وظائف القضاء الدستوري في دولة القانون
المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تعد رقابة القضاء الدستوري الضمان الحقيقي لنفاذ القاعدة الدستورية ، فالقضاء الدستوري هو الحارس الأمين لبوابة الشرعية في دولة القانون ، وهو الحامي للنظام الديمقراطي وسيادة الدستور ، وهو الضمانة الكبرى لحماية حقوق الافراد وحرياتهم وعدم الافتئات عليها من قبل السلطات الحاكمة . وعليه فان أهم وظائف القضاء الدستوري في دولة القانون ، هي :
أولاً : حماية مبدأ المشروعية .
مبدأ المشروعية يدعو إلى ضرورة احترام القواعد القانونية القائمة ، وذلك بان تكون جميع تصرفات السلطات العامة في الدولة متفقة وأحكام القانون بمدلوله العام ، سواء أكانت هذه السلطات تشريعية أم تنفيذية أم قضائية . ووفقاً لهذا المبدأ ، يعتبر الدستور أساساً للشرعية في الدولة وقمتها ، فهو أصل كل نشاط قانوني يمارس داخل الدولة ، لذلك فهو يعلو على هذه الأنشطة جميعاً ، وهو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها النظام القانوني ، وما دام هو الذي ينشئ السلطات العامة وينظم اختصاصاتها ، فلابد أن يعلو عليها . ولابد ايضاً أن يقرر أن أي عمل يصدر عن أي من السلطات العامة ليست له أية قيمة قانونية إذا كان خارجاً عن الإطار الدستوري المنظم لهذه السلطة (1).
وان مبدأ المشروعية بإخضاعه الحكام والمحكومين للقانون ، إنما يمثل في الواقع ضمانة مهمة لحقوق وحريات الافراد ، إذ ان هذا المبدأ يلزم السلطات كافة في الدولة – وبصفة خاصة السلطتين التنفيذية والتشريعية – بمراعاة الدستور في تصرفاتها كافة ، بحيث انه إذا لم تلتزم هاتان السلطتان بالقواعد الدستورية واعتدت على حقوق وحريات الأفراد ، هنا تأتي الرقابة القضائية لتحمي حقوق وحريات الأفراد ، إذ يستطيع هؤلاء الأفراد اللجوء للقضاء ، لإزالة هذا الاعتداء من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وبصفة خاصة القضاء الدستوري، إذ ان ” الرقابة على دستورية القوانين هي المظهر الحقيقي لحماية الشرعية ، فهي التي تكفل تقييد السلطات العامة بقواعد القانون ” (2).
فالرقابة على دستورية القوانين بوجه عام هي الوسيلة لكشف مخالفة التشريعات للدستور أو عدم مخالفتها له ، وهي بذلك تتصف بأهمية كبيرة في إقامة البناء القانوني وتوكيد الشرعية الدستورية . إذ أن مبدأ المشروعية يصبح عديم القيمة وفارغاً من أي مضمون ما لم يتقرر جزاء على مخالفات سلطات الدولة المختلفة للقانون (3).
وهذا الجزاء إنما يكون بواسطة هيئة قضائية يتعين أن يتوفر لها كل ضمانات الاستقلال(4). نخلص من ذلك أن مبدأ المشروعية الذي يعد عنصراً من عناصر دولة القانون ، لا ينتج أثره ولا يحقق فاعليته إلا بوجود قضاء دستوري – الذي يعد صمام الأمان في الدولة – يضمن حماية القواعد القانونية المقيدة للسلطات العامة والمحددة لنشاطها . ذلك انه برقابة هذا القضاء تصبح القواعد القانونية قيداً حقيقياً على السلطات العامة ، بحيث إذا ما خولفت تلك القواعد ، أمكن للقضاء ردها إلى جادة الصواب ووضع الأمر في نصابه الصحيح ، وبهذه الوسيلة تسلم القواعد القانونية من محاولة العبث بأحكامها ويستقيم النظام القانوني في الدولة . ونصل بذلك إلى حماية حقوق الافراد وحرياتهم . فتترجم بالنهاية فكرة دولة القانون على ارض الواقع (5).
ثانياً : حماية النظام الديمقراطي .
ان القول بان الهيئة التشريعية قد تأتي احياناً بتصرفات استبدادية أو انها توافق على قوانين منافية للحرية ، قد يبدو غريباً للوهلة الأولى . ولكننا إذا انتقلنا بنظرنا إلى الناحية الواقعية العملية يتبين لنا من الشواهد ما يثبت صحة هذا القول . فالواقع اننا نجد في الدول الديمقراطية أن الأغلبية البرلمانية (أي حزب الأغلبية) هي التي تحكم ، ومعلوم أن النزعة الحزبية لدى الأغلبية كثيراً ما تنتهي بأصحابها إلى إتيان أعمال استبدادية لسحق المعارضة ، ثم أن تلك الأغلبية ذاتها (التي تقوم بمهمة الحكم) انما تخضع في الواقع لعدد ضئيل من الزعماء ، أو لسلطان عدد صغير من أصحاب النفوذ الكبير ، وهنالك دول – كما يقول الفقيه Jeze – نجد أن برلماناتها قد خضعت لزعيم دكتاتور ، إلى حد اننا نجد القانون لا يعبر في الواقع عن إرادة أغلبية النواب ، ” وإنما يعبر عن إرادة الزعيم الدكتاتور ” (6).
وما دام الأمر قد انحصر في عدد محدود من الأرادات الفردية ، فلا يمكن الحديث إلا عن الطبيعة البشرية ونزعتها إلى الاستبداد بالسلطة ، ويقول Gefferson في ذلك : “ إن الثقة بنواب الأمة تكون وهماً خطيراً إذا كانت ستسكت مخاوفنا على حقوقنا ، وقد أثبتت الثقة في كل مكان أنها قرينة الاستبداد ، فيجب إلا تبنى الحكومة الديمقراطية على تلك الثقة ، وإنما على الشك والحذر . فلنتجنب في مسائل الحكم والسياسة كل حديث عن الثقة بالإنسان ، ولنعمل بدلاً من ذلك على تقييده بالدستور ” (7). فما هو ذلك القيد الذي يمكن أن يقيد السلطة التشريعية بالدستور ، وما هو هذا الضمان الذي يمنع هذه السلطة من الاستبداد ومن أن تكون هي دكتاتورية برلمانية ؟ إن ذلك يكمن في الرقابة الفعالة على دستورية القوانين لاسيما الرقابة القضائية ، فهي التي تقف بالمرصاد للمشرع وتراقبه وتضعه في إطاره المحدود ، وهي ضمان مهم للحيلولة دون استبداده (8).
ان سيادة البرلمان البعيدة عن الرقابة الدستورية فكرة بالغة الخطورة ، إذ لا يمكن أن ننسى ان النظام النازي انشئ وفقا لإجراءات مطابقة للدستور ، وان البرلمان الالماني هو الذي أوقف الحريات . ومع ذلك ، فإن مهمة القضاء الدستوري لا تهدف إلى التقليل من سيادة البرلمان ، وإنما تهدف إلى التحقق من أنه كان يعمل في النطاق الذي سمح به الدستور ، وأن كلمة الشعب صاحب السيادة عبر عنها نوابه أصدق تعبير وذلك في ظل دولة القانون (9).
ثالثاً : ضمان احترام الحقوق والحريات العامة .
ليس كافيا ، لضمان حقوق وحريات الفرد أن يعترف بها اعترافا رسمياً أو نظريا فحسب ، ذلك أن إعلانات الحقوق والدساتير المقررة للحقوق والحريات العامة ، تكملها التشريعات التي تتولى وضع القواعد التنفيذية للنصوص الدستورية المقررة للحق أو الحرية . اما الأنظمة التي تقتصر على الإعلان الشكلي عن وجود حقوق وحريات فردية للمواطن ، من دون ان تتولى التشريعات تنفيذ هذا الإقرار الدستوري بكفالة هذه الحقوق والحريات ، انما هي أنظمة تعجز عن تحقيق تمتع المواطن بحقوقه وحرياته الفردية (10).
ويتكون النظام القانوني للحريات العامة من مراتب ثلاث من النصوص القانونية :
1-النصوص الدستورية : وهي التي ترسي مبادئ الحقوق والحريات الفردية ، وتقررها على نحو يكفل تمتع الافراد بها في دولة القانون .
2-النصوص القانونية : وهذه تنفذ النصوص الدستورية وتتطابق معها في مضمونها . والأصل إلا يخرج دورها عن الدور المنفذ لإرادة السلطة التأسيسية القائمة بوضع الدستور. وهو ما يتبدى في تكملة النصوص الدستورية بوضع بعض الإجراءات المنظمة لممارسة الافراد لحرياتهم وحقوقهم في المجتمع ، مع كفالة هذه الحريات في حدودها المقررة دستورياً .
3-النصوص اللائحية : وهذه تضعها الإدارة من اجل تحقيق أغراض الضبط الإداري . وهذه النصوص تفرض قيوداً على ممارسة الافراد لحرياتهم من أجل تحقيق النظام العام والحفاظ على الصحة العامة والسكينة العامة . إلا ان هذه الأعمال الإدارية ليست صالحة إلا إذا أمتثلت للقوانين ، وهذه بدورها تفقد صحتها ، إذا لم تتطابق مع الدستور الذي يغدو هكذا الضابط الأساسي .
ومن جماع هذا الشمل من النصوص القانونية ، يتألف النظام القانوني للحقوق والحريات العامة في النظام الدستوري .(11) وجدير بالذكر ، ان وجود هذه القواعد القانونية ، يفترض ابتداء قيام دولة القانون وهي الدولة التي تتقيد بجميع مظاهر نشاطها بحكم القانون . فقيام دولة القانون هو شرط لا غنى عنه لقيام الحرية في أي مجتمع وضروري لممارسة هذه الحرية بصورة تكفل تمتع الافراد بها .(12)
والمشكلة تثور عندما يمارس البرلمان سلطته التشريعية ليرسي القواعد القانونية المنفذة لإرادة السلطة التأسيسية والمكملة للنصوص الدستورية فإذا به لا ينفذ إرادة تلك السلطة ، ويخالف هذه النصوص . كذلك تثور المشكلة ، حينما ينظم الدستور حرية من الحريات أو حقاً من الحقوق العامة ، ويعطى للمشرع (البرلمان) السلطة التقديرية للتدخل ، بتنظيم كيفية ممارسة هذا الحق وطرائق استخدام تلك الحرية ، فإذا خرج البرلمان عن الحدود الدستورية ، وأورد قيوداً على الحق أو الحرية تحول دون التمتع بها ، أو على الاقل تجعل ممارستها امراً يشق على المواطنين ، فانه بذلك يفرغ النص الدستوري الكافل للحرية من محتواه .(13)
ومن هنا نشأت الحاجة إلى حماية حقوق الافراد وحرياتهم في مواجهة التشريع . وكان القضاء الدستوري هو الضمانة الفعلية الكبرى لحماية هذه الحقوق والحريات وعدم الافتئات عليها من قبل السلطات الحاكمة . وقد أثبتت التجارب ان أية رقابة على دستورية القوانين لا يسهم فيها المواطن إلى جانب الأجهزة السياسية أو القضائية تخرج عن نطاق الشرعية الديمقراطية المكلفة بمنع الاعتداء على الحقوق والحريات العامة المقدسة للفرد بواسطة ما تصدره السلطة التشريعية من قوانين غير دستورية ، كما يخل ذلك بمبدأ التوازن المستهدف تحقيقه فيما بين السلطة والحرية في المجتمع . وهو ما يهدد هذا الاخير بالانهيار .(14)
وإذا كانت الرقابة القضائية على دستورية التشريعات ضمانة مهمة لحماية حريات الافراد في الظروف العادية فانها ضرورة حتمية لحماية هذه الحريات في الأوقات الاستثنائية التي تسود فيها إرادة الإدارة ، ويفسح امامها المجال للاستبداد ، ومهما تكن الظروف الاستثنائية التي تمر بها الدولة فانه ينبغي إلا تتخذ من هذه الظروف ذريعة للعصف بكيان النظام الدستوري أو النظام القانوني لها .(15)
وليس هذا كلاماً نظرياً بل ان التجارب التي مرت بها الدول الآخذة بالرقابة القضائية على دستورية القوانين تؤكد ان القضاء الدستوري – سواء كان متخصصاً أم غير متخصص – قد أدى ولا يزال يؤدي دوراً حيويا في حماية الحقوق والحريات العامة للافراد . ففي الولايات المتحدة الأمريكية ، أدت المحكمة الاتحادية العليا – قضاء دستوري غير متخصص – دوراً بارزاً في حماية حقوق الملونين وتحقيق مبدأ المساواة . كما كان القضاء الدستوري المصري خير سياج للحريات والحقوق العامة للافراد ، كما أثر تأثيراً ايجابياً من خلال أحكامه الدستورية على جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر .
_________________
1- انظر د. عبد العزيز محمد سالمان ، رقابة دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 134.
2- حكم المحكمة العليا في الدعوى رقم 11 لسنة 5 قضائية عليا دستورية ، جلسة 3 أبريل 1976 ، مجموعة أحكام وقرارات المحكمة العليا ، ج1 ، ص 442.
3- انظر د. كريم يوسف أحمد كشاكش ، الحريات العامة في الأنظمة الدستورية المعاصرة ، مرجع سابق ، ص 425.
4- انظر د. عبد الحميد متولي ، الحريات العامة – نظرات في تطورها وضماناتها ومستقبلها – ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1975 ، ص 91.
5- انظر د. فاروق عبد البر، دور المحكمة الدستورية المصرية في حماية الحقوق والحريات، مرجع سابق ، ص 166.
6- انظر جيز Jeze : المبادئ العامة للقانون الاداري ، ط3 ، باريس ، 1930 . نقلاً عن د. عبد الحميد متولي ، الحريات العامة ، مرجع سابق ، ص 93 هامش (1).
7- انظر د. علي السيد الباز ، الرقابة على دستورية القوانين في مصر ، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق – جامعة الاسكندرية – ، 1978 ، ص 708 هامش (2) .
8- انظر د. عبد العزيز محمد سالمان ، رقابة دستورية القوانين ، مرجع سابق ، ص 141.
9- انظر د. أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، ط 2 ، دار الشروق، القاهرة، 2000 ، ص158.
10- انظر د. وجدي ثابت غبريال ، حماية الحرية في مواجهة التشريع ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1989 – 1990 ، ص 9.
11- انظر المرجع السابق نفسه ، ص 10.
12- انظر د. شحاته ابو زيد شحاته ، مبدأ المساواة في الدساتير العربية ، مرجع سابق ، ص 475.
13- انظر د. وجدي ثابت غبريال ، حماية الحرية في مواجهة التشريع ، مرجع سابق ، ص 13.
14- انظر د. كريم يوسف احمد كشاكش ، الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة ، مرجع سابق ، ص ص 300 – 301.
15- انظر د. سعد عصفور ، رقابة القضاء وضرورة حماية الفرد في الدولة الحديثة ، مجلة المحاماة ، العددان الثامن والتاسع ، السنة 51 ، أكتوبر ونوفمبر 1971 ، ص 135.
اترك تعليقاً