تطبيق مذهب البحث العلمي الحر في نطاق الضرائب المباشرة :
يظهر من خلال الاستعراض الموجز والسريع لمذهب ” جني ” في التفسير انه يفرق بين المصادر الحقيقية للقانون والمصادر الشكلية له ، فإذا لم تكن المصادر الرسمية ملبية لحاجات القائم بالتفسير فيكون بوسعه البحث عن القاعدة القانونية في جوهر القانون بحقائقه الأربع المكونة له ، بيد أن “جني ” اخرج القانون الضريبي من نطاق مذهبه في التفسير ، فهو يرى أن هذا القانون يخضع لمبدأ قانونية الضريبة ، لذا لا يتسنى للمفسر العدول عن التفسير الحرفي _ الشرح على المتون _ في تفسيره للتشريع الضريبي سيما التفسير على وفق مذهب البحث العلمي الحر (1). والحق إن ” جني ” بإخراجه القانون الضريبي من نطاق تطبيق مذهبه في التفسير قد خالف أهم الأسس التي أستند إليها في تكوين عقيدته ألا هو عدم كفاية التشريع أو النقص الفطري له ، كون التشريع الضريبي ليس بمنأى عن هذا النقص ، وبالتالي فان الفقيه لم يعطنا حلاً ازاء هذا القصور ؟… إن الأمر _ في تصوري _ لا يعدو أن يكون بين فرضيتين :
الفرضية الأولى : أن “جني” افترض كفاية التشريع الضريبي وكماله ، وعلى فرض صحة هذه الفرضية يكون الفقيه قد نخر أهم الأسس التي قامت عليه نظريته ، إذ لا يتصور عقلاً أن يكون التشريع الضريبي الوحيد المتفرد بكماله ودقته واستجابته للتطورات المستجدة .
الفرضية الثانية : أن الفقيه يقر بالنقص الفطري للتشريع الضريبي أسوة بباقي التشريعات ، وبالتالي فانه أحجم عن إعطاء الحل المناسب وما يكون بوسع القائم بالتفسير عمله إذا ما واجه نقصاً تشريعياً بصدد هذه الحالة أو تلك .
لهذا نجد إن أول من نادى بتفسير القانون الضريبي باتباع مذهب البحث العلمي الحر ” تروتاباس ” واستند في دعوته إلى أساسين :
الأساس الأول : يقوم هذا الأساس على أن التفسير الحرفي نشأ في ظل فترة كان ينظر فيها الى قانون الضريبة على انه قانون بغيض ، بيد أن هذه النظرة لم يعد لها وجود في الوقت الحاضر .
الأساس الثاني : يقوم هذا الأساس على أن القانون الضريبي مستقل وبالإمكان تفسيره دون التقيد بالقانون المدني وخلق قواعد تلائم القانون الضريبي (2).
ونلاحظ أن ” تروتاباس ” عالج موضوع النقص التشريعي في القانون الضريبي على نحوٍ أكثر وضوحاً ودقة من ” جني ” الذي أخرج القانون الضريبي من دائرة البحث العلمي الحر ولم يعط الحل عند وجود النقص التشريعي ، بيد ان ” تروتاباس ” أجاز الرجوع إلى القانون المدني ولم يكن قصده أن هذا القانون هو الشريعة العامة للقانون الضريبي بل أجاز أخذ الاحكام التي تلائم روح القانون الضريبي ، فان لم يوجد حكم يجوز للمفسر القيام بالبحث العلمي الحر . إن أراء ” تروتاباس ” وجدت لها ترحيباً لدى أغلب الفقه وأن أعطى هذا الفقه أسباباً اخرى لتبني هذا المذهب ونبذ التفسير الحرفي نوردها تباعاً :
أولاً : يرى جانب من الفقه ان النظام الضريبي اصبح ذا أهداف أوسع من جمع الايرادات الضريبية لتغطية الإنفاق العام بل أضحى أداة لتخطيط أهداف مالية واقتصادية واجتماعية ، لذا فان للمفسر ان يستعين بالعناصر الخارجية للتشريع مادام قد يحقق العدالة الاجتماعية بوصفها هدف أسمى بشرط عدم وجود تشريع (3) . والحق أن هذا الرأي لا يحدد العناصر التي وصفها بالخارجية التي يمكن بها تحقيق العدالة الاجتماعية ، وقد يكون أصحاب هذا الرأي أرادوا التعبير عن جوهر القاعدة القانونية الضريبية ، والذي يرجع إليه المفسر في البحث العلمي الحر والمتمثل بالعدالة الضريبية ، وهو ما يميز هذا الرأي عن أراء ” تروتاباس ” الذي لم يعطنا معنى محدد لجوهر القاعدة القانونية الضريبية عند إجراء البحث العلمي الحر .
ثانياً : يرى جانب آخر من الفقه أن قانون الضريبة كغيره من القوانين فهو ليس استثناءً من أي اصل آخر ، بل هو قانون كغيره من القوانين تطبق عليه القواعد نفسها المطبقة في تفسير القوانين الأخرى ، أما مبدأ قانونية الضريبة لا يجعل من هذا القانون متميزاً عن سائر القوانين الأخرى كما لا يعطي مبرراً لتطبيق أسلوب معين في التفسير ، بل يجعل التفسير مقيداً بهذا المبدأ فقط(4).
ونلاحظ أن هذا الرأي يتوصل إلى تبني مذهب البحث العلمي الحر بصيغ تعبيرية غير موفقة ، فالقانون الضريبي آخذٌ باستكمال ذاتيته واستقلاله ، فهو ليس قانوناً عادياً بل يتصف بمزايا متميزة عن سواه من القوانين .
ثالثاً : يتبنى جانبٌ من الفقه فكرة ذاتية القانون الضريبي واستقلاله ، لذا يوجب تفسير هذا القانون على وفق هذه الذاتية من دون أن يخضع للأحكام التي تقررها القوانين الأخرى ولا لقواعد التفسير التي تخضع لها سائر القوانين الاستثنائية منها والعادية ، لذا يجب أن يكون التفسير طبقاً للمعنى الخاص الذي قصده القانون الضريبي ، وفي نطاق المبادىء الضريبية ، وفي حدود إرادة المشرع الحقيقية ، فلا ضير أن يكون التفسير واسعاً أم ضيقاً مادام انه يكشف قصد المشرع الضريبي الخاص فان لم يتوصل إلى إرادة المشرع الحقيقية وجب تفسير النصوص لصالح الخزانة(5). ويتفق هذا الاتجاه مع أنصار مذهب التفسير الحرفي بشان تفسير الأحكام الاستثنائية الواردة في قانون الضريبة على نحو ضيق ، كما يتفق مع مذهب البحث العلي الحر _ من دون أن يصرح بذلك _بشان الأحكام التي وردت بصورة قواعد عامة حيث أجاز التوسع فيها وإجراء القياس لكي يتم إعمال قصد المشرع الحقيقي (6). ونرى من هذا الاتجاه انعكاساً لما أورده ” تروتاباس ” ، إذ لم تكن ذاتية القانون الضريبي واستقلاله غائبة عن فكره حين دعا إلى تطبيق مذهب البحث العلمي الحر في الميدان الضريبي ، بل على العكس من ذلك كان هذا الموضوع ركيزة مهمة لدعوته تلك هذا من جهة ، ومن جهة ثانية لا يتصور عقلاً ان ” تروتاباس ” دعا إلى التوسع في تفسير الأحكام الاستثنائية ولم يبين ذلك في دعوته ولكن ما يميز هذا الاتجاه هو تأكيده إعمال إرادة المشرع الحقيقية في الأحوال كافة ، ولا ندري هل المقصود منها إرادته وقت وضع التشريع أم إرادته وقت تطبيقه ؟ ونرى أن من المرجح أن إرادة المشرع وقت وضع التشريع هي المسيطرة على هذا الاتجاه ، حيث أستخدم عبارة _ إرادة المشرع الحقيقية -، وما كلمة ” حقيقية ” التي أضيفت إلى عبارة إرادة المشرع إلا تأكيدٌ للإرادة التي كانت في ذهن المشرع وقت وضع التشريع ، لذا يعاب على هذا الاتجاه انه يحبس النصوص ويزيد من الفجوة بين الواقع والقانون ويبحث عن إرادة مزعومة في أغلب الأحوال .
__________________________
1- د. دلاور علي و د. محمد طه بدوي ، مصدر سابق ، ص 98 ، وكذلك د. حسين خلاف ،مصدر سابق ، ص 84 .
2- رأي ” تروتاباس ” أشار إليه د. دلاور علي ود. محمد طه بدوي ، مصدر سابق ، ص 121 _ 122 ، وكذلك د. محمد طه بدوي ود. محمد حمدي النشار ، مصدر سابق ، ص 130 _ 134 .
3- رأي الاستاذ كمال الجرف . مصدر سابق ، ص 430 .
4- رأي د. عادل احمد حشيش المؤيد لرأي د. حازم الببلاوي … لمزيد من التفصيل أنظر : د. عادل احمد حشيش ، التشريع الضريبي المصري ، مصدر سابق ، ص 35 .
5- د. قدري نقولا عطية ، مصدر سابق ص 227 وما بعدها .
6- د. قدري نقولا عطية ، المصدر نفسه ، ص 239 وص 247 .
تطبيق مذهب التفسير الحرفي في نطاق الضرائب المباشرة :
بعد بيان مفهوم التفسير لدى مدرسة الشرح على المتون واتضاح تقديسها للتشريع والنظرة إليه بعين الكمال والدقة ، على أساس ان المشرع عنى كل ما قاله وقال كل ما عناه فليس بوسع المفسر سوى التقيد بتلك الإرادة وترك التوسع في التفسير وعدم الركون إلى أي مصدر من مصادر القانون خلا التشريع لاسيما العرف . من هنا أتجه جانب كبير من الفقه المالي إلى تبني أفكار مدرسة الشرح على المتون في تفسير القانون الضريبي (1). فعلى الرغم من سهام النقد التي وجهت إلى أفكار هذا المذهب التفسيري إلا أن اغلب الفقه المالي بقي على تمسكه ولا يقبل الحيدة عنه أو قبول غيره بديلاً . لقد كان لهذه الأغلبية مبرراتها التي جعلتها تتمسك بهذا المذهب من أبرزها(2):
1 – رؤيتهم الخاصة للقانون الضريبي على أنه قانون استثنائي ، وما دام الاستثناء لا يجوز التوسع فيه أو القياس عليه فان ذلك مدعاة إلى تفسير القانون الضريبي على نحو ضيق جداً ، وبالتزام حرفية الالفاظ التي اختارها المشرع الضريبي بدقة وعناية بلغت حد الكمال .
2 – فضلاً عن رسوخ مبدأ قانونية الضريبة في ميدان فرض الضرائب ، إذ تتطابق رؤية مذهب الشرح على المتون مع فحوى مبدأ قانونية الضريبة باعتماد التشريع بوصفه مصدراً وحيداً للقانون.
3 – كما توجد مبررات أخرى سيقت بهذا الخصوص مؤكدة أن قوانين الضريبة بغيضة وتحكمية تقتطع جزءً من ملكية الافراد ، لذا وجب تضييق مدى تفسيرها إلى حد لا يزيد من مدى معاناة المكلفين أو يزيد من مقدار المبالغ المقتطعة منهم باسم الضريبة ، لذا فان حصل شك أو غموض أو ابهام في النصوص الضريبية وجب تفسيرها على نحو ضيق ، والتقيد بما أورده المشرع من ألفاظ ومن ثم تفسيرها لصالح المكلف .
4 – وزيادة على ذلك كله فان التفسير الحرفي يحقق الصوالح المختلفة والمتباينة في الأغلب ، فمن جهة يحقق صالح المكلف الذي سوف يتحمل أقل عبء للضريبة ، وصالح السلطة المالية التي تريد الحفاظ على حجم ايرادات الضريبة بكل صورة ، لذا فان التقيد بالألفاظ التي أوردها المشرع حرفياً من دون توسيع أو تضييق يحقق صوالح الطرفين .
ويبدو لنا أن الحقبة الزمنية التي عاصرت مؤيدي الشرح على المتون كانت ملائمة لهذا التأييد ولتلك المبررات التي سيقت من وراء تبني مذهب التفسير الحرفي ، ولكن بانتهاء تلك المدة وتبدل النظرة إلى الضريبة والطبيعة القانونية لنصوص الضريبة لم يعد لذلك التأييد من أرضية ، فقانون الضريبة لم يعد ذلك القانون الاستثنائي التحكمي البغيض ، بل ما برح أن يكون له ذاتية واستقلال متطور يوماً بعد آخر ، وأصبحت الضريبة ترمي إلى أهداف اجتماعية و اقتصادية ، ولم تعد تلك الأداة التي تقتطع جزءاً من ثروة المكلف ، كون النظرة إلى الملكية أصبحت تتعدى الفكر الحر إلى أن اقترنت بالفكر الاشتراكي و أن الملكية هي في الأصل جماعية . أما بصدد تطابق مدرسة الشرح على المتون مع فحوى مبدأ قانونية الضريبة ، فان هذا المبدأ يجب أن يكون حاضراً بكل عملية تفسير وليس قاصراً على التفسير الحرفي ، كونه قيداً ثابتاً لا يقبل النقاش على التفسير الضريبي على النحو الذي استعرضناه سلفاً ، أما بصدد التبرير المتعلق بارتباط التفسير الحرفي بالتفسير الأصلح للمكلف فيؤكد الفقه المالي ان ليس هناك أي إثبات أن التفسير الأصلح للمكلف ما هو إلاّ نتيجة للتفسير الحرفي (3) .
ويظهر على مؤيدي التفسير الحرفي الانقسام ، فمنهم من بقي وفياً للتفسير الحرفي المطلق على الحالات جميعها ، ومنهم من لا يستبعد طرائق التفسير التي تؤدي إلى التفسير الحرفي ، ففي حالة تعارض النصوص _ مثلاً _ يمكن الرجوع إلى الأعمال التحضيرية ، ولكن هذا الرجوع يجب أن يصب في إناء التفسير الحرفي ، وهكذا فان هذا الفريق يقصر التفسير الحرفي المطلق على حالة وضوح النص ودقته ، أما إذا غمض وأسدل الإبهام عليه سدوله فلا مشاحة من الرجوع إلى باقي طرائق التفسير وذلك لخدمة التفسير الحرفي(4).
استناداً إلى ما تقدم إن كانت غالبية الفقه المالي تؤيد التفسير الحرفي ، إلا أنه يظهر بجلاء تخفيف بعض مؤيديه من حدته على النحو الذي يقصرون تطبيقه على نصوص معينة وهي التي تتميز بوضوحها ودقتها ، من دون تلك النصوص التي يعتريها عيب من عيوب الصياغة التشريعية(5).
_____________________
1- ومن أبرزهم في فرنسا الفقيه ” جني ” وفي مصر د. عبد الحكيم الرفاعي.. أنظر : د. حسين خلاف ، مصدر سابق ، ص84 و ص95 .
2- لمزيد من التفصيل بشان المبررات أنظر : د. محمد طه بدوي و د. محمد حمدي النشار ، مصدر سابق ، ص 104 وما بعدها ، وكذلك د. حسين خلاف ، المصدر السابق ، ص84 وما بعدها .
3- د. دلاور علي ، ود. محمد طه بدوي ، مصدر سابق ، ص 123 .
4- لمزيد من التفصيل أنظر : الاستاذ . كمال الجرف . مصدر الالتزام بدفع الضرائب على الايراد ،بحث منشور في مجلة ادارة قضايا الحكومة ، المطبعة القانونية ، س = 10 ، ع = 2 ، 1966 ، ص 40 ، وكذلك د. محمد طه بدوي و د. محمد حمدي النشار ، مصدر سابق ، ص 108 .
5- يظهر أن د. حسين خلاف من هذا الفريق … لمزيد من التفصيل أنظر : د. حسين خلاف ، مصدر سابق ، ص 96 ، وكذلك رأي د. دلاور علي و د. محمد طه بدوي ، مصدر سابق ، ص 113 .
المؤلف : علي هادي عطية الهلالي
الكتاب أو المصدر : تفسير قوانين الضرائب في العراق
الجزء والصفحة : ص127-129
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً