لا تقل أهمية التبليغات القضائية في نظرية الدفوع عن تلك الأهمية التي تحتلها في نظريتي الدعوى والمرافعة، إذ تشكل التبليغات فيها عنصراً مهماً من عناصرها الرئيسية بحيث يترتب على قبول الدفع المتعلق بالتبليغات، دفع الدعوى المقامة إما كلاً أو جزءاً. بدءاً لابد من معرفة معنى الدفوع، ومن ثم أنواعها ومدى تعلقها بالنظام العام لكي يتسنى لنا بعدها من معرفة النوع الذي تندرج تحتها الدفوع المتعلقة بالتبليغات القضائية. لقد عرف المشرع العراقي(1). الدفع بأنه، الاتيان بدعوى من جانب المدعى عليه ومن شأن هذه الدعوى أن تدفع دعوى المدعي وتستلزم ردها إما كلاً أو جزءاً إذا أنصب على جزء من الدعوى. في حين عرفها المشرع اللبناني(2). بأنه كل سبب يرمي به الخصم إلى رد طلب خصمه وذلك لعدم صحته بعد بحث الحق في الموضوع. والدفوع تمثل الوجه الآخر للمطالبة القضائية، فكما أن المشرع قد رسم طريقاً للمدعي في المطالبة بحقوقه وذلك عن طريق إقامة الدعوى على خصمه، فانه في الوقت نفسه قد وفر ضمانات كافية للمدعى عليه والتي من خلالها يتمكن من الرد على طلبات خصمه وهذا بلا شك موازنة عادلة ما بين طرفي الدعوى، والدفوع بهذا المعنى هو تعبير عن موقف سلبي من جانب المدعى عليه ومعنى ذلك أن الأخير يقصد من وراء الدفوع تفادي صدور حكم ضده لصالح المدعي دون المطالبة بحقوق له في الدعوى. ونظراً لأهمية دور الدفوع نجد أن المشرع(3). يوجب أن يراعى في الدفع ما يراعى في الدعوى من أحكام، ومثال ذلك أن يكون للمدعى عليه مصلحة من وراء دفعه الذي يتمسك به، حيث لا عبرة بالدفوع الكيدية والتي لا يكون غرضها سوى إطالة أمد الدعوى، فكما أن للدعوى سبب يسعى إليه المدعي فكذا الأمر بالنسبة للمدعى عليه فيما يتعلق بالدفوع. تنقسم الدفوع إلى عدة أنواع، فهناك الدفوع الموضوعية والدفع بعدم القبول والدفوع الشكلية، أما الدفوع الموضوعية فهي تلك التي تتعلق بموضوع الدعوى، حيث ينازع بها الخصم في الحق المدعى به، مثال ذلك الدفع بانقضاء الدين بالوفاء وهذه الدفوع كثيرة لا تقع تحت حصر(4). في حين أن الدفع بعدم القبول هو الذي يتقدم به المدعى عليه منازعاً بأن ليس للمدعي الحق في رفع دعواه أو في عدم توافر الشروط القانونية اللازمة لقبول الدعوى وهي الأهلية والمصلحة والخصومة، بمعنى آخر أن هذا الدفع موجه بالدرجة الأولى إلى الوسيلة التي يحمي بها صاحب الحق حقه(5).
يبقى القول أن الدفوع الشكلية، هي تلك الدفوع التي توجه إلى إجراءات رفع الدعوى أو التي توجه إلى اختصاص المحكمة وذلك دون التعرض لذات أو أصل الحق المدعى به أو إلى الوسيلة التي يحمي بها المدعى حقه(6). .والدفوع الشكلية تنقسم بدورها إلى نوعين، فمنها ما يلزم التقدم بها قبل أي دفع أو طلب آخر وإلا سقط الحق فيه، وهو ما يطلق عليه بالدفوع الشكلية النسبية، أما النوع الآخر فيمكن التقدم به في كل أدوار الدعوى أو في أية مرحلة من مراحلها، وهو ما يطلق عليه بالدفوع الشكلية المطلقة. إن السبب في تفاوت الأوقات التي يمكن التقدم بها في كل من الدفوع الشكلية النسبية والمطلقة هي أن الأولى مقررة بالأساس لمصلحة الخصوم مما يعني عدم إفساح المجال أمام محاولات المماطلة والتسويف بحيث أن الخصوم ملزمين بسقف زمني محدد لإبداء تلك الدفوع وإلا سقط حقهم في ذلك، على عكس النوع الثاني من الدفوع الشكلية والتي تتعلق بالنظام العام بحيث يترتب عليه إمكانية أثارته في كل أدوار الدعوى، فضلاً عن كون القاضي ملزماً باثارته من تلقاء نفسه وإن لم يتمسك به الخصوم.
والسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد، تحت أي نوع من هذه الدفوع يمكن التمسك ببطلان التبليغات القضائية والأوراق المتعلقة بها والسبب الذي جعله ضمن ذلك النوع؟ بالرجوع إلى الأحكام العامة التي تنظم الدفوع، نجد أن الدفع ببطلان التبليغات القضائية لايمكن أن يأتي تحت الدفوع الموضوعية، حيث لايتعلق الأمر بأصل الحق المتنازع فيه ولا بموضوع الدعوى، كما لا يمكن إدراج هذا النوع من الدفوع ضمن الدفع بعدم القبول وذلك لكون المسألة لا تتعلق بحق المدعي في رفع دعواه أو الوسيلة التي بموجبها يحمي ذلك الخصم حقه. إذن، هذا النوع لا يمكن إلا أن يندرج تحت الدفوع الشكلية والتي تنصب على إجراءات رفع الدعوى، ولكن هل يأتي ضمن الدفوع الشكلية النسبية أم المطلقة؟ إن التبليغات القضائية –وكما هو معلوم- هي بالأساس مقررة لمصلحة الخصوم، وذلك لأنها تسعى إلى تحقيق ضمانات كافية لهم، إذ بدون هذه التبليغات لاتتحقق المواجهة ومن ثم تنتفي أحد الركائز الأساسية في عملية التقاضي، فأي انتقاص من هذه التبليغات هو انتقاص لحقوق الخصوم .عليه، فان الدفع ببطلان التبليغات القضائية والأمور المتعلقة بها، يأتي ضمن الدفوع الشكلية النسبية، والتي يلزم التقدم بها قبل أي دفع أو طلب آخر وإلا سقط الحق فيه. وقد أوجب المشرع العراقي(7). على الخصم الذي لديه دفع يتعلق ببطلان التبليغات وذلك من حيث بطلان تبليغ عريضة الدعوى أو الأوراق المتعلقة بها، بضرورة التقدم بهذا الدفع قبل أي دفع آخر يكون لديه وفي هذه الحالة تفصل المحكمة فيه قبل التعرض لموضوع الدعوى.
ووفقاً للمادة (27) من قانون المرافعات العراقي فان الخصم عندما يطعن ببطلان التبليغات، فإنما يقصد به ذلك التبليغ الذي يشوبه عيب أو نقص جوهري يخل بصحته أو يفوت الغاية من تلك التبليغات. يبدو جلياً أن موقف المشرع العراقي من إلزام الخصم بوجوب التقدم بالدفع المتعلق ببطلان التبليغات قبل أي دفع آخر ينبع من حكمة مفادها عدم السماح للخصم باللجوء إلى هذا الدفع في أي وقت يشاء، بحيث قد يقضي على أشواط قد قطعتها المحكمة في سبيل حسم الدعوى وما لذلك من جوانب سلبية على تلك الدعوى. كما يتوجب على الخصم –فضلاً عن ذلك- إبداء الدفع المتعلق ببطلان تبليغ عريضة الدعوى والأوراق الأخرى في عريضة الاعتراض أو الاستئناف وإلا سقط حقه في ذلك(8).وتطبيقاً لذلك قضت محكمة استئناف منطقة نينوى بصفتها التمييزية(9). “لدى التدقيق والمداولة وجد أن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية، ولدى النظر فيه وجد أنه انصب على إجراءات التبليغ في المرافعة الغيابية وأن اليوم المعين للمرافعة يقل مدته عن ثلاثة أيام من تاريخ تبليغه، وحيث يجب إبداء هذا الدفع في عريضة الاعتراض وإلا سقط الحق فيه عملاً بأحكام المادة (73/2) من قانون المرافعات المدنية، وحيث لا يجوز إحداث دفع جديد ولا إيراد أدلة جديدة أمام المحكمة المختصة بنظر الطعن تمييزاً كما تقضي بذلك المادة (209/3) من القانون المذكور. لذا يكون الطعن التمييزي غير مشتمل على أسبابه عليه قرر رده عملاً بأحكام المادة (210/1) من القانون سالف الذكر وتحميل المميز رسم التمييز …“.ورغبة من المشرع العراقي في الحد من آثار الإجراءات الباطلة في العمل القضائي ومنها التبليغات القضائية، نجد أنه يتخذ من وسيلة التصحيح كأسلوب للحد من التمسك بالبطلان وما لذلك من آثار قد تعرقل سير الدعوى(10).عليه فقد اعتبر المشرع أن الدفع ببطلان التبليغات القضائية يزول وذلك إذا حضر المطلوب تبليغه أو من يقوم مقامه في اليوم المحدد لنظر الدعوى(11).تجدر الإشارة أنه في حال تعدد المدعى عليهم فان حضور أحدهم لا يكون بالضرورة موجباً لتصحيح بطلان إعلان (تبليغ) غيره من المدعى عليهم، وذلك لأن بطلان الأوراق القضائية لعيب في الإعلان (التبليغ) لايعدو كونه بطلاناً نسبياً، لا يزول إلا بحضور كل من وقع البطلان في حقه، عليه لايجوز لمن زال البطلان بحضوره أن يتمسك ببطلان إعلان (تبليغ) غيره من الخصوم(12).
أن ما ذهب إليه المشرع العراقي فيما يتعلق بالتبليغات في موضوع الدفوع كان سليماً سواء في ذلك إلزام الخصوم بوجوب التقدم بدفوعهم الخاصة بالتبليغات قبل التقدم بأي دفع آخر، أو سواء الحد من اللجوء إلى الدفع ببطلان التبليغات القضائية من خلال وضع المعايير المناسبة للتقليل من حالة بطلان التبليغات. إن الدفوع الشكلية النسبية وان كانت تحتم على الخصوم وجوب التقيد بالمهلة الزمنية المحددة لإبدائها وإلا سقط حقهم في التمسك بذلك على اعتبار أن هذه الدفوع هي مقررة بالأساس لمصلحة الخصوم، إلا أن الأمر مختلف تماماً فيما يتعلق بالدفوع الشكلية المطلقة(13). والتي يمكن التمسك بها في كل أدوار نظر الدعوى لكونها تتعلق بالصالح العام فالقاضي ملزم بأثارته وان لم يتمسك به الخصوم. والتساؤل الذي قد يثار بهذا الصدد عن الحل مثلاً فيما لو تم التمسك بدفع مفاده عدم اختصاص المحكمة النوعي (القيمي) أو الوظيفي (الولائي)؟ فضلاً عن الدور الذي يمكن أن تحتله التبليغات في هذه المرحلة؟ لقد أجابت المادة (78) من قانون المرافعات العراقي على هذا التساؤل بقولها: “اذا قضت المحكمة بعدم اختصاصها القيمي أو الوظيفي أو النوعي أو المكاني وجب عليها أن تحيل الدعوى إلى المحكمة المختصة مع الاحتفاظ بما دفع من رسوم قضائية، وتبلغ الطرفين أو الحاضر منهما بمراجعة المحكمة المحالة عليها الدعوى في موعد تعينه على أن لا يتجاوز خمسة عشر يوماً من تاريخ الإحالة، فاذا لم يحضر أو لم يحضر المبلغ منهما أمام تلك المحكمة في الموعد المعين، فتطبق أحكام المادة (54) من هذا القانون“. يتضح من نص هذه المادة أن المحكمة من جملة ما تتأكد منه هي مسألة مدى صلاحيتها في نظر الدعوى المعروضة عليها، إذ توجد حالات تمتنع فيها المحاكم من التصدي لدعاوى معينة وذلك لكون هذه الدعاوى تخرج عن حدود اختصاصها الوظيفي أو النوعي أو حتى المكاني، ففي هذه الحالات ما عليها سوى اتباع آلية معينة متمثلة في الإحالة على المحكمة المختصة مع الاحتفاظ برسوم الدعوى المقدمة إليها وتبليغ الأطراف أو الطرف الحاضر بضرورة مراجعة المحكمة المختصة خلال مدة معينة. من هنا تظهر أهمية التبليغات، إذ يتوجب على المحكمة المحيلة أن تبلغ الأطراف أو الحاضر منهما بقرار الإحالة وذلك ليتسنى لهم من مراجعة المحكمة المختصة بذلك، وأن أي تقاعس في تبليغ الأطراف في هذه المرحلة يوجب نقض القرار،
وتطبيقاً لذلك فقد جاء في قرار لمحكمة استئناف بغداد بصفتها التمييزية(14).: “لدى التدقيق والمداولة وجد أن الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية فقرر قبوله شكلاً ولدى عطف النظر على القرار المميز المؤرخ 14/7/1989 وجد أنه مخالف لأحكام المادة (78) من قانون المرافعات المدنية التي تنص: “إذا قضت المحكمة بعدم اختصاصها القيمي أو الوظيفي أو النوعي أو المكاني وجب عليها أن تحيل الدعوى إلى المحكمة المختصة مع الاحتفاظ بما دفع من رسوم قضائية وتبلغ الطرفين بمراجعة المحكمة المحالة عليها الدعوى في موعد تعينه على أن لا يتجاوز خمسة عشر يوماً من تاريخ الإحالة….” ذلك أن المحكمة الإدارية في ديالى قررت في 22/2/1988 إحالة الدعوى إلى محكمة بداءة خانقين نظراً لإلغاء المحاكم الإدارية دون أن تبلغ أطراف الدعوى بذلك رغم حضورهم الجلسة التي سبقت الإحالة فيكون قرارها هذا مخالفاً لأحكام المادة أعلاه، وتكون الإجراءات التي تلت هذا القرار مخالفة هي الأخرى للقانون لأن المحكمة المميز قرارها لم تتأكد من إتمام التبليغات وفق ما تنص عليه المادة (51) من قانون المرافعات المدنية، عليه قرر نقض القرار المميز وإعادة الإضبارة إلى محكمتها للسير فيها ….”.أن المادة (78) من قانون المرافعات قد تؤخر حسم الدعوى لفترة ليست بالقصيرة، لاسيما أن هذه المادة قد أوجبت على المحكمة المحيلة بضرورة إبلاغ الأطراف بمراجعة المحكمة المحالة عليها الدعوى خلال مدة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً، وفي حالة غياب الأطراف أو الطرف المبلغ فان أحكام المادة (54) هي التي تطبق، وكما هو معلوم فان هذه المادة تمنح مهلاً من أجل تجاوز حالة غياب الأطراف، فازاء هذا الأمر وأمام تراكم الدعاوى، فان الحاجة تدعو إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة أمام حالة الغياب، فاذا ما تمت التبليغات على النحو المقرر فلم يعد هناك ذريعة أمام الخصوم لعدم حضور المرافعة في اليوم المحدد، فالأمر يتطلب عدم الإفراط في منح المهل للخصوم مما قد يأخذ وقتاً طويلاً لحسم تلك الدعاوى. من اجل ذلك نقترح إعادة صياغة المادة (78) من قانون المرافعات لتكون على النحو الآتي: (“إذا قضت المحكمة بعدم اختصاصها القيمي أو الوظيفي أو النوعي أو المكاني، وجب عليها أن تحيل الدعوى إلى المحكمة المختصة مع الاحتفاظ بما دفع من رسوم قضائية وتبلغ الطرفين أو الحاضر منهما بمراجعة المحكمة المحالة عليها الدعوى في موعد أقصاه لا يتجاوز خمسة عشر يوماً من تاريخ الإحالة، فإذا مضت المدة المذكورة ولم يراجع الطرفان أو الطرف المبلغ منهما عندها تسقط تلك الدعوى ولا يجوز تجديدها“.)
__________________________________________
1- راجع الفقرة (1) من المادة (8) مرافعات عراقي.
2- راجع المادة (50) أصول لبناني.
3- راجع الفقرة (2) من المادة (8) مرافعات عراقي.
4- د. مفلح عواد القضاة، مصدر سابق، ص258.
5- أستاذنا د. عباس العبودي، شرح أحكام المرافعات، مصدر سابق، ص306.
6- د. آدم النداوي، المرافعات المدنية، مصدر سابق، ص212.
7- راجع الفقرة (1) من المادة (73) مرافعات عراقي. والى نفس الاتجاه ذهبت المادة (108) مرافعات مصري، والمادة (53) أصول لبناني، والفقرة (1) من المادة (110) أصول أردني.
8- راجع الفقرة (2) من المادة (73) مرافعات عراقي.
9- القرار التمييزي المرقم 446/ت.ب/2002 في 12/11/2002، غير منشور.
10- لم ينظم المشرع العراقي نظرية متكاملة للبطلان أسوة بباقي التشريعات، بل جاءت أحكام البطلان متناثرة في ثنايا قانون المرافعات، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة اتخاذ خطوة مهمة لتنظيم هذا الموضوع، ويعد التصحيح للعمل الباطل ومنها التبليغات القضائية أمراً جديراً بالاهتمام ويمكن تصحيح بطلان التبليغات بشكل يتناسب وأهمية هذا الموضوع.
للمزيد من التفصيل راجع ص ( ) من هذه الأطروحة.
11- راجع الفقرة (3) من المادة (73) مرافعات عراقي.
12- راجع: د. نبيل إسماعيل عمر، إعلان الأوراق القضائية، مصدر سابق، ص241. د. مفلح عواد القضاة، مصدر سابق، ص261-262.
13- راجع المادة (77) مرافعات عراقي.
14- القرار التمييزي المرقم 253/مستعجل/89 في 24/8/1989، أشار إليه مدحت المحمود، مصدر سابق، ج1، ص136، هامش (2).
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً