العصبية الحقوقية في مجال حقوق الإنسان
كَثُر الحديث (اليوم) عن العصبية القبيلة والجهوية وربما الفكرية أو والأيدلوجية إلا أنه يندر الحديث بل وينعدم حول العصبية الحقوقية المنادية بتوفير حماية دستورية مطلقة – بدون أي قيد أو شرط – للحقوق والحريات الأساسية للإنسان, وتأتي هذه العصبة كرد فعلٍ على ما شهدته البلاد من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان لفترة طويلة تعادل نصف قرن من الزمان.
عليه, ولما كانت الدساتير تمثل أداة قانونية وطنية فعّالة لحماية الحقوق والحريات, كان من الطبيعي أن ينادي عدد من النشطاء الحقوقيون المهتمين بصناعة الدساتير في ليبيا بضرورة إرساء ضمانات دستورية صارمة تحمي الحقوق والحريات على نحو لا يجعل لأية سلطة القدرة على مخالفتها. غير أنه يجب ألاّ يغيب عن بال المهتمين بهذه الصناعة, أنه من البديهي – عند الأخذ في الاعتبار حماية الدستور لحقوق الإنسان – ضرورة مناقشة القيود المفروضة على الحقوق والحريات؛ حيث تُقِرُ جُلّ العهود والمواثيق الدولية والوطنية ذات الصلة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية بالحاجة الفعلية لتقييد بعضٍ من الحقوق والحريات لضمان الحفاظ على النظام العام والآداب العامة اجتماعيا وأمنيا وصحيا.
فعلى الصعيد الدولي, نجد أن المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على الآتي: “عند ممارسة الحقوق والحريات يكون كل شخص عرضة للقيود التي يحددها القانون وحده لأغراض ضمان الاعتراف بحقوق وحريات الآخرين واحترامها والإيفاء بالحقوق العادلة للفضيلة والنظام والرفاهية العامة في المجتمع الديمقراطي”.
أما على الصعيد الوطني أو الداخلي للدول, فنجد أن دستور جنوب أفريقيا يُوفِّر بنية أساسية متطورة ويطرح قيود حقوق الإنسان بالتفصيل, وتقضي المادة 3 منه بأن: “تخضع الحقوق الواردة بالدستور للقيود المنصوص عليها في الباب 36 أو في أي مكان من الدستور”. أما الدستور الألماني فيقضي في المادة 19 بأنه: ” طالما أمكن – في ظل هذا القانون الأساس – تقييد حق أساس, فيكون بموجب القانون بشكل عام وليس فقط على حالة فردية ..”. وعلى هذا النحو سار الدستور السويسري في المادة 36 الفقرات 1و2و3و4.
وبناء على ذلك, وبالرجوع للصكوك الدولية نجد أنها تفرض قيوداً على الحقوق والحريات لعدة أسباب, أهمها الحفاظ على حقوق الآخرين وعلى النظام العام والآداب العامة والصحة العامة والأمن القومي, وفق الآتي:
1- حقوق الآخرين: تنتهي حقوق وحرية كل فرد عندما تبدأ حقوق وحرية الآخرين, فيجب احترام سمعة الآخرين وعدم المساس بحقوقهم وحريتهم التي كفلها لهم القانون. ولهذا قال أولفر هولمز وهو قاضي في المحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية بأن: “حقي في أرجحة معصمي ينتهي حيثما يبدأ أنف الرجل الآخر”.
2- النظام العام والآداب العامة : إنّ تقييد الحقوق والحريات بالنظام والآداب العامة معترف به في كافة المعاهدات الدولية وفي دساتير العالم, ومسألة تحديد المقصود بالنظام العام والآداب مسألة نسبية تختلف من مجتمع لآخر, فما هو من النظام العام والآداب العامة بالنسبة لمجتمع ما, قد لا يكون كذلك بالنسبة لمجتمع آخر. وفي كل الأحوال يمكن القول بأن المقصود بالنظام العام والآداب العامة: مجموعة القواعد التي بها تتحقق مصلحة عامة تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد, سواء أكانت هذه المصلحة اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية. ومن ثمّ فإن قواعد النظام العام والآداب العامة هي تلك القواعد المتعلقة بالأسس والدعامات التي لا غنى عنها في مجتمع ما لكي يسير بانتظام واستقرار, ولا شك في أن القيم الدينية والأخلاقية تشكل جوهر هذه الأسس أو الدعامات.
3- الصحة العامة والأمن القومي : تعتبر القيود التي تفرضها مقتضيات الصحة العامة والأمن القومي سبباً مقبولا لتقييد بعض الحقوق والحريات؛ فالمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية أجازت تقييد حرية التعبير ببعض القيود المنصوص عليها بالقانون.
وبناء على ما تقدم لا يجوز التمسك بحماية دستورية مطلقة للحقوق والحريات دون مناقشة القيود المفروضة على كلٍّ منها, ويدخل ضمن هذا المفهوم عدم جواز الدعوة المطلقة لقبول القواعد القانونية الدولية المنظمة لحقوق الإنسان بدون أي تحفظ عليها, لاسيما إذا كان محتوى هذه القواعد الدولية يشكل مخالفة للقيم والدعامات الأساسية في المجتمع, على نحو يجعلها متنافية مع النظام العام والآداب العامة وفق ما هو مشار إليه أعلاه , ومن ثمّ فإن تحفّظ دولة ما على أحكام معينة واردة في اتفاقية دولية ذات صلة بالحقوق والحريات سواء كانت متعلقة بحقوق الطفل أو المرأة أو اللاجئين أو غير ذلك (لاحتوائها لأحكام تشكل مخالفة صريحة للقيم الدينية أو الأخلاقية المعتبرة في المجتمع) لا يعد مخالفة أو انتهاكاً أو تقصيراً لحماية حقوق الإنسان طالما كانت الدولة معترفة بضرورة توفير حماية للحقوق والحريات من حيث الأصل.
ولتأكيد هذا القول نشير – على سبيل المثال – إلى الموقف الأوربي بشأن حق تكوين الأسرة في كلٍ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الثاني المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, إذ قضت المادة 10 من العهد الثاني بأن: “ينعقد الزواج برضا الطرفين المزمع زواجهما رضا كاملا لا إكراه فيه “, خلافا لنص المادة 16 من الإعلان التي حصرت طرفي الزواج بشكل صريح في الرجل والمرأة, وأن لكل منهما متى أدرك سن البلوغ الحق في الزواج بدون قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين؛ فالاختلاف في صياغة المادتين أثار جدلا حول أطراف الزواج (لاسيما الزواج المثلي) وسن الزواج ومسألة المختلفين في الدين, وحسماً لهذه المسألة قضت المادة 12 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان على أن حق الزواج يكون طبقا للقوانين الوطنية الخاصة بمباشرة هذا الحق؛ لأن الدول الأوربية تختلف حول سن الزواج وأطراف عقد الزواج ومنها ما يحرم الزواج بين المختلفين في الدين, وهذا الموقف الأوربي إن دل على شيء فإنما يدل على إمكانية عدم التقيّد النصي بالقواعد القانونية الدولية المنظمة لحقوق الإنسان ومن ثمّ إمكانية التحفّظ عليها ومواءمتها بما يتفق وظروف كل دولة.
وقد يرد بعض الحقوقيين على القول السابق بأن: سماح القواعد الدستورية بفرض قيود على الحقوق والحريات من شأنه أن يضع ممارستها الفعلية تحت رحمة السلطات العامة في الدولة لاسيما السلطتين التشريعية والتنفيذية, وهو ما يجعلها عرضة للانتهاك من قبل هاتين السلطتين.
للرد على ذلك يمكن القول بشكل عام: إن الناحية العملية أثبتت بأن لأغلب الحقوق والحريات حدوداً , فحرية التجمع والتظاهر يجب ألاّ تصل بأية حال من الأحوال إلى قطع الطريق العام أو وقف عمل مدرج المطار, كما أن حرية التعبير لا تحمي الخطاب المحرض على العنف, وحرية التنظيم لا تسمح بإقامة تنظيمات إجرامية. أما بشكل خاص فيمكن القول بأنه: يجب ألاّ يفسر الهدف من التقييد بأنه تخويل أو رخصة للسلطات العامة في الدولة لتدمير الحقوق المحمية شرعاً وقانوناً وعرفاً , وحتى لا ينظر إلى القيود على أنها وسيلة لإضعاف الحماية الدستورية للحقوق والحريات الأساسية , فإن فرض القيود يتوقف على مبدأين هما: مبدأ جوهر الحق ومبدأ التناسب القانوني. فالأول يقضي بأن القيود على الحقوق والحريات يجب ألاّ تكون بدون قيود, وإلا لما كانت هناك حاجة للنص على الحق بالمطلق؛ فلكل حق وظيفة جوهرية راسخة يؤديها ويجب عدم المساس بها, ولذلك يجب على صانعي الدستور معالجة مسألة التقيّد بطريقة فنية من خلال إقرار صياغة قانونية تشمل على سبيل المثال العبارة التالية: “على النحو الوارد بالقانون على ألا يمس ذلك بجوهر الحق” وألا تقتصر العبارة على جملة “على النحو الوارد في القانون” أو عبارة “باستثناء الحالات الواردة في القانون” دون اتباعها بعبارة “مع عدم المساس بجوهر الحق أو الحرية “, لأن استخدام مثل هذه العبارات الواسعة والمطاطة ، وإن كانت تمنع تقييد الحقوق بموجب لوائح وقرارات إدارية صادرة عن السلطة التنفيذية على اعتبار أن التقييد لا يكون إلا بقانون, فإنه يمنح السلطة التشريعية صلاحية واسعة للمساس بالحقوق والحريات ما يجعلها مؤهلة لأن تكون أداة للديكتاتورية, وهذه أحد المآخذ المسجلة على دستور 1951م في الفصل المتعلق بالحقوق والحريات.
أما مبدأ التناسب القانوني, فيقضي بألا يجب فرض قيود على الحقوق والحريات تتجاوز الحد اللازم لتحقيق الهدف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أو غيره المرجو من التقييد, فيجب أن تكون القيود على صلة بالحق أو الحرية محل القيد وأن تصمم على نطاق ضيق يفي بالغرض أو الهدف المنشود من وراء وضعها.
الخلاصة : إذا كانت العصبية بشكل عام تعني الموالاة لأمر أو شيء ما بصرف النظر عن كونه ظالما أو عادلا, فإن العصبية الحقوقية تعني الموالاة للحقوق والحريات الفردية بشكل مطلق دونما قيد أو شرط, وبدون الأخذ في الاعتبار القيم والأسس التي تشكل دعامة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد. وعليه, فإن منع أية محاولة لانتهاك الحقوق والحريات مستقبلا لا يكون بتوفير الحماية الدستورية المطلقة, إذ يتحقق المنع من خلال اهتمام صانعي الدستور بمسألة المعالجة الفنية للقيود, وذلك بإعطاء كل من مبدأ جوهر الحق ومبدأ التناسب القانوني الاعتبار اللازم عند العمل على كتابة صيغ النصوص الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات. وألا يترسخ في فكرهم أن القواعد القانونية الدولية لحقوق الإنسان هي مبادئ فوق الدستورية؛ لأن مرتبة القانون الدولي العام في النظام القانوني الداخلي تحدد في الدستور بعد كتابته لا قبل ذلك .
اترك تعليقاً