نشأة و تطور القانون الاداري
ينبغي في البداية التوضيح بشأن بعض المصطلحات تفاديا لكل خلط قد يحدث لدى الدارسين للقانون الإداري. إذ لابد من إقرار مسألة جوهرية أن القانون الإداري كمجموعة قواعد غير مألوفة في القانون الخاص، والقانون الإداري كتسمية و كفرع من فروع القانون هو حديث النشأة حقا.
بينما نرى محاور جزئية ضمن القانون الإداري قديمة في ظهورها ولا يمكن الاعتراف بصفة الحداثة بشأنها. بل تعود نشأتها إلى أمم و شعوب خلت منذ ظهور الدولة في حد ذاتها كمفهوم دستوري.فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر نظرية التنظيم الإداري و هي أحد أهم محاور القانون الإداري فهي نظرية وجدت في الدولة الرومانية و الدولة الصينية و اليونانية و الإسلامية و غيرها من الدول و على مدى الحضارات و الأجيال المتعاقبة.
لذلك ذهب البعض إلى القول أنّ القانون الإداري كان ملازما للدولة الإسلامية منذ وجودها و ليس من خصائص الدولة الحديثة. لأنّ كل مجتمع متحضر أيا كان نوعه يوجد به قانون إداري بمعناه الواسع الذي يتناول مجموعة موضوعات منها نظرية التنظيم الإداري.[1]
وليست نظرية التنظيم الإداري لوحدها من عرفتها المجتمعات القديمة، بل نظرية المال العام، وسلطات الإدارة خاصة سلطة الضبط.
فكل هذه الخلايا اللصيقة بالقانون الإداري عرفتها الدولة القديمة التي لا يمكن أن يقوم لها ركن إذا لم تجسد فكرة التنظيم الإداري و تعتمد على الأعوان العموميين (الموظف العام). وتمارس جملة من السلطات كمظهر من مظاهر وجودها خاصة سلطة الضبط الإداري للتحكم في الجوانب الأمنية بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع و تنظيم العلاقة بين الحاكم و المحكوم. فالمجتمعات القديمة عرفت القانون الإداري جوهرا و تطبيقا و ممارسة و لم تعرفه شكلا أو تسمية.[2]
أمّا القانون الإداري بالمفهوم الفني الضيق فلم يبرز للوجود إلا في فرنسا وعقب مراحل أساسية يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: مرحلة عدم مسؤولية الدولة.
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القانون الإداري ظهر في فرنسا وهو مرتبط بتاريخها ونظام الحكم فيها. فقبل الثورة الفرنسية 1789 تمتع الملوك بسلطات مطلقة في تسيير شؤون الدولة انطلاقا من فكرة أنهم امتداد لإرادة الله وأنهم ظلّ الله فوق الأرض. فالعدالة مصدرها الملك و لا يتصوّر خضوعه لأي شكل من أشكال الرقابة و حتى القضائية منها.
و لا شك أن تصورا من هذا القبيل لمن شأنه أن يخلع كل قيد يحيط بالإدارة في تصرفاتها. وهو ما يترتب عليه المساس بحقوق الأفراد خاصة بعد انشغال طبقة البرجوازية ورجال الدين في جمع الثروة مما زاد الوضع سوءا وهو ما دفع الفلاسفة ورجال الفكر و الفقهاء إلى دق ناقوس الخطر فطالبوا الشعب أن يلتف حولهم ما أدى في النهاية إلى انفجار الثورة.[3]
وكان الملك في المرحلة السابقة للثورة الفرنسية يقوم بنفسه بتوزيع الاختصاص بين المحاكم المختلفة و يملك حق سحب أيّ منازعة من القضاء ليتكفل هو بالفصل فيها أو يعهد بها إلى غيره، كما تمتع الملك بسلطة واسعة إزاء الأحكام فحقّ له أمر وقفها أو ممارسة حق العفو.[4]
ثانيا: مرحلة الإدارة القاضية [5] – Administration juge.
لما قامت الثورة الفرنسية رأت السلطة المنبثقة عنها أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعتزم الإدارة القيام بها وتحد من فعاليتها وهو ما تأكد عملا في زمن البرلمانات. لذا كان الانشغال الكبير الذي راود السلطة الفرنسية آنذاك هو محاولة إيجاد صيغة وطريقة لإبعاد منازعات الإدارة عن ولاية واختصاص المحاكم العادية.
فصدر لهذا الغرض القانون 16-24 أوت 1790 فجاء في الفصل 13 منه ما يليّ ” إن الوظائف القضائية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و على القضاة وإلا كانوا مرتكبين لجريمة الخيانة العظمى ألا يتعرّضوا بأيّ وسيلة من الوسائل لأعمال الهيئات الإدارية”.
“Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeureront toujours sépares des fonctions administratives. les juges ne pourront à,peine de forfaiture troubler de quelque manière que ce soit les opérations des corps administratifs”.
وتأكّد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول: ” إن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم و يحظر على المحاكم حظرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال “.
“Les juges, ne peuvent entreprendre sur les fonctions administratives ni citer devant eux les administrateurs pour raison de leurs fonctions.
Défenses intégratives sont faites aux tribunaux de connaître des actes d’administration de quelques espèces qu’ils soient “.
وهكذا اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أنّ مقاضاة الإدارة أو مساءلة أعوانها يؤدي دون ريب إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام. فعندما تنوي الإدارة نزع ملكية وتقف أمام القضاء من أجل هذا العمل فإنّ إجراءات النزع ستتوقف وأيلولة المال من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة ستجمّد. وهو ما يؤدي في النّهاية إلى تعطيل المشاريع ذات الطابع العام. وما قيل عن النزع يقال عن غيره من سلطات الإدارة كسلطة الضبط أو السلطات في مجال التعاقد.
و تطبيقا لهذا القانون فانّ المنازعات الإدارية التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك. أمّا المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختصّ بها حكام الأقاليم. فقد قالSirey عبارة تؤكد هذا المعنى سنة 1818:” العدالة الإدارية متمّمة و مكمّلة للعمل الإداري”.[6]
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية.
وجدير بالذكر أنّ أحكام هذا القانون منعت القضاء من تأويل النصوص الغامضة وألزمته باللجوء للسلطة التشريعية في نطاق ما يسمى بالدعوى التشريعية الاستعجالية.
والحقيقة أن الأسباب المستند إليها لفرض وإعمال قانون 1790 يمكن دحضها بالنظر لما يأتي:
1- إن عدم خضوع الإدارة أمام القضاء يعني أن المحاكم قد تكون في وضعية إنكار العدالة فهي حين يقصدها المتقاضون نتيجة عمل قامت به الإدارة أو تسبب فيه أحد أعوانها تضطر وتطبيقا لقانون 1790 إلى التصريح برفض الدعوى لعدم الاختصاص أيا كان الضرر الناتج عن هذا العمل وأيا كانت خروقاته وتجاوزاته.
2- لقد تناسى المدافعون عن القانون 1790 أنّ مبدأ الفصل بين السلطات يفرض تمكين السلطة القضائية من مراقبة أعمال السلطة التنفيذية وهذا ما أكده مونتسيكو نفسه في كتابه روح القوانين بقوله: ” كل شخص بين يديه سلطة مدعو إلى أن يستبد بها فلا بد إذن حتى تنظم الأشياء بكيفية تجعل كل سلطة تمنع تجاوزات السلطة الأخرى “.
ولا مفر من الاعتراف لجهاز القضاء بمراقبة أعمال الإدارة وهذا تطبيقا لمبدأ المشروعية، وصونا للحقوق الأساسية و الحريات العامة، ومنعا للإدارة من كل عمل يطبع بالتعسف.
و تبقى أنّ هذه المرحلة من مراحل تطور القانون الإداري تتميز عن غيرها وسابقتها. ففي المرحلة الأولى لم تكن الدولة ومن ثمّ الإدارة تسأل عن أعمال موظفيها. أما في ظل المرحلة الجديدة (الإدارة القاضية) صار بالإمكان مساءلة الدولة عن أعمال موظفيها لكن أمام الإدارة نفسها.
اترك تعليقاً