الـمواطـنة في الدساتيـر الإسـلامية
* منقول للإفادة الكاتب سامح فوزي ، باحث في قضايا المواطنة – مصر (1) إطـلالة أولـية يُعد مفهوم المواطنة Citizenship من المفاهيم الأساسية في الأبنية الدستورية والقانونية والاجتماعية في الدولة الحديثة.
ويعني المفهوم ثلاثة أبعاد أساسية: قانونية، سياسية، اقتصادية اجتماعية. تعني المواطنة القانونية المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق. وعادة ما تكون رابطة الجنسية معيارا أساسيا في تحديد ماهية المواطن. وتشمل الحقوق السياسية- المدنية مثل الحق في الانتخاب، والترشيح، والتنظيم.
أهم الحقوق السياسية هو المشاركة في الانتخابات ترشيحا وتصويتا، وأهم الواجبات دفع الضرائب المستحقة علي كل مواطن وفق القوانين والإجراءات الضريبية المعمول بها.
وتنطوي الحقوق المدنية علي الحريات الشخصية، والحق في الأمان، والخصوصية، والاجتماع، والحصول علي المعلومات ، فضلا عن حرية الاعتقاد والتعبير. وفي قلب الحقوق المدنية تأتي حرية تشكيل تنظيمات مدنية – الأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية- وحرية الانتقال والحركة والمقاومة السلمية، والحق في محاكمة عادلة. أما المواطنة الاجتماعية فهي تشمل جملة من الحقوق الاقتصادية- الاجتماعية ليس فقط الحق في الملكية، ولكنها تمتد إلي الحقوق المرتبطة بممارسة العمل، مثل الحصول علي أجر عادل، وعطلة دورية، والحق في الإضراب، والتفاوض الجماعي.
ويتعين وجود سلطة قضائية مستقلة، قادرة علي حماية حقوق الأفراد من أي افتئات عليها سواء من جانب مختلف أجهزة الدولة، أو علي يد الأفراد أنفسهم في علاقاتهم بعضهم بعضا. هذا إلي جانب منظمات فاعلة للمجتمع المدني- وبالأخص المنظمات الحقوقية والإعلامية- التي تنهض دائما علي حماية حقوق الأفراد، وصيانتها، والكشف عن كافة صور الانتهاك الذي قد يتعرضون له.
ويُلاحظ أن المواطنة القانونية هي أول صور المواطنة التي عرفتها البشرية في شكل إقرار حقوق وواجبات متساوية، ولكنها ذات طبيعة استاتيكية.
وتكتسب المواطنة ديناميكية وتفاعل في ظل ما يعرف بالمواطنة التفاعلية، وتعني المشاركة الفاعلة في الحياة العامة، وتخفيض مستوي القيود القانونية المفروضة علي دخول فاعلين سياسيين المجال السياسي العام، مثل الأحزاب والحركات السياسية، فضلا عن ضمان حرية ونزاهة العملية الانتخابية.
وتعني المواطنة الاجتماعية بتطوير جودة الحياة بالنسبة للمواطنين، وحق كل مواطن في الحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة، وما يستتبعه ذلك مواجهة قضايا الفقر، وارتباط الثروة بالسلطة السياسية، وكل المظاهر التي تحط من شأن المواطن علي الصعيد الاجتماعي .
وأخيرا،رغم استقرار هذه الأجيال المتتابعة، والمتداخلة من حقوق المواطنة، يكثر الحديث عن جيل رابع جديد هو “المواطنة الثقافية”، التي بموجبها يتمتع الفرد بحقوق التعبير عن ثقافته العامة والفرعية، دون قيود أو عقبات.
العلاقة بين حقوق المواطنة والدستور الإسلامي متشابكة. فمن ناحية أولي أن كلا المفهومين، أي المواطنة والدستور الإسلامي حديثان.
وتلعب الخبرة التاريخية للمجتمعات، ما تسودها من ثقافات، وعلاقات بين أغلبيات وأقليات- من ناحية ثانية- دورا مهما في تحديد شكل هذه العلاقة. وأخيرا فإن الاستقطاب الحاد في العلاقة بين الدين والدولة الذي نشهده منذ عقود في المنطقة العربية أثر علي شكل هذه العلاقة، وجعل منها عائقا للتحول الديمقراطي الشامل.
من هنا فإن علاج هذه الإشكالية يمثل مدخلا مهما ليس فقط للاستقرار الدستوري، ولكن للتنمية السياسية، وبناء رأس مال اجتماعي حقيقي في المجتمعات العربية، وبعث مناخ من الثقة في العلاقة بين الجماعات المتنوعة. من هنا فإن الاقتراب إلي الموضوع يتطلب ثلاثة مهام أساسية:
أولا: النظر إلي حقوق المواطنة في الخبرة الدستورية الإسلامية، والتي تعكس مساحة واسعة من التنوع من ناحية النظر إلي وضعية الدين في البناء الدستوري، وحقوق المواطنة، والحريات الأساسية الواردة فيه.
ثانيا: الوقوف علي مستوي إدراك مشروعات الدستور الإسلامي المختلفة لمفهوم المواطنة، دون السعي إلي محاكمة هذه المشروعات وفق ما آل إليه المفهوم في الوقت الراهن، وما طرأ عليه من أجيال تطورية، من مواطنة قانونية، ثم سياسية، ثم اجتماعية اقتصادية، وانتهاء بالثقافية. ثالثا: محاولة استكمال الصورة، من خلال إلقاء النظر علي مجمل الاجتهاد الإسلامي في مسألة المواطنة في ضوء ما آل إليه المفهوم، ومحاولة إيجاد مناطق التقاء بين المواطنة والدستورية في الوعي الإسلامي المعاصر.
(2) الإسلام والدستور هناك عدد من الملاحظات يتعين تسجيلها عند بحث العلاقة بين الإسلام والدستور: أ- إن الحركات والقوي الإسلامية التي تطالب بالاحتكام إلي القرآن بوصفه دستورا للمسلمين، لم تغفل، بل أكدت علي أهمية وجود دستور مكتوب يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وطبيعة عمل مؤسسات الدولة، والحقوق والحريات الأساسية المكفولة للأفراد.
ونظرا لأن الدول التي تقطنها أغلبيات مسلمة تمتد شرقا وجنوبا، وتسيطر عليها ثقافات متباينة، وخبرات تاريخية متفاوتة، وعلاقات اجتماعية تقادم بها العهد، يصبح من الصعب تصور إمكانية أن يوجد دستور موحد، تتشابه مواده، يحكم المسلمين في كل مكان. الواقع أنه مهما أتحد مصدر استلهام الدستور، أعني القرآن والسنة، فإن الخصوصيات الثقافية والحضارية لابد أن تنعكس علي النص الدستوري.
ب- تأسيسا علي ما سبق يمكن النظر إلي خبرات دول تقطنها أغلبيات مسلمة، وقد عكست تجاربها الدستورية تنوعا واختلافا. في ماليزيا ينص الدستور علي أن “الإسلام هو دين الإتحاد الفيدرالي، وتجري ممارسة الأديان الأخرى في سلام ووئام في أي مكان في الاتحاد الفيدرالي” (المادة 3)،
ويلاحظ أن الدستور منح حق ممارسة الشعائر الدينية للأديان غير السماوية، وهو ما يتضح من نص المادة (8) التي تحظر التمييز- بالمطلق- بين الأفراد بسبب الدين أو العرق أو مكان الميلاد. ويحوي الدستور حزمة من الحقوق والحريات الأساسية التي يتمتع به الأفراد مثل الحق في السلامة، والمساواة أمام القانون، وحظر العبودية، وحرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي والتنظيم، وحظر كافة أشكال العمل بالسخرة.
وينفرد الدستور الماليزي بإقرار حق كل شخص بأن يعترف بديانته، ويمارسها بحرية، بل ويروج لها. ومن حق كل جماعة دينية أن تمتلك وتدير مؤسساتها، بما في ذلك المؤسسات التعليمية. وذكر أن من حق الدولة أن تنشئ أو تعين مدارس إسلامية، وتنفق عليها من المال العام (أنظر المواد من 5-13). وتمارس الدولة الماليزية من خلال الاتحاد الفيدرالي بعض القيود علي الوحدات المكونة لها في مسألة الاختيارات السياسية والتشريعية خاصة في الولايات التي تحكمها أحزاب إسلامية، وذلك حتى تبقي الدولة إجمالا علمانية متعددة الثقافات.
ورغم أن الدستور يعطي وضعا خاصا للإسلام، ويسمح بوجود محاكم شرعية، ويعزز من الحضور الإسلامي علي الصعيدين المالي والتعليمي، إلا أنه في التحليل الأخير ينطوي علي ضمانات تحول ممارسة أي نوع من التمييز ضد غير المسلمين، الذين لا يخضعون للتشريعات الدينية. وعندما عُدل الدستور في اتجاه تعزيز حقوق المرأة، ومواجهة التمييز ضدها جاء ذلك علي خلفية إدراك عام بأن ذلك يتفق مع الإسلام، كما يدركه المواطن الماليزي . وفي اندونيسيا، الأخ الأكبر لماليزيا نجد دستورا مختلفا تماما.
ينص الدستور علي أن السيادة يمارسها الشعب طبقا للقانون (المادة 1)، والدولة الاندونيسية ليس لها دين، لكنها تؤمن بالإله الواحد (المادة 7)، والمواطنون أمام القانون سواء، وتضمن الدولة لكل شخص أن يمارس معتقده الديني (المادة 29)، ولا يشترط ديانة للرئيس الاندونيسي (المادة 3)، ويُقسم الرئيس ونائبه- قبل مباشرة عملهما- قسما مدنيا يعلنان فيه خضوعهما للدستور، وتعهدهما بخدمة مصالح أبناء الوطن.
وخلاف ذلك يتمتع المواطن بحزمة من الحقوق مثل الحق في العمل والحياة الكريمة، والتعليم، وتعول الدولة الفقراء والأطفال المشردين (المواد من 27- 34). وفي تركيا،حيث يوجد دستور علماني، كل الأفراد متساويين أمام القانون دون تفرقة بسبب اللغة أو العرق أو اللون أو الجنس أو الرأي السياسي أو المعتقد الفلسفي أو الدين أو الطائفة أو أي اعتبار آخر، والمرأة مساوية للرجل، وتتعهد الدولة بضمان تحقق هذه المساواة عمليا (المادة 10).
وينص الدستور علي “حرية الضمير والاعتقاد الديني وحرية ممارسة الشعائر الدينية بما لا يخالف النظام العلماني للجمهورية التركية الذي يستند إلي احترام حقوق الإنسان (المادتان 14و24). ويتمتع المواطن- في ظل هذا الدستور- بجملة من الحقوق الأساسية مثل الحق في الحياة، والحق في تنمية هويته الروحية والمادية، والحق في الخصوصية، وحرية الاتصال، وحرية التنقل والإقامة، وحظر كافة أشكال العمل بالسخرة (المواد من 12-24) .
ت- مما سبق يتضح أن ممارسة “التعددية”- دستوريا وسياسيا- لا تحتاج إلي نظام علماني، علي غرار النموذج الأوربي، مثلما يتصور البعض، ولكن تحتاج إلي إدراك عميق لمفهوم التنوع، وبخاصة أن في الخبرة والممارسة الإسلامية ما يسمح بذلك.
وكلما نحي النظام الدستوري صوب إدراك التنوع والاختلاف، وإن قرر وضعا خاصا لديانة أغلبية المواطنين، آخذا في اعتباره الخبرة التاريخية، والميراث الثقافي للمجتمعات، كان ذلك عاملا أساسيا علي تحقيق التوافق بين الإسلام والدستور.
والعكس صحيح، في المجتمعات المتعددة دينيا وثقافيا، كلما كان هناك حرص علي فرض نصوص إسلامية في الدساتير لا تستوعب التمايزات الثقافية والسياسية والاجتماعية، كان ذلك سببا للتوتر، وعدم الاستقرار، وربما تفسخ عري المجتمع برمته. وهناك العديد من الخبرات السياسية الدالة علي ذلك، السودان ليس بعيدا عنها. ث- هناك عدد من المبادئ الأساسية في مجال تحقيق حقوق المواطنة الكاملة دستوريا يدور حولها ما يشبه الاتفاق في أي دستور ليبرالي إسلامي. ومهما اختلف شكل النظم السياسية وتنوعت، ستظل هذه المبادئ هادية وحاكمة. البعض يعيد هذه المبادئ إلي ما يعرف بدستور “دولة المدينة”، وهي الوثيقة وضعها الرسول محمد عقب الهجرة إلي المدينة.
من ملامحها الأساسية إحلال الرابطة الدينية محل الرابطة القومية في تقرير حقوق المواطنة، وبالرغم من ذلك، فإنها أدركت المواطنة علي إنها ارتباط بالأرض، وهو ما يشكل جوهر المفهوم الحديث للمواطنة .
فقد شملت الوثيقة المسلمين في المدينة، سواء الذين هاجروا إليها قبل الوثيقة أو بعدها، كما شملت غير المسلمين علي اعتبار أن اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من واجبات. ونصت الوثيقة علي العدل والمساواة، وبعض المبادئ القانونية مثل القصاص وشخصية العقوبة، الخ . ويحدد الدكتور محمد سليم العوا عددا من المبادئ الأساسية التي يتعين وجودها في أي نظام إسلامي هي الشورى، والمساواة، والعدل، ومساءلة الحكام، والحرية.
ومن خلال استعراضه لهذه المفاهيم، في ضوء النص والممارسة، خلص إلي أن ممارستها “حق” و”واجب” أكثر من كونها رخصة . وقد اجتهد د.العوا وآخرون في مراجعة مفاهيم استقرت في الأبنية السياسية والقانونية لبعض الدول الإسلامية لعقود طويلة مثل مفهوم “أهل الذمة”، وهو يشكل نقيضا للمواطنة بمعناها الحديث. وفي هذا يري د.وليم سليمان قلادة بأن “الفكرتين، أي الذمية والمواطنة، تصدران من منطلقين لا يمكن التوفيق بينهما.
فالذمية تعبير عن حالة الغزو وحكم الفاتحين، والمواطنة تعبير عن حركة المحكومين لاستخلاص السلطة لأنفسهم من الحكام الذين يحكمون لصالح أنفسهم، فإن الذي أجرته هذه الحركة هو علي وجه التحديد نسخ مبدأ الذمة، وإحلال المواطنة مكانه، التي قامت علي أساس العقد الاجتماعي بين مكونات المحكومين، ونتيجة لواقعة تفريط الحاكم في سيادة البلاد ثم استردادها بواسطة المحكومين معا” .
وفي رأي الدكتور العوا أن الذمة انتهت بوقوع الدول الإسلامية في فبضة الاستعمار، ومشاركة أبنائها، مسلمين وغير مسلمين، في تحريرها من المستعمر، واستحقوا بذلك جميعا المواطنة المتساوية . ويذهب الدكتور أحمد كمال أبو المجد إلي أن برنامج العمل الذي يتبعه المسلمون، بوصفه إسلاميا، يجب أن ينطلق في خدمة الوطن بكل فئاته.
وهو ينبع من قيم الإسلام، التي لها جذور عميقة عند المسلمين، ولها كذلك رصيد عند المسيحيين. وأضاف أن الحل الصحيح لمشكلة الطائفية هو حرية العقيدة والعبادة، وحق الأغلبية في إنفاذ مشيئتها ولكن مع تقرير الحقوق الكاملة للأقلية.
وفي هذا الخصوص فإن الموقف الصحيح من الأقليات غير المسلمة يقوم علي تقرير المساواة الكاملة بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق المدنية والسياسية، متجاوزين عن مفهوم “أهل الذمة” الذي اخذ في التطبيق التاريخي صورا ومظاهر أدني من المساواة الكاملة،وأدني من الضمانات التي يكفلها المجتمع الإسلامي لغير المسلمين. وفي كل الأحوال فهو ليس حكما إسلاميا ثابتا يجب إتباعه، وإنما هو موقف تاريخي للمسلمين وحكامهم، صنعته ظروف وملابسات تاريخية لم يعد أكثرها قائما، وليس الجيل الحالي ملزما بالآخذ بها .
ج- في العالم العربي سعت الدول التي تخلصت من الاستعمار في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين إلي بناء دولة قومية، حافظت فيها علي الطابع العلماني الموروث عن الخبرة الاستعمارية، ولكن مع إقرار وضع خاص للإسلام في دساتيرها، سواء كان دينا للدولة، أو النص علي أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. وقد حكمت العلاقة بين الدين والدولة علي أرض الواقع اعتبارات معقدة، أبرزها الخبرة التاريخية لهذه المجتمعات، وتوظيف الدين مصدرا للشرعية السياسية، وتصاعد الحركات الإسلامية، وانكماش قاعدة التأييد للنظم السياسية، وتآكل الانجاز الحقيقي، وتوالي الهزائم الخارجية، كل ذلك أدي إلي تحول العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة إلي أحد محاور الصراع، وعامل لتعطيل التنمية السياسية في هذه المجتمعات.
فقد دخل الدين ما يمكن أن نطلق عليه “منطقة الصيد”، بمعني أنه تحول إلي مصدر متنازع عليه للشرعية، والحركة السياسية، والتغلغل الجماهيري بين النظم الحاكمة والحركات الإسلامية، وهو ما أضفي علي هذه القضية عوامل اشتعال، في الوقت الذي تراجع فيه الاجتهاد السياسي والفقهي الحقيقي .
(3) المشروعات الدستورية الإسلامية في ظل المد الديني الذي شهدته المنطقة العربية، وبالأخص مصر، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي سارت هناك دعوي لوضع دساتير إسلامية خالصة، تجسد النظام الإسلامي، وتحول البلاد إلي دول دينية. الملفت أن هذه المشروعات الدستورية وضعت بمعزل عن الاجتهادات الفقهية والقانونية المعتبرة في المنطقة العربية، التي رغم قلتها، كان لها تأثيرها وحضورها في العقل الديني والقانوني العربي. كما أن هذه المشروعات الدستورية- التي ظهر معظمها في مصر- وضعت بمعزل عن الخبرات الدستورية في الدول التي تقطنها أغلبيات مسلمة.
وهكذا جاءت فقيرة في بنائها القانوني، تعكس سقفا فقهيا أقل مما تعارفت عليه الخبرة المصرية ذاتها.
هذه المشروعات علي سبيل الحصر هي المشروع الذي وضعه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تطبيقا لتوصية مؤتمره الثامن بالقاهرة في أكتوبر عام 1977م، وجاء مشروعان دستوريان آخران هما مشروع المستشار الدكتور مصطفي كمال وصفي ، والمستشار الدكتور علي جريشة يعبران عن قراءتين مختلفتين لمشروع مجمع البحوث الإسلامية، سواء بتكرار بعض مواده، أو بتفصيل البعض الآخر، أو اختصار بعضها، أو بإيضاح المسكوت عنه فيها، أو بالتعبير الصريح عن الاختلاف مع بعض المواد الواردة فيه.
إلي جانب هذه المشروعات الدستورية الثلاثة هناك مشروع دستوري رابع أقره المجلس الإسلامي العالمي في إسلام آباد في 10 ديسمبر 1983م. وقبل قراءة هذه المشروعات يحسن التوقف أمام قضية أساسية هي التكوين الفكري الذي يكمن خلفها، وبالتحديد المشروعين اللذين وضعهما المستشارين مصطفي كمال وصفي وعلي جريشة، ويعبر كلاهما عن تيار ديني ظهر بين رجال القضاء المصري، يحمل بين طياته العودة إلي آراء فقهية متشددة في التعامل مع القضايا، لم تأخذ في اعتبارها- علي وجه الخصوص- الفقه المصري التقليدي، المتسامح مع التعددية بكافة صورها، والذي هو نتاج واقع اجتماعي مختلف، عن الواقع الذي ظهرت فيه الآراء الفقهية المتشددة التي أرتكن إليها مشروعا كل من المستشارين مصطفي كمال وصفي وعلي جريشة .
وبصفة عامة فإن العلاقة بين المواطنة والدستور في مشروعات الدساتير الإسلامية “شائكة”. مبعث ذلك يعود إلي عدم تزامن إدراك كلا المفهومين في الخبرة الإسلامية المعاصرة.
في الوقت الذي اهتم فيه العلماء المسلمون والتيارات الإسلامية بمسألة الدستور الإسلامي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين لم يكن مفهوم المواطنة متبلورا علي النحو الذي نراه اليوم. وعندما تبلور مفهوم المواطنة، واكتملت معالمه، واحتل مساحة من النقاش العام في منتصف التسعينيات، لم يحدث اجتهاد إسلامي جاد لاستيعاب المفهوم بدلالاته، ومحاولة الخروج من ذلك بدستور إسلامي يأخذ في الحسبان التحولات التي طرأت علي حقوق المواطن في حقل المعرفة والممارسة، محليا وكونيا.
بل علي العكس، انصب المشروع الإسلامي- في جزء كبير منه- علي الحركية، وتراجع بشكل واضح الاجتهاد الفكري، بل لم يعد هناك تركيز علي مسألة الدستورية ذاتها في ضوء النزوع المفرط للتسييس. غياب تزامن إدراك كلا المفهومين حول هذه المسألة إلي جزء من السجال الإسلامي- العلماني التقليدي، وأشاع مناخا من الاتهامات المتبادلة. هناك من يري أن الطرح الإسلامي، وبخاصة في مجال الاجتهاد الفقهي والمشروعات الدستورية لم يرق إلي استيعاب مجمل مشتملات مفهوم المواطنة، بمعناه الحديث، وهو بالتالي طرح لم يستوعب بعد الدولة الحديثة التي تستند إلي هذا المفهوم.
وهناك من الإسلاميين من يدفع الاتهام بنفي مفهوم المواطنة ذاته، واعتباره غربيا، لا يعرفه الوعي الإسلامي، قديما أو حديثا. وأكثر من هذا، هناك من يتجه إلي القول بأن السجال حول هذه المسألة عديم الجدوى بعد أن فض دستور دولة المدينة الاشتباك، وهو أول دستور إسلامي أقر المواطنة، قبل أن تبلغها دساتير العالم. بصرف النظر عن هذه الآراء، فإنه من المفيد إلقاء نظرة تحليلية معمقة علي هذه المشروعات الدستورية ومحاولة الخروج منها بخلاصات محددة. أ- الحديث عن دولة “الرسالة”.
يعني الدستور- في أبسط معانيه- القانون الأساسي في الدولة، الذي ينطوي علي المبادئ التي تتأسس عليها الحكومة، وتباشر عملها، وكذلك المبادئ التي تنظم عمل السلطات السيادية، وحدود العلاقات فيما بينها.
المعني الكامن في الدستور هو تنظيم العلاقات بين سلطات الدولة، وبين المواطن والسلطة في حدود إقليم جغرافي معين، يتمتع سكانه بالمواطنة، أي التمتع بالحقوق وتحمل الواجبات المنصوص عليها في الدستور. مشروع الدستور الإسلامي- علي النحو الذي طرح عليه- مختلف في معناه ومبناه. الدستور الإٍسلامي ُيراد به أن ينظم دولة “رسالة”، وليست دولة قومية لها وظائف معينه.
يشرح ذلك بوضوح أبو الأعلى المودودي “…..ليست المهمة الحقيقية التي تتولاها الدولة الإسلامية في الأرض هي أن تعمل علي إقامة الأمن والدفاع عن حدود البلاد أو رفع مستوي معيشة الأهالي، فما هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإسلامية، فإن الميزة التي تميزها عن سائر الدول غير المسلمة هي أن تعمل علي ترقية الحسنات التي يريدها الإسلام أن يحلي بها الإنسانية وتستفيد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر منها الإنسانية” .
ينص مشروع المستشار علي جريشة في مادته الأولي علي أن “الإسلام دين الدولة، وعقيدته المصونة، وشريعته واجبة، ومشروعيته هي العليا فوق كل النصوص، ومصدره الأساسي الوحي: قرآنا وسنة، وكل ما يخالفه رد وباطل”. وتستمد السلطة شرعيتها من “إقامتها لشرع الله، رضي الأمة بها.
ولها حق الطاعة، وحق النصرة، فضلا عن حراسة الوجدان- ما أطاعت الله ورسوله” (المادة 3). ويقوم المجتمع علي “العقيدة ويصونها، ويحكم الشريعة ويحميها، ويلتزم الأخلاق الفاضلة ويذود عنها، ويعلي شعائر الدين ويعظمها، ويدفع بالغزو الفكري بكل صوره ويشيع الثقافة النافعة، ويسقط القدوات السيئة ويقتدي برسول الله صلي الله عليه وسلم ومن تبعه. ويتخذ الجهاد سبيلا لتربية أبنائه، وتحقيق أهدافه” (المادة 34).
ويشدد علي أنه “إذا جاع المسلمون فلا مال لأحد” (المادة 32)، دون أي إِشارة إلي المواطنين الآخرين من أديان أخري الذين من المحتمل تعرضهم إلي خبرة الجوع. ويؤكد المشروع أن الجهاد ضمن رسالة الدولة “الجهاد ماض إلي يوم القيامة إعلاء لكلمة الله، والإعداد له واجب المجتمع والدولة والقوات المسلحة جزء من الأمة المدربة روحيا وماديا لحراسة الحدود وحفظ النظام، ويجري تدريب أفراد الأمة بما يكفل التعبئة الفورية في أي ظرف. وينظم القانون ذلك” (المادة 41).
ويشير مشروع مجمع البحوث الإسلامية إلي التزام “الدولة بتعليم المسلمين الأمور المجمع عليها من الفرائض والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين دراسة وافية علي مدار سنوات التعليم” (المادة 12)، وتلتزم كذلك “بتحفيظ ما تيسر من القرآن الكريم في جميع سنوات التعليم حسب أنواع الدراسة، كما تنشئ معاهد خاصة بالقرآن لتحفيظه لمن عدا الطلاب، وتطبع المصحف الكريم وتيسر تداوله” (المادة 13).
ويتضح رسالة الدولة في هذا المشروع فيما نصت عليه من صلاحيات للأمير (رئيس الدولة) فهو “مسئول عن قيادة الجيش لجهاد وحفظ الثغور وتراب الوطن وإقامة الحدود وعقد المعاهدات بعد إقرارها” (المادة 56)، وهو كذلك “مسئول عن تمكين الأفراد والجماعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الفروض” (المادة 57).
في مشروع المستشار مصطفي كمال وصفي تظهر رسالة الدولة في هداية المسلمين، والحفاظ علي عقيدتهم، وحمايتهم من أنفسهم في مشهد يقترب من وظيفة “الكنيسة” في المسيحية. أساس المجتمع هو “الإيمان بالله تعالي والتوحيد طبقا للعقيدة الإسلامية، والتضامن بين المسلمين شعب وسلطة” (المادة 5).
وتنص (المادة 11) علي “المسلمين جميعا إقامة فروض الكفاية، القادر منهم بفعلها وغير القادر بالحض عليها. وتكفل الدولة تمكينهم من إقامتها، ولها إجبارهم عليها”. وفي السياق نفسه تشير (المادة 12) إلي أن “ذمة المسلمين واحدة ويسعي بها أدناهم، ويمثل المسلم جماعة المسلمين، فيما يقوم به من ممارسته لحريته العامة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
وله أن يقيم دعوي الحسبة دفاعا عن الصالح الإسلامي العام”. وشرط أساسي علي المسلم أن يكون “منتميا لمسجد حيه أو قريته” (المادة 28). والمساجد والجوامع لها “شخصية قانونية وذمة خاصة، ويمثلها من يختاره أحد أهل الحل والعقد…” (المادة 31)، ويفسر ذلك إلي حد بعيد أسباب تضييق مفهوم الأمة علي المسلمين فقط دون غيرهم، لأن المساجد تؤدي وظيفة دستورية مهمة في إفراز أهل الحل والعقد .
ويشدد المشروع الدستوري علي أن “لأركان الإسلام والعبادات وظائف اجتماعية تضامنية لا يجوز الإخلال بها وتكفل الدولة إقامتها” (المادة 36). وفي مشروع دستور المجلس الإسلامي العالمي تظهر ولاية “الجهاد” فريضة تقوم بها الدولة، وتهيئ شعبها لها (المادة 57 وما تلاها حتى المادة 60) ب- تحدي التوفيق بين الأمة والدولة تنهض دولة الرسالة علي نشر الإٍسلام، والذود عن أمة المسلمين.
من هنا واجهت مشروعات الدساتير الإسلامية تحدي التوفيق ما بين “الدولة” و”الأمة” في تحديد الانتماء، والهوية. هذا أمر متوقع ومفهوم في ضوء شيوع الارتباط بمفهوم “الأمة الإسلامية”، في الوقت الذي لم يستقر بعد في الوجدان الإسلامي- بشكل عام- مفهوم الدولة القومية، بما تعنيه من دلالات، وما تستتبعه من تنظيمات.
هنا تبدو المفارقة. الدستور يوضع من أجل دولة، أما في خبرة مشروعات الدساتير الإسلامية فهو يوضع من أجل دولة وأمة .
يفسر ذلك أسباب غياب مفهوم “المواطنة” بمعناه الواسع، لارتباطه بالدولة القومية الحديثة، وشيوع استخدام مصطلحي “الفرد” و”الناس”- بديلا له- لارتباطهما بكيانات اجتماعية وسياسية فضفاضة، لا تحدها فواصل أو حدود، مثل مفهوم الأمة الإسلامية. يوضح ذلك السجال الذي دار بين الدكتور مصطفي كمال وصفي والمستشار الدكتور علي جريشة من ناحية، ولجنة صياغة الدستور الإسلامي في مجمع البحوث الإسلامية حول المادة الثانية من مشروع الدستور الإسلامي، التي تنص علي أنه “يجوز أن تتعدد الدول في الأمة الإسلامية، وأن تتنوع أشكال الحكم فيها”.
وقد أشار الدكتور وصفي إلي أن الأصل هو وحدة الأمة الإسلامية، والتعدد لم يجزه الفقهاء إلا عند الضرورة، وهو نفس المنحي الذي اتخذه المستشار علي جريشة. وفي المشروعين اللذين قدماه كلاهما نجد تأكيدا واضحا علي هذا الأمر. تنص المادة الأولي في مشروع الدكتور وصفي “المسلمون أمة واحدة”، وتأكيدا علي ذلك دعا في المادة الثالثة إلي “الدفاع عن الأقليات الإسلامية، والدول الإسلامية المعرضة للغزو ومعاونتها ونصرتها والعمل علي تحريرها واجب علي جميع المسلمين”.
وفي مشروع المستشار جريشة تنص المادة الثانية علي أن “الأمة الإسلامية أمة واحدة، أفضلها عند الله أتقاها، وتسقط حواجز الحدود والقوميات والعصبيات” .
والمسألة هنا لا تتعلق بالانتماء إلي انساق حضارية أو ثقافية أو دينية أممية، فهذا أمر شائع في بقاع عديدة من العالم، ونموذجه الأشهر الحضارة الغربية، ولكن تتصل القضية برمتها بالترتيبات الدستورية التي تحكم علاقة المواطنين بالكيان السيادي الأعلى الذي ينتمون إليه، أعني بذلك الدولة.
فقد أدي تجاوز الدولة إلي الأمة دون ترتيب أوضاع المواطنة في إطار إقليم الدولة إلي ظهور نزوع تلقائي نحو “تديين المواطنة”، واعتبار الإسلام وطن، والمواطن يجب أن يكون مسلما بالضرورة. وهو أمر يحتاج إلي مزيد من الشرح والتحليل.
ت- المواطن في دولة “الرسالة” دستور دولة “الرسالة” الذي يقف عند منطقة وسط ما بين الدولة القومية والأمة الإسلامية، لا بد أن يستخدم مصطلحات حيادية تخاطب “الجموع” الذين يدينون بالإٍسلام بصرف النظر عن ثقافاتهم، وينحي جانبا- بشكل تلقائي- الأوصاف التي تربط المواطن ببقعة جغرافية محددة بوشائج قانونية وسياسية وثقافية، وفي مقدمتها مفهوم المواطنة. يترتب علي ذلك أن يصبح المواطن “مسلما”، وغير المسلم “ذميا” أو “مقيما” في دولة الرسالة الإسلامية، غير معدود ضمن أفراد الأمة.
في مشروعات الدساتير الإٍسلامية شاع استخدام مصطلحي “الفرد” و “الناس” علي حساب مفهوم “المواطنة”.
ويٌعد “الفرد” مفهوما اجتماعيا مهما، يرتبط- في الأساس- بالمجتمع الحديث الذي من خصائصه الإرادة الحرة لأفراده، وتنوع الروابط المدنية التي تقوم علي عضوية الأفراد، وتراجع دور مجتمع ما قبل الدولة، وهو المجتمع الذي أعلي من شأن الروابط الامتدادية الإلزامية- من أسرة وقبيلة وعشيرة وجماعة دينية- علي حساب الروابط الاختيارية الحرة للأفراد.
وبالرغم من ذلك، فإن مفهوم “الفرد” يستخدم في هذا السياق بديلا لمفهوم “المواطن”، ليس تعبيرا عن الفرد القانوني ذي المشيئة الحرة، ولكن للإشارة إلي أحاد الناس، وهو أمر له دلالات معقدة خاصة إذا ورد في نص دستوري.
مفهوم المواطنة قانوني ودستوري، يكفل للمواطن حقوقا وواجبات. هو أساس التعاقد بين المواطن والدولة، تجسده رابطة الجنسية. أما مفهوم الفرد فهو اجتماعي يُخرج الشخص من أسر الجماعية المفرطة، ويجعله يتمتع بحقوق وحريات يكفلها له انتماؤه للأسرة الإنسانية، بوصفه “وحدة” إنسانية في ذاته. وعليه، فإن مفهوم المواطنة يرتبط بإقليم معين، أما مفهوم الفرد فهو كوني.
المواطنة ترتبط بحزمة من المفاهيم الفرعية مثل الانتماء، والولاء، والمشاركة. أما مفهوم الفرد فيرتبط بحزمة أخري من المفاهيم في مقدمتها “الخصوصية”، “التميز”، و”الشخصية”. المواطن يجب أن يكون فردا بالضرورة، ولكن ليس كل فرد مواطنا بالضرورة.
أما مصطلح “الناس” فهو يشير إلي الجمهور، أو التجمعات البشرية، ولكن بشكل هلامي، دون تحديد اصطلاحي، أو ضبط مفهومي، مما يجعله يندرج في إطار المصطلحات “الفضفاضة” التي لا يمكن التعويل عليها في نص دستوري، يتعين أن يتسم- بحكم التعريف- بدرجة عالية من الضبط. مرة أخري نري الفارق بين الاصطلاحين، الناس والمواطنين.
الناس يشير إلي الجمهور الذي يشترك في خصائص اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية معينة مثل التقاليد أو اللغة أو المذهب الديني المشترك، أما المواطنون فهم يرتبطون- رغم تنوعهم- برابطة مشتركة، تصنعها الحقوق والواجبات المشتركة، ويسهم في تعميق أواصرها خبرة التاريخ المشترك. مصطلح “الناس” يشير إلي ما هو مشترك بين مجموعة كبيرة من الأفراد، قد يكون الانتماء إلي مجتمع أو قبيلة أو جماعة دينية، لكنه لا يرتب حقوقا أو واجبات بشكل نهائي وحصري، خلافا لمفهوم المواطنة.
في مشروعات الدساتير الإسلامية- بتنوعها- يظهر المواطن مسلما، وغير المسلم هو من أهل الذمة، رغم إقرار المساواة بينه وبين المسلم في الحقوق والواجبات . في هذا المقام ينص مشروع الدستور الذي وضعه المجلس الإسلامي العالمي في (المادة 14-ب) علي أن “مواطنة الدولة الإسلامية حق لكل مسلم.
وينظم القانون ممارسة هذا الحق”. وينص كذلك علي أنه “أ- لا إكراه في الدين.
ب- الأقليات غير المسلمة لها حق ممارسة شعائرها الدينية.ج- الأحوال الشخصية للأقليات تحكمها شرائعهم، إلا إذا آثروا هم أن يتحاكموا فيها إلي شريعة الإسلام، وذلك مع مراعاة ما ينص عليه القانون” (المادة 16).
وفي مشروع الدستور الذي وضعه المستشار علي جريشة نجد أن الدولة ترتبط وجودا وعدما بخدمة الإسلام والمسلمين، ووجود غير المسلم بها يكون من باب الاستثناء، ُتقر له حقوق وواجبات المسلم، ولكن دون أن يكون له ما يتمتع به المواطن (المسلم) من حقوق في المشاركة والسلطة. وعليه، يشير المشروع الدستوري إلي أن المواطنة للمسلم، ولكن مع النص علي الامتناع عن “إيذاء الذمي أو إكراهه علي العقيدة” (المادة 9).
والتأكيد علي أن “لأهل الكتاب عقيدتهم وشعائرهم وأحكام الأسرة الخاصة بهم” (المادة 10). ويغفل مشروع دستور مجمع البحوث الإسلامية ذكر أي حديث عن المواطنة، ولمن تقرر حقوق المواطنة، وهل هناك فارق بين مسلم وغير مسلم. كل هذا لم يأت به أي ذكر.
ورغم ذلك فإنه من الواضح من مطالعة المشروع الدستوري أن مكان “الآخر الديني” غير وراد أو ينظر إليه علي أنه ذمي لا يرقي إلي مرتبة المواطن .
يظهر ذلك فيما يمكن أن نطلق عليه “تديين الوظائف السياسية والقانونية” في المجتمع، فمثلا يقسم عضو المجلس النيابي- في هذا المشروع الدستوري- قبل أن يباشر عمله اليمين الآتية: “أقسم بالله العظيم علي طاعة الله ورسوله، وأن أحافظ مخلصا علي سلامة الوطن، وترابه، وعلي القانون الدستوري، وأن أرعي مصالح الأمة واحترم الدستور والقانون، وأن أعلي أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك كله في صدق وشرف وإيمان” (المادة 87) يعني ذلك افتراض أحد أمرين:
إما أن البرلمان لابد أن يخلو من النواب غير المسلمين.
أو أن النائب غير المسلم عليه أن يعلن طاعته للرسول لبلوغ موقعه النيابي. ويتكرر النص ذاته بالنسبة لأعضاء الوزارة. إذ ينص المشروع الدستوري علي أن “يؤدي أعضاء الوزارة أمام الإمام قبل مباشرة مهام وظائفهم
اترك تعليقاً