لاشك في أن مسؤولية القضاء الجسيمة والمهام العظيمة التي يتولاها القاضي ومسؤولية حقوق الناس وإيصالها إلى مستحقيها ، تفرض على الجهات ذات العلاقة بالسلطة القضائية أن تضع شروطاً يجب أن تتوافر في من يتصدى لمنصب القضاء من إحاطته بالعلوم القانونية والشرعية وحسن سيرته وسلوكه وحياده إضافة الى شروط أخرى . وتأتي أهمية تحديد شروط اختيار القضاة من كونها تعمل على نحو فعال على تحديد صلاحية السلطة التنفيذية في اختيار من هم أصلح للقضاء ، ذلك أن ترك أمر اختيار القضاة على وفق الشروط التي تضعها السلطة التنفيذية أمر يؤدي حتماً إلى انتهاك صفة استقلال القضاء لذلك قيدت السلطة التنفيذية في ذلك من خلال الحدود القانونية التي وضعتها الدساتير أو القوانين . غير أن الأفضل من كل ذلك هو أن يوكل أمر اختيار القضاة ووضع الشروط اللازمة فيمن يتولى منصب القضاء إلى القضاة أنفسهم فهم أجدر وأقدر على اختيار زملاء لهم تتوافر فيهم الشروط الضرورية(1). وقد اشترطت القوانين شروطاً عدة يجب توافرها فيمن يمكن أن يكون قاضياً ، وقد حدد قانون التنظيم القضائي العراقي (2). وقانون المعهد القضائي العراقي (3). الشروط المطلوبة ، كما حددت هذه الشروط قوانين خاصة في معظم الدول ،وسنتناول هذه الشروط وعلى النحو الآتي :
اولا- الجنسـية
إذ تشترط هذه القوانين في القاضي أن يكون وطنياً(4). أي انه يحمل جنسية البلد الذي يتولى فيه منصب القضاء ، ويعلل الفقه ذلك بأن القاضي هو موظف عام(5). ولا يجوز أن يتولى الوظيفة العامة إلاّ الوطنيون إضافة إلى ذلك أن القضاء مظهر من مظاهر سيادة الدولة وأن القاضي هو عضو في سلطة الدولة ومن ثم ّ يجب أن يتمتع بجنسيتها(6). ويشترط قانون التنظيم القضائي في العراق المرقم 160 لسنة 1979 في القاضي [أن يكون عراقياً بالولادة ومن أبوين عراقيين بالولادة] (7) ، كما أن قانون السلطة القضائية المصري رقم 46 لسنة 1972 يشترط [ 1- أن تتوافر في القاضي الصفة الوطنية بأن يكون مصرياً بالميلاد] فإذا كان مصرياً بالتجنس فيلزم أن تكون قد مضت على اكتسابه الجنسية المصرية مدة لا تقل عن خمس سنوات ومن ثمّ لا يجوز تعيين الأجانب في منصب القضاء(8). عند توافر الصفة الوطنية فلا يهم أن يكون الوطني رجلاً أو امرأة وإن كان الأمر قد جرى على عدم تقلد المرأة منصب القضاء في الكثير من البلدان ولاسيما الإسلامية منها ، انطلاقاً من الرأي الراجح في الفقه الإسلامي من اشتراط الذكورة فيمن يتقلد القضاء ، ولا نجد مانعاً قانونياً يمنع المرأة من تولي القضاء ولاسيما مع إطلاق النصوص التي لم تشترط الذكورة فيمن يتقدم لتقلد منصب القضاء ، فضلاً عن أن القانون ينص على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ومنها تولي الوظائف العامة ولم يستثنِ القضاء ، ثم أن في الشريعة سعة من حيث وجود رأي فيها يرى تولي المرأة منصب القضاء إطلاقاً أو حصراً . وأن الكثير من البلدان الإسلامية ومنها العراق والسودان تولت فيها المرأة منصب القضاء دون تحديد في مجال معين .
ثانيا- السـن
اشترطت القوانين سناً معينة في القاضي يتحقق معها النضج الذهني ، فاشترطت أن يكون كامل الأهلية(9). وبالغاً سناً معينة . فقد اشترط قانون السلطة القضائية العراقي في القاضي [ أن لا يقل عمره عن ثلاثين سنة] في حين افترض قانون التنظيم القضائي في القاضي ان لا يقبل عمره عن ثمان وعشرين سنة (10). كما اشترط قانون السلطة القضائية المصري ألاّ يقل العمر عن ثلاثين سنة للقاضي وعن ثمانٍ وثلاثين سنة للمستشار بمحكمة استئناف وثلاثٍ وأربعين سنة للمستشار في محكمة النقض(11). على أن القانون العراقي لم يشترط سناً معينةً على من لمن يتولى منصب القضاء ، وإنما اشترط أن لا تقل خدمة من يتولى منصب رئيس محكمة التمييز عن 25 سنة ونواب الرئيس والحكام الدائميين عن 22 سنة .
ثالثاً- الاعتبـار
اشترطت القوانين أن يكون المتقدم للقضاء محمود السيرة وحسن السمعة وألاّ يكون محكوماً عليه لأمر مخل بالشرف إذ نص قانون السلطة القضائية العراقي على [3 أن لا يكون محكوماً عليه بجناية غير سياسـية أو جنحة مخلة بالشرف . 4. أن يكون محمود السيرة وحسن السمعة] (12). ثم نصت المادة 17 اولاً فقرة (ج) من قانون المعهد القضائي على (( ان لا يكون محكوماً عليه بجناية غير سياسية او جنحة مخلة بالشرف )) . ونص قانون السلطة القضائية المصري على أن يكون محمود السيرة وحسن السمعة غير محكوم عليه من محكمة أو من مجلس تأديبي لأمر مخل بالشرف ولو كان قد رد إليه اعتباره(13).
رابعاً- الثقافة القانونية
تشترط القوانين المختلفة أن يكون حاصلاً على شهادة في القانون من إحدى كليات الحقوق ، إذ يشترط قانون المعهد القضائي العراقي [ أن يكون متخرجاً في إحدى كليات القانون والسياسة ( قسم القانون ) في العراق أو كلية قانون معترف بها بشرط اجتيازه امتحاناً بالقوانين العراقية يحدد مجلس المعهد مواده وكيفية اجرائه (14). ونص قانون السلطة القضائية المصري على [ أن يكون حاصلاً في الأقل على الليسانس في إحدى كليات الحقوق بالجامعات المصرية ، أو على شهادة أجنبية معادلة لها ، وفي هذه الحالة يتعين أن يكون قد نجح في امتحان المعادلة الذي يجري تطبيقاً للقوانين واللوائح الخاصة بذلك(15).
خامساً- الخبرة القانونيـة
إذ تشترط القوانين هذه الخبرة إلاّ أنها تختلف من حيث الدرجة والمدة بحسب اختلاف المنصب القضائي الذي يتبوؤه الشخص في القضاء ، ففي مصر يعالج قانون السلطة القضائية هذه المسألة بحيث يشترط أن تتوافر في الشخص خبرة الاشتغال بالأعمال القضائية أو القانونية مدة زمنية تختلف بحسب الأحوال أي بحسب ما إذا كان من فئتي القضاة أو من رؤساء المحاكم أو من المستشارين بمحاكم الاستئناف أو مستشاراً بمحكمة النقض أو من أعضاء المحكمة الدستورية العليا . ونجد أن قانون السلطة القضائية العراقي عالج هذه المسألة من خلال اشتراط الممارسة الفعلية بعد التخرج في كلية الحقوق مدة لا تقل عن خمس سنوات في مهنة المحاكم أو العمل في دوائر الدولة القانونية المختلفة التي نص على أسمائها ، وتقل هذه المدة إلى سنتين إذا حصل المتخرج على شهادة دبلوم في القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة الإسلامية سواء كان الاشتغال قبل الحصول على الدبلوم أو بعده ، وتكون المدة سنة واحدة إذا كان المتخرج قد نال شهادة دكتوراه معترفاً بها في القانون سواء كانت الممارسة قبل حصوله عليها أو بعدها ، اما قانون المعهد القضائي فانه اشترط في المادة 7 منه / اولاً فقرة (ح) ان تكون له ممارسة لا تقل عن ثلاث سنوات في المحاماة ، او في وظيفة قضائية او قانونية في دوائر ومؤسسات الدولة الرسمية وشبه الرسمية ، ويعفى من شرط الممارسة حملة الشهادات العليا من درجة ماجستير او اعلى ، وقد اجاز القانون رقم 16 لسنة 1988 للمحامي ان يرشح لمنصب القضاء بشرط امتلاكه خبرة في عمل المحاماة لا تقل عن عشرة سنوات وان لا يتجاوز عمره عن خمسة واربعون سنة . ويبدو أن القانون العراقي لا يأخذ بمبدأ اشـتراط الخبرة أو الممارسـة للتعيين في مناصب قضائية مختلفة من حيث الدرجة ، وإنما يتسلسـل الشخص المعين في السلم الوظيفي القضائي ومهما كانت درجة خبرته ، أو كانت ممارسته تزيد على المطلوب قانوناً ، ونرى صواب توجه المشرع المصري في ذلك انطلاقاً من كون امتلاك العديد من الأشخاص خارج السلك القضائي ، خبرة طويلة في العمل القضائي تؤهلهم لولوج مهنة القضاء في مراتب وظيفية عالية منه ، لما استجمع لديهم من متراكم خبرة وممارسـة طويلة في ميدان العمل ذي الطبيعة القضائية ومن ثمّ تعين أن يتم تعيينهم في مناصب قضائية متقدمة بحسب مؤهلاتهم تلك ، خدمة للعمل القضائي وتطوره ، وتحقيقاً للعدالة .
سادساً- الكفاية البدنية
يشترط أن يكون الشخص مؤهلاً من الناحية البدنية بالاضطلاع بمسؤولية القضاء وسليماً من العاهات الظاهرة إذ نص قانون السلطة القضائية العراقي على أن على القاضي [ أن تتوافر فيه الجدارة البدنية مع الاهتمام بسلامة البدن من العاهات الظاهرة ، والمخلة بالشخصية ] والملاحظ أنه لا يوجد نص يقابل هذا النص في القانون المصري ، كذلك نص قانون المعهد القضائي على ان تتوافر فيه الجدارة البدنية واللياقة كما . ونرى أن الاضطلاع بمسؤولية القضاء تتطلب أن يكون من يجلس مجلس القضاء صحيحاً معافىً من الأمراض التي تجعل منه غير قادر على تأدية واجبات وظيفته ويحكم بين الناس بالعدل ، وحسناً فعل المشرع العراقي عندما نص على ضرورة توافر الجدارة البدنية ، في الشخص المرشح للقضاء ، إذا كان مقصوداً منها الجانب الصحي ، أما النص على سـلامة البدن من العاهات الظاهرة والمخلة بالشـخصية ، فإن ذلك كما يبدو ليس له تعلق بتحقيق العدالة في عمل القاضي ، ذلك أن الغاية من التشديد في الشروط على تولي منصب القضاء هي أن يُدفع بذلك إلى تحقيق العدالة التي هي ضالة المشرع ، وأن وجود عاهات ظاهرة لا تمنع المتصدي للقضاء من تحقيق العدالة بين الناس ولاسيما إذا وجد من يحمل الثقافة القانونية الكبيرة والعلم الواسع والخبرة في هذا المجال القانوني ، ووجدت به عاهة ظاهرة ، وواقع الحال يشهد في القضاء العراقي بوجود مثل هؤلاء الأشـخاص القادرين على تحمل عبء القضاء ، وإذا قيل أن تعيين قاضٍ سليم من العاهات ادعى لفرض هيبة القضاء واحترام الناس له ، فإن جوابه أن القاضي ذا العاهة العادل لا يوجب المسـاس بهيبة القضاء لأن مدار هيبة القضاء مع العدالة لا مع ظاهر شـكل القاضي ، إلاّ إذا كانت هذه العاهة تؤثر في حسن أداء القاضي وظيفته كما أنه يلاحظ أن اسـتخدام المشرع لعبارة ((والمخلة بالشـخصية)) غير مفهوم المراد منه وجاءت مبهمة ، ونقترح استخدام عبارة [والتي تخل بالأداء الوظيفي القضائي] . من كل ذلك نجد أن القانون كما الفقه الإسلامي اشترطا شروطاً أساسية لابد من توافرها في من يعين قاضياً كما أنهما اشترطا شروطاً كمالية فيه ، وإن كانت الشريعة أكثر دقة وعمقاً في تحديد هذه الشروط ، التي شكلت الأساس في اختيار القضاة وتقلدهم منصب القضاء ومن ثمّ النأي بهم عن أي تأثير أو مساس بعملهم أو شخصهم القاضي وضمان استقلالهم ، لذلك فهي تشكل أمراً أساسياً في إقرار ضماناتهم القاضي .
____________________
– محمد العشماوي و د.عبد الوهاب العشماوي ، قواعد المرافعات ، المطبعة النموذجية، 1957، ص140 .
2- قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 .
3- قانون المعهد القضائي رقم 33 لسنة 1976 المعدل .
4- ضياء شيت خطاب ، محاضرات في مبادئ التنظيم القضائي في العراق ، 1968 ، ص47 . وكتابه الوجيز في شرح قانون المرافعات المدنية ، مطبعة العاني ، بغداد 1973 ، ص55 . و د. أمينة مصطفى النمر ، قوانين المرافعات ، الكتاب الأول ، منشأة المعارف ، الإسكندرية 1982 ، ص 97 .
5- سوليس وبيرو ، ج1 ، بند 724 ، ص634 ، عن د. فتحي والي ، الوسيط في قانون القضاء المدني ، دار النهضة العربية ، 1987 ، ص158 .
6- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص158 .
7- المادة 36 من قانون التنظيم القضائي العراقي . كذلك نصت المادة 7 من قانون المعهد القضائي على ذلك.
8- د. أمينة مصطفى ، المصدر السابق ، ص97-98 .
9- اشترط المشرع العراقي في المادة 36/ أولاً من قانون التنظيم القضائي العراقي رقم 160 لسنة 1979 في من يعين قاضياً أن يكون متزوجاً ويبدو أن المشرع عد ذلك من عوامل النضج وكمال الأهلية ، كذلك نصت عليه المادة 17 من قانون المعهد القضائي .
0- ضياء شيت خطاب ، المصدر السابق ، ص55 .
1- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص 158 .
2- ضياء شيت خطاب ، المصدر السابق ، ص48 .
3- محمد العشماوي ، المصدر السابق ، ص141 ، و د. أمينة مصطفى ، المصدر السابق ، ص158 .
4- المادة 7 / 1ولاً فقرة (و) من قانون المعهد القضائي ، كما اشترط المشرع في المادة 36 أولاً من قانون التنظيم القضائي ، في من يعين قاضياً أن يكون [متخرجاً في المعهد القضائي] .
5- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص158 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً