذلك لنقد القائلين بحرية العمل(29).
أما ارسطو فالحقيقة أن موقفه يستدعي الكثير من التأمل من مسألة الرق على وجه الخصوص فهو يتساءل فيما إذا كانت الطبيعة تعد اناساً أرقاء فيصبح الرق بالنسبة إليهم إجراءً مشروعاً ومناسباً وهو يجيب بالإيجاب فلا مناص طبقاً لرأيه من وجود فئة حاكمة وأخرى محكومة، فالأعلى منزلة يجب أن يحكم الأوطأ منزلة منه، والطبيعة، عادة تهب بدناً قوياً للرقيق بينما تودع في جسد الحر عقلاً أرجح وفكراً أنضج، ومن ثم يصبح الإنسان الحر مهيئاً لان يحكم تأسيساً على قاعدة الفكر يحكم البدن،
ويقف ارسطو ضد مبدأ المساواة في الحقوق الطبيعية فهو يعتقد أن الطبيعة قد ميزت البعض بالعقل ووهبت آخرين القدرة على استعمال أعضاء البدن فالطبيعة تجعل أجسام الأفراد الأحرار مختلفة عن أجسام العبيد فتمد العبيد بالقوة اللازمة للقيام بالأعمال الشاقة بينما خلقت أجسام الأحرار بطبيعتها غير صالحة لأن تحني قوامها المستقيم للقيام بمثل تلك الأعمال الشاقة إذ أن الطبيعة تعد الأحرار لوظائف الحياة المدنية فحسب.
وتبدو صرامة موقف هذا الفيلسوف من فكرة الرق جلية وواضحة إذ يؤكد ان السبب الوحيد لانتفاع السيد بخدمات من يسترقهم هو معاونته على مباشرة الفضائل البشرية لا تنمية ثروته أو زيادة قوته، فان عجز السيد عن إدراك الفضل انتفى النفع الأصيل الذي يجنيه الرقيق من عبوديته، ألا وهو توجيه حياته توجيهاً مثمراً بفضل خضوعه لمن هو أفضل منه، وهنا تنفصم العلاقة بين التابع والمتبوع وقد واجه ارسطو نتيجة هذه النظرة نقداً شديداً خاصة وهو صاحب الفكرة التي تؤكد ان (من الأرقاء من هم أهل للحرية وان من الأحرار من يستحق الرق) والحقيقة أنه في أواخر حياته قد وضع بعض الشروط التي تكفل إدخال بعض الإصلاحات على حالة الرقيق فقد نادى بضرورة معاملة الرقيق معاملة حسنة، وبان يمد له الأمل في منح الحرية يوماً كما نصح بعتق الأرقاء وقرر في وصيته عتق عبيده(30).
أما المدرسة الرواقية وهي إحدى المدارس الفلسفية التي أسسها الفيلسوف زينو الفينيقي أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد فقد كان لها موقف كذلك من بعض الأفكار العامة المرتبطة بحقوق الإنسان وإذا كان من الصعب اعتبار المدرسة الرواقية مدرسة إغريقية خالصة إذ أنها في حقيقة الأمر قد عكست التفاعل بين الشرق والغرب الذي ظهر نتيجة فتوحات الاسكندر المقدوني فجميع مفكري هذه المدرسة كانوا من خارج بلاد الإغريق، فالرواقيون الأوائل سوريون في غالبيتهم، والرواقيون المتأخرون من الرومان،
وهذه المدرسة أكدت على مبدأ الأخوة الإنسانية، فالأفراد كمخلوقات عاقلة هم أساسا متشابهون أو متماثلون ويخضعون جميعهم إلى القانون الطبيعي ولهم حقوق متساوية كما آمن الرواقيون بمبدأ المساواة في رفع المستوى الأخلاقي وهم بذلك لا يتفقون مع افلاطون وارسطو بشأن وجود تباين بين الأفراد بسبب الجنس أو المواطنة فالعبد طبقاً لأفكارهم إنسان ولا يوجد عبد بالطبيعة، بل انه إنسان يجب معاملته من منطلق أنه عامل مستأجر مدى الحياة، ومع ذلك فان الانتقاد الذي يوجه إلى المدرسة الرواقية أنها قسمت البشر إلى عقلاء وحمقى وهذه التفرقة لا تقل قسوة وشدة عن تقسيم الإغريق العالم إلى إغريق وبرابرة فليس هناك ما يمنع من تعميم أي الصفتين- العقل والحمق على شعب دون آخر بأسره(31).
أولاً: تقييم مفهوم الحقوق والحريات العامة في أثينا
لا يمكن إنكار أن الديمقراطية المباشرة قد وجدت لها أرضاً خصبةً في أثينا، فقد تم الأخذ بمبدأ السيادة الشعبية إلا أن فكرة الشعب لم تكن تعني جميع المواطنين المكونين لشعب المدينة لكن المقصود بفكرة الشعب هو مجموع المواطنين الذكور، وبذلك حرم النساء والعبيد من المشاركة في ممارسة السلطة.
إن أسلوب الديمقراطية المباشرة الذي أخذت به أثينا كان يعني أن الشعب يحوز كل السلطة ويمارسها بنفسه فضلاً عن أن سلطة الشعب كانت مطلقة ولم تتمتع الحقوق والحريات بأية ضمانات في مواجهة هذه السلطة. والحقيقة أن مفهوم الحرية كان مختلفاً عن مفهومها في الديمقراطيات المعاصرة إذ أن الحرية عند قدماء الإغريق لم تكن تعني حرية الفرد، وإنما هي حرية المواطن باعتباره عضواً في المجتمع التي تسمح له أن يساهم في الشؤون العامة للمدينة دون أن يكون للأفراد الحريات المدنية الحديثة مثل الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية العقيدة،
وانطلاقاً من هذا المفهوم الأثيني للحرية كان المواطن في مدينة أثينا يتمتع بمجموعة من الحقوق السياسية المتمثلة بالعضوية في جمعية الشعب، وحق تولي المناصب العامة، فضلاً عن تمتعه بحرية التفكير وحرية إبداء الرأي، وعلى ذلك لم يكن المواطن الأثيني يعرف الحرية الفردية الحقيقية نظراً لتمتع الدولة بسلطات واسعة وشاملة وعدم وجود ضمانات للأفراد في مواجهة دولة المدينة.
—
والجدير بالذكر أن أثينا لم تأخذ بفكرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هي معروفة اليوم، على الرغم من أن بركليس قد اعتبر مساعدة الضعفاء والفقراء اقتصادياً من القواعد الأخلاقية التي يجب أن تفخر بها أثينا.
كذلك فقد عرفت أثينا نظام الإبعاد وبموجبه كان يجوز لجمعية الشعب أن تقوم بطرد أي مواطن خارج أثينا إذا ما ثبت أن لهذا المواطن أطماعاً خطيرة، أو كانت له شعبية قد تؤدي إلى الاستبداد، ونظام الإبعاد بهذا الشكل وإن كان يمثل ضمانة ضد الاستبداد، إلا أنه يتضمن في نفس الوقت اعتداءاً على حرية المواطن المبعد، وفي كل الأحوال فإن الحقوق والحريات التي تمتع بها المواطن في مدينة أثينا لم تكن تمثل قيداً على سلطة الدولة إذ أنها كانت عبارة عن حقوق أو حريات في مواجهة المواطنين بعضهم البعض، أما بالنسبة للدولة فكانت تستطيع أن تنكر هذه الحقوق والحريات إذ لم تكن هناك ضمانات مقررة لمصلحة الأفراد في مواجهة الدولة التي كانت تتمتع بسلطات شاملة قِبَلْ المواطنين ولا يحدها إلا قيد واحد هو معاملة المواطنين جميعاً على قدم المساواة، وهذا ما يتم بإعلاء كلمة القانون وخضوع الجميع لأحكامه وبهذه الطريقة كانت تتحقق الحرية والمساواة في أثينا.
الفرع الثاني – حقوق الإنسان في الحضارة الرومانية .
شهدت روما بعض المحاولات المحدودة في سبيل الحرية والمساواة وإذا كان القائمون بهذه المحاولات قد نجحوا في الحصول على جانب من هذه الحقوق فان هذا لا يعني مطلقاً ان الإمبراطورية الرومانية قد شهدت عصراً تمتع فيه الفرد بكامل حقوقه وحرياته تجاه الدولة التي كانت مسيطرة تماماً على الشؤون المختلفة في الحياة، وقد دوّن الرومان العادات والتقاليد والأعراف المرعية في قانون الألواح الاثني عشر 450 ق.م لكي تثبت وتستقر ويتساوى الجميع في معرفتها والخضوع لاحكامها واخذ الرومان ينادون بصورة تدريجية بحرية العقيدة في المسائل الدينية كما أن الفقهاء الرومان قد نظروا إلى الرق نظرة غير مشجعة، ورأى بعضهم أن نظام الرق مضاد للطبيعة، وقد أكد (اولبيان) أنه لا يجوز في القانون الطبيعي ان يولد الناس إلا أحراراً وان العبيد وان عدوا موجودين في نظر القانون الوضعي فانهم ليسوا موجودين في نظر القانون الطبيعي الذي يقرر ان الناس جميعاً متساوون(32).
ان المحاولات المتقدمة وان كانت تمثل خطوة في الإمبراطورية الرومانية باتجاه تنظيم الحياة فان واقع المجتمع والدولة في روما كان يتناقض تماماً مع الأفكار الحقيقية لحقوق الإنسان حتى في مفهومها البدائي فما كان يدور من قتل لحقوق الإنسان في روما واهدار لكرامته يمثل جانباً من مظاهر تلك الدولة وعلامة بارزة تعكس جانباً مهماً من طبيعة المجتمع الروماني. وبهذا المعنى يؤكد لويس ممفورد في كتابه تاريخ المدينة على انه لابد للمرء من ان يمر بأقسى تجربة عندما يمر بروما، إذ عليه (ان يسد انفه من الروائح الكريهة، ويصم آذانه عن صرخات الألم والفزع، ويغلق فكه حتى لا يتقيأ ما في جوفه، وفوق كل شيء يجب ان يحتفظ المرء بعواطف باردة، فيصر في غلظة رومانية حقه كل باعث على اللين والشفقة، وذلك لأن كل أنواع التضخم سوف تنشط أمامه في روما وليس الانحطاط والشر أقلها ضخامة)(33).
من جانب آخر اعتقد المشرعون الرومان ان الطبيعة جاءت بمبادئ محددة يجب أن تعبر عنها القواعد القانونية الوضعية، فالقانون الطبيعي طبقاً لما ذهب إليه هؤلاء، هو المفسر لمبادئ العدالة العامة باعتبارها المبادئ الطبيعية الخالدة التي تحتم احترام الاتفاقات وتنسجم مع قيم العدالة في المعاملات بين الأفراد وحماية القاصرين من الأطفال وحماية النساء والاعتراف بالمطالب التي تقوم على صلات الدم والقرابة، وأدت هذه المبادئ إلى ظهور تنظيم قانوني حطم سلطة الأب المطلقة على ابنائه، ومنحت المرأة المتزوجة مركزاً قانونياً يقترب من حقوق الزوج فيما يتعلق بإدارة الأملاك أو تربية الأطفال(34).
أن من ابرز المفكرين الذين اهتموا بجوانب عامة ترتبط بفكرة حقوق الإنسان وعاشوا في الفترة الرومانية هو شيشرون 106-43 ق.م وسنيكا 4ق.م– 65م فشيشرون اسهم في الحوار حول القانون الطبيعي، وهو يرى انه مرادف للعقل وان العالم هو عالم واحد له قانون واحد صالح لجميع الأمم وفي مختلف الأوقات لانه ذو طبيعة واحدة وان غاية هذا القانون تحقيق العدالة والفضيلة مادام قد أنبثق عن طبيعة إلهية عادلة وفاضلة، وان الأفراد متساوون في ظل هذا القانون جميعاً بالحقوق القانونية وبالمساواة أمام الله وأمام قانونه الأعلى وهو ما تبناه الفكر المسيحي بعد ذلك، وكان هدف شيشرون من كل ذلك إعطاء الأفراد شيئاً من الكرامة التي هي من أهم حقوق الإنسان، فحتى العبيد يجب ان يكون لهم حصة منها لانهم ليسوا مجرد آلات بشرية حية كما يذكر ارسطو يستخدمها السادة لغرض الإنتاج(35).
أما سنيكا فعبر عن الفكر الرواقي في السنوات الأولى من العصر الإمبراطوري وكانت أفكاره تعبر عن صبغة دينية واضحة وكان يعتقد ان الطبيعة هي التي تقدم الأساس الذي يعيش في ظله الأفراد واقر بمبدأ المساواة الإنسانية إذ ان الاختلافات بين السيد والعبد هي مسألة اصطلاح قانوني وان الحظ السيئ وحده الذي يجعل الإنسان عبداً، وعليه فقد رفض سنيكا كما رفض شيشرون والرواقيون الأوائل ادعاء ارسطو ان البشر غير متساوين بالطبيعة.
من جانب آخر فقد ادعى سنيكا أن الاعتماد على الطاغية يعد الخيار الأفضل إلى حدٍ كبير من الاعتماد على الجماهير، إذ ان جمهرة الشعب هي من الشر والفساد بحيث تغدو أكثر قسوة من الحاكم الطاغية(36).
أخيراً يمكن القول بأن الآراء التي نادى بها كل من شيشرون وسنيكا على وجه العموم قد ظلت الأساس الذي قاد إلى ظهور الأفكار الأولى بهذا الخصوص لآباء الكنيسة عبر فكرة المساواة العامة والأفكار الإنسانية والثورة على الدولة عند سنيكا والقول بوجود قوة فعالة تحاول تصحيح مسيرة الحياة وتخليصها من الشر على وجه الأرض(37).
اترك تعليقاً