مقال يوضح العلاقة بين السياسة الجنائية والجريمة
إن نجاح السياسة الجنائية التي تتبعها أجهزة الدولة المختلفة بهدف مكافحة الظاهرة الإجرامية يعد أحد العوامل التي يمكن أن تؤثر على تلك الأخيرة في كمها ونوعها [17].
ومن المعلوم أن ل لسياسة الجنائية درجات ثلاث ، تبدأ بالمستوى التشريعي حال إعداد القاعدة الجنائية في شقيها الموضوعي المتعلق بالتجريم والعقاب والإجرائي المتعلق بإجراءات الضبط والتحقيق والمحاكمة ، مروراً بمرحلة التطبيق القضائي لتلك ال قاعدة الجنائية ، وانتهاءً بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية .
و قد تخفق السياسة الجنائية التى تضعها الدولة ل مكافحة الجريمة في أي مرحلة من تلك المراحل ، أي الفشل حال إعداد القوانين الجنائية التى تسنها السلطة التشريعية ، أو الفشل في تطبيق تلك القوانين من قبل السلطة القضائية ، أو الإخفاق في تنفيذ ما عسى تقضي به هذه الأخيرة من جزاءات بالطرق التي تقتضيها المعاملة العقابية السليمة.
فعلى المستوى التشريعي ، وبعيداً عن أي إخفاق ، قد يتدخل المشرع باستحداث تجريمات جديدة لم تكن معروفة من قبل ، مما يؤدي بالضرورة إلى وجود حالات انتهاك ترفع بدورها من المعدل العام للإجرام. ويظهر هذا على وجه الخصوص في الكثير من القوانين الاستثنائية المنظمة للتعامل في النقد أو الاستيراد والتصدير أو توزيع السلع التموينية.
غير أن السياسة الجنائية على المستوى التشريعي قد يصيبها العوار ، يحدث ذلك حينما تفتقر القوانين الجنائية ( قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ) إلى الأسس العلمية ، كأن لا يسبقها دراسات كافية اجتماعية وقانونية وعدم عرضها على الجمهور والمتخصصين لإبداء الرأي ، فتأتي هذه القوانين غير معبرة عن رأي عام يتقبلها ويتفهم ضرورتها. ولطالما يشهد المطبخ التشريعي إعداد بعض القوانين على عجل لمواجهة مواقف طارئة أو لتحقيق أغراض السلطة الحاكمة في تدعيم سيطرتها وفي محاربة خصومها.
ومن مظاهر العوار على المستوى التشريعي أيضاً أن تنظم الدولة قوانينها الجنائية فيما يتعلق بالتجريم أو الجزاء أو الإجراءات الجنائية ب شكل مغالى فيه. فقد تقرر النصوص حماية واهية لمصالح حيوية ، أو أن تتجاهل حاجة المجتمع لتجريمات في مجال بعينه. وقد ت قرر جزاءات قاسية لا تتناسب مع الاعتداء الواقع على المصلحة المحمية ، وقد تصاغ النصوص بصورة تقلل فرص تفريد العقوبات ، كأن تجعل أكثر العقوبات ذات حد واحد ، أو تقلل من نظام الخيرة بين أكثر من عقوبة بحيث لا يكون للقاضى نصيب من حرية التقدير حسب ظروف كل واقعة أو شخصية كل متهم. وقد تتقرر إجراءات لا تضمن رد فعل سريع من الأجهزة المعنية إزاء ما يقع من جرائم ، وبطريقة لا تكفل التوصل إلى الجناة الحقيقيين . ولا شك أن كل هذا القصور يسهم بدوره فى استهانة الأفراد بنظام الدولة ككل وبالقانون الجنائى على وجه الخصوص .
ولعل أهم المراحل الجنائية التي يتوقف عليها نجاح السياسة الجنائية في مكافحة الجريمة هي مرحلة جمع الاستدلالات والتي تقوم عليها سلطة الضبط القضائى . ولاشك أن قصور وعدم فاعلية عمل مأموري الضبط القضائي في البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات اللازمة للتحقيق فى الدعوى يرفع من معدل الإجرام العام في المجتمع. وقد ينشأ هذا القصور نتيجة عدم تنظيم جهاز الشرطة على نحو علمى سليم ، وعدم تدريب العاملين به تدريباً كافياً ، و افتقاره هذا الجهاز إلى الإمكانيات المادية والقوى البشرية الكافية التي تواكب أنماط الإجرام التقليدي منه والمستحدث. ومن المؤكد أن عجز جهاز الضبطية القضائية عن أداء رسالته في منع الجريمة يشجع على مزيد من الإجرام نتيجة استهانة الأفراد به .
كما تكشف بعض الإحصاءات عن أن لطبيعة ومقدار الجزاء الذي يطبقه القاضي أثره على حركة الإجرام داخل المجتمع. فتشدد القضاة يؤدي إلى تفعيل نظاما الردع الخاص والعام ، فلا يعاود الجاني جرائمه مرة أخرى ، ولا يقلده الآخرون في نشاطه. في حين أن ميل القضاة إلى “تسعير العقاب” والنزول بالعقوبات إلى حدها الأدنى يسمح بتبجح الجناة ومن لديهم ميول إجرامية على النظام الجنائي في المجتمع. والحق أن الظاهرة الإجرامية في معدلها لا ترتبط كثيراً بالجسامة الذاتية للعقوبة بقدر ما ترتبط بكونها تتميز بطابعي السرعة واليقين في تطبيقها. فحينما يتيقن الشخص ذو الميول الإجرامية أنه لن يفلت من العقاب وأن توقيع هذا الأخير سوف يتم في مدة قصيرة فإنه لن يدخل إلى طور التنفيذ ، حتى ولو كان العقاب المحتمل معتدل الجسامة.
وأخيراً فإن السياسة الجنائية في مكافحة الجريمة قد يصيبها العوار في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي ، وذلك حينما تتبع المؤسسات العقابية نظم من المعاملة تجعل من السجن مدرسة للجريمة وأداة تفسد أكثر مما تصلح ، فتنتقل داخله عدوى الجريمة من المحترف إلى المبتدئ ، ومن ذوي الخطورة الإجرامية إلى المجرمين العرضيين فينقلبون بدورهم أساتذة في الإجرام ويعاودون من ثم نشاطهم الإجرامي في أعقاب الإفراج عنهم.
من هنا وجب الاهتمام بكل ما يتعلق بالتفريد التنفيذي لل جزاءات الجنائية عقوبات كانت أم تدابير ، وكفالة إتباع أسلوب علمي يضمن تأهيل المجرم وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى . ويستوجب بيان الكيفية التي يتم بها هذا الأمر أن ندلف إلى الجزء الثاني من هذا المؤلف المتعلق بالحق في العقاب .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً