تحليل قانوني لميثاق متطلبات الاصلاح و التهميش الذي يتعرض المفوض القضائي
بقلـم : ذ. محمد القوص, مفوض قضائي بفاس
تنظيم الندوات بعناوين قانونية مختلفة وبعدة مدن غير كاف لتحقيق الإصلاح
السؤال المشروع، والذي يطرح نفسه بإلحاح هل بالفعل استجابت توصيات الميثاق لمتطلبات الإصلاح؟ وأي مقاربة منهجية تم سلوكها لتشخيص واقع الممارسة القضائية قانونا وعملا ومؤسسة؟.
الفقرة الأولى: المقاربة المنهجية
إن القانون، ظاهرة اجتماعية بما فيها مستلزماته البنيوية والمؤسساتية، ما يفرض التعاطي معها على أساس مناهج علمية معتمدة في باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية كالمنهج الاستقرائي والاستنباطي والتجريبي.
فهل بالفعل، تم اعتمادها عند القيام بتشخيص حال منظومة العدالة من طرف واضعي الميثاق، خصوصا أن الظاهرة القانونية كإفراز اجتماعي في ارتباطها بالمنظومة القضائية، تبقى محكومة بعناصر خارجية تجد تأصيلها في متغيرات وثوابت المجتمع ونسقه الفكري والثقافي والاقتصادي وعناصر أخرى داخلية تتعلق بطبيعة سير المنظومة القضائية وتدبيرها الداخلي، وبالتالي أي تحليل لهذه البنية بعيدا عن المناهج العلمية الموضوعية، يبقى محكوما عليه سلفا بالفشل.
من خلال قراءة للميثاق، يتبين أن الجانب المنهجي لم يظهر بشكل واضح عند صياغته، لاعتبار أن التوصيات جاءت نتاج مجموعة الندوات المنعقدة في عديد المدن، وأن الحيز الزمني لها كان ضيقا جدا، لا يسمح بتأثيث الفضاء التحليلي للمنظومة بمناهج البحث العلمي بشكل كافي، وحتى الزيارات الميدانية لم تكن تتوفر فيها شروط القراءة المنهجية المرتبطة بإشكالية إصلاح العدالة، ما تعذر معه إجراء تشخيص وقراءة علمية لواقع العدالة ببلادنا.
فتنظيم الندوات بعناوين قانونية مختلفة وعلى مستوى عدة مدن بالشكل الذي تمت الإشارة إليه في ديباجة الميثاق غير كاف لتحقيق الغاية والهدف من الإصلاح، وكان من المنطق فتح أوراش كبرى في إطار التشاركية وعلى المستوى الجهوي، تكون منبرا لجمع وتوحيد التوجهات وتقريب وجهات النظر بين جميع الفرقاء، كيف ما كانت مشاربهم ومذاهبهم، من مجتمع مدني وفاعلين اقتصاديين ومهتمين بالشأن القضائي والقانوني وإعلاميين وعلماء وأساتذة علم الاجتماع بكل تخصصاته، خلاصتها تحال على المناظرة الوطنية، يشارك فيها ممثلون عن هاته الأوراش لصياغتها عوض الاعتماد على آليات حوار تفتقد للمقاربة المنهجية، ولم تستحضر البعد السوسيو تقافي والسوسيو اقتصادي في معالجة وإصلاح منظومة العدالة، ما نتج عنه إغراق عدة توصيات في العمومية، وتجريد بعضها من الموضوعية، وذلك راجع لغياب اعتماد منهج علمي في التحليل والقراءة، فلو أخذنا على سبيل المثال التوصية المتعلقة بتخليق منظومة العدالة والتي اعتبر واضعو الميثاق أنها تجمع بين المقاربة القانونية والمقاربة الأخلاقية، نجدها مفتقدة للمنهج العلمي، لأن هذه المعادلة مبنية على الجمع بين مقاربتين، إحداهما قانونية قابلة للتفسير والتحليل الموضوعي والثانية تعتمد على البعد الأدبي والمثلي والمعنوي، وهذا الجمع مستحيل لعدة اعتبارات، لأن القانون نتاج وإفراز وضعي للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ويتمظهر في قواعد وقوالب تشريعية وضعية، تحدد طبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع ويمكن تعديله وإلغاءه وتحيينه، فإن الجانب الأخلاقي يبقى إلى حد كبير مرتبطا بالضمير المسؤول والوعي الذاتي، ولا يمكن التحكم فيها، وبالتالي فمسألة التخليق لا يمكن اختزالها في القواعد والقوالب السالفة الذكر، لأنها تجد مرجعيتها في الموروث الثقافي والبعد الديني، ومدى صلابة وقوة المنظومة التربوية والتعليمية بمفهومها الواسع.
ومن تم تفتقد هاته التوصية للمقاربة الواقعية في المعالجة والتشخيص باستثناء ما يمكن أن يتجسد في أفعال وتصرفات مادية ملموسة، قد تكون قابلة للتأطير والتحديد التشريعي ونلمس غياب التحليل الموضوعي في توصيات أخرى، كما هو الأمر بالنسبة للتوصية الواردة في الهدف الرئيسي الرابع -الهدف الفرعي الرابع- والذي نص على احترام سلطة الأحكام القضائية في مواجهة أشخاص القانون العام، وأحالت في الجدول الزمني للتنفيذ على تعديل (ق م م)، دون أن تحدد أوجه الأشكال والبدائل المطروحة لحلها، مع العلم أن أشكال تنفيذ الأحكام القضائية في مواجهة أشخاص القانون العام ليس بالأمر المستجد، فقد تم طرحه في مناسبات عدة دون جدوى ودون تفعيل، خصوصا أمام اجتهادات قضائية تنقصها الجرأة في تناول الموضوع، بعلل وحيثيات تجعل التنفيذ شبه مستحيل إن لم نقل مستحيلا (قرار المحكمة الإدارية بالرباط عدد128 الصادر بتاريخ04-09-1977منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 22 ماي- مارس1982 ص 158 «إنه إذا كان لا يجوز الحجز على أموال المؤسسات العمومية فلأنها مليئة الذمة وليس لأنها أموالا عمومية»).
الاتجاه نفسه أخذ به قرار المحكمة الإدارية بالرباط (عدد174 الصادر بتاريخ17-09-1997 في الملف عدد 28-97 منشور بمجلة المحاكم الادارية ع1 ص15)، وحفاظا على الأمانة العلمية ودون أن نتجاهل اجتهادات فقهية – ذات بعد تنويري- حاولت إيجاد بدائل جريئة للتنفيذ على أشخاص القانون العام كما جاء في مقالات منشورة بجريدة «الصباح» لرئيس الأول لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط الأستاذ «محمد حسيني الصقلي» بعنوان «أسلوب التنفيذ الناقص»، حيث جاءت كتاباته وفق منهج استقرائي وتجريبي يربط المقدمة بالنتيجة من خلال علاقة سببية موضوعية، كما جاء على لسانه «سبق أن تبين لنا أن بعض التدابير التي استطاع من خلالها القاضي الإداري إجبار الإدارة على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، والتي رغم أهميتها وجرأتها تظل قاصرة عن معالجة الفراغ التشريعي الناتج عن عدم تحديد مسطرة دقيقة لتنفيذ الأحكام الإدارية بالمغرب». فغياب المعالجة والتشخيص الموضوعي والمنهجي لهذا الإشكال يجعل الإدارة تبقى في منأى عن أحكام السلطة القضائية وعن إجراءات التنفيذ الجبري، كما أن الارتجالية وانعدام الأساس المنهجي في التحليل تبلور بشكل جلي في جانب آخر من التوصيات والمتعلقة بالتنظيم القضائي، والتي تأرجحت بين التنصيص على اعتبار المحكمة الابتدائية الوحدة الأساسية في التنظيم القضائي، باعتبارها صاحبة الولاية العامة وبين إرساء قواعد تنظيم قضائي قائم على التخصص وهذا التأرجح من شأنه الزيادة في الأعباء والضغط على المحاكم الابتدائية، وتكدس القضايا والملفات، وصعوبة تصريفها رغم أن تجربة القضاء المتخصص أبانت عن عدة ايجابيات تحسب لهذا الأخير، بما فيها دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإعادة الثقة للمستثمرين الذين يراهنون على العدالة لتحقيق الأمن الاقتصادي.
اترك تعليقاً