مقال قانوني بعنوان مواطن الخلل في السياسة الجنائية بالمغرب للاستاذ خالد الإدريسي
تعتبر السياسة الجنائية بمثابة الآليات الوقائية والعلاجية التي تستعملها الدولة بصفة عامة. وهكذا فهذه السياسة لاتقتصر على إستراتيجية القضاء على الجريمة بعد ظهورها، ولكن تستهدف وضع آليات وقائية واستيباقية لعدم حدوث الجرائم أو استفحالها.
في المغرب اعتبر قانون المسطرة الجنائية أن المشرف على السياسة الجنائية بالبلاد هو السيد وزير العدل ويمارسها عن طريق الوكلاء العامون للملك ووكلاء الملك. وهكذا فإن السياسة الجنائية التي تشرف عليها وزارة العدل تضع الخطوط العريضة للخطة الموضوعة من أجل مكافحة الإجرام، فمثلا إبان وقوع الهجمات الإرهابية على العالم والمغرب ارتأى هذا الاخير في إطار سياسته الجنائية أن يشدد العقوبات على هذه الجرائم و أن يحاول ما أمكن التقليل من الضمانات التي تمنحها مبادئ المحاكمة العادلة للأظناء، لأن ضرورة الأمن والاستقرار وحماية مصالح البلد تقتضي هذا التعامل الذي أصبح يعرف باسم «القانون الجنائي للعدو» .
من جهة أخرى على النقيض من ذلك نلاحظ أن المشرع المغربي تساهل في بعض الجرائم على المستوى التشريعي وأيضا على مستوى التعامل القضائي مثل جريمة الفساد التي أصبحت فعلا شبه مباحا أمام الأحكام القضائية اللطيفة التي تواجه بها هذه الأفعال.
ولكن هل فعلا لدينا سياسة جنائية حقيقية مبنية على أسس وقواعد علمية و ذات أهداف واضحة
ومجسدة على المستوى الواقعي من طرف الأجهزة المسئولة عن تفعيلها.
للإجابة ينبغي التذكير بداية على أن الأجهزة المتدخلة في تطبيق السياسة الجنائية لا تقتصر على الجهاز القضائي فحسب من قضاة النيابة العامة و قضاة التحقيق و قضاة الحكم ، و لكن هذه الأجهزة تشمل أيضا الشرطة القضائية كجهاز يتعامل مع الجريمة قبل وصولها إلى الجهاز القضائي ، وأيضا تشمل إدارة السجون كجهاز يسهر على تنفيذ العقوبات و يحاول أن يكون مؤسسة إصلاحية أكثر منها عقابية .
على أن هناك فرق واضح بين السياسة الجنائية على المستوى النظري ، و السياسة الجنائية على المستوى العلمي، فأحيانا تؤكد وزارة العدل باستمرار باعتبارها الجهاز الذي يسهر على تنفيذ السياسة الجنائية على ضرورة إتباع نهج معين في أمر من الأمور أو قضية من القضايا ، إلا أن التطبيق العملي لهذا التوجيه من طرف الآليات الموجودة يكون بشكل مخالف للتوجيه المخطط له من الناحية النظرية ، وكمثال على ذلك فوزارة العدل كان توجهها واضحا بخصوص إشكاليات الاعتقال الاحتياطي ذلك أنه منذ مدة طويلة وهي تصدر مناشير بشكل دوري ومستمر تدعو فيه قضاة النيابة العامة والتحقيق والحكم على عدم اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي إلا للضرورة القصوى و اللجوء إلى الضمانات الشخصية و الكفالات المالية من أجل الحد من اعتقال المشتبه بهم، وأكيد أن الذي أملى على الوزارة الذهاب في هذا التوجه هو أنه ثبت أن ثلثي المعتقلين في السجون المغربية هم من صنف المعتقلين الاحتياطيين ونعلم التكلفة المالية والبشرية الكبيرة الموضوعة من أجل تدبير العدد الكبير من المعتقلين اللذين لم يصدر حكم نهائي في حقهم وربما يحصلون على البراءة . إلا أنه رغم التوجه الواضح للوزارة المسؤولة عن تسطير السياسة الجنائية، إلا أن التطبيق القضائي كان مخالفا لهذا التوجه إذ أن العمل القضائي أبان عن تشدد واضح في موضوع الاعتقال الاحتياطي بحيث أصبح الأصل هو الاعتقال و السراح هو الاستثناء رغم انعدام حالة التلبس و رغم توفر المشتبه به على جميع الضمانات الشخصية و المالية التي تخول لهم إما حفظ الملف أو عدم المتابعة أو على الأقل المتابعة في حالة سراح.
لكن ألا يمكن اعتبار إشراف وزارة العدل على السياسة الجنائية بمثابة تدخل للسلطة التنفيذية في أعمال تدخل في إطار الاختصاص الأصيل للسلطة القضائية بشكل يضرب في العمق مبدأ فصل السلط كأساس للدولة الديمقراطية الحديثة .
مع العلم من أهم المبادئ التي تؤطر عمل السلطة القضائية هو مبدأ الاستقلال وعدم تلقي أوامر وتوجيهات من أي سلطة كانت ولا سيما من السلطة التنفيذية .من دون شك أن مبدأ استقلال القضاء يعتبر الأساس الذي ينبني عليه أي عمل قضائي يروم تحقيق العدالة في أبهى تجلياتها ،و لكن ينبغي أن لايغيب عن أدهاننا أن الوزارة رغم أنها جزء لا يتجزأ من السلطة التنفيذية إلا أنها المسؤولة عن وضع السياسة الجنائية و هي التي لديها الإحصائيات و تعرف كيف توجه القضاء ليس في ملفات بعينها أو نوازل خاصة لأن هذا الأمر ضرب لمبدأ استقلال القضاء و لكن انطلاقا من توجيهات عامة من المفروض على الجهاز القضائي و كذلك باقي الآليات الأخرى المتدخلة في عملية أجرأة السياسة الجنائية أن تأخذها بعين الاعتبار و هي بصدد البت في النوازل الخاصة التي تبت فيها.
في الأخير أظن أن سياستنا الجنائية تعاني من بعض الثغرات التي تؤثر على فاعليتها من أجل محاربة ظاهرة الجريمة، وأؤكد على أنه إذا ما أردنا أن نقضي على الإجرام إنطلاقا من سياسة جنائية فعالة فيجب أن نركز على الآليات الوقائية التي تمنع الجرائم وليس التركيز فقط على علاج أثار هذه الجرائم بعد ارتكابها إضافة إلى أن سياستنا الجنائية يجب أن تحاول إيجاد إجابات سريعة لمظاهر الإجرام المعاصر لا سيما الذي أصبح مرتبطا بالتطور المعلوماتي و الإلكتروني و المعتمد على وسائل الإتصال الحديثة. وهكذا يمكن القول أن تفعيل السياسة الجنائية ينطلق أساسا من تطوير المنظومة الجنائية سواء على المستوى الموضوعي بتلافي ظاهرة الهروب إلى القانون الجنائي و ضبط النصوص التجريمية و العقابية ،إضافة تأهيل و تطوير آليات تطبيق السياسة الجنائية من شرطة و قضاء و إدارة سجون بشكل يجعل النتائج المرجوة من هذه السياسة تتحقق بشكل ايجابي.
نتمنى أخيرا أن يأخذ موضوع تطوير السياسة الجنائية و تفعيلها أهمية كبيرة داخل النقاش الوطني الدائر حول إصلاح العدالة، لأن تأهيل السياسة الجنائية يعتبر من أهم الأسس التي ينبغي الاستناد عليها من اجل إصلاح منظومة العدالة.
اترك تعليقاً