نظرة حول ثقافة حقوق الإنسان في ظل التطور الدولي
مدخل لثقافة حقوق الإنسان في ظل التطور الدولي / أ. د. عبد الحسين شعبان
** المقدمة
شهدت حركة حقوق الإنسان في الوطن العربي تطورات مهمة سواء على الصعيد النظري أو العملي. ومع ذلك فما تزال الفجوة كبيرة وعميقة بينها وبين حركة حقوق الإنسان على النطاق العالمي وخاصة في الدول الصناعية المتقدمة. ورغم أن بعض العوامل الخارجية حالت دون تحقيق واستكمال تطبيقات مبادىء حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إلا أنها استخدمت كذريعة لوقف وتعطيل حركة الإصلاح الدستوري والقانوني الهادفة إلى تأكيد الالتزام بمبادىء حقوق الإنسان.
لم ينقطع الجدل والنقاش حول فكرة ومفاهيم حقوق الإنسان منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 1948، خصوصاً في فترة الصراع الأيديولوجي المحتدم والحرب الباردة. ومازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان. فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الاختفاء والعزل السياسي والحق في محاكمة عادلة والامتناع عن التعذيب، كلها مصطلحات لها دلالات مختلفة بالنسبة للحكومات والأيديولوجيات والسياسات.
ومشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي، تشغل حيزاً غير قليل من فكرة حقوق الإنسان، مثلما هي قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات، يقابلها المشاركة والانتخابات، دون إهمال لحرمة المنازل وسرية الرسالة والهاتف والاتصالات والحقوق الفردية الأخرى.
وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان، فإن عالمنا العربي ما زال يعاني الكثير من النقص والقصور إزاء تنأول هذه المشكلات بما يتناغم مع التطور الدولي الذي حصل في هذا الميدان وذلك بسبب مفاهيم مختلفة وأطروحات عتيقة منعته من السير في طريق تعزيز احترام حقوق الإنسان والالتحام والتفاعل مع الحركة العالمية في هذا الميدان.
وإذا كان هذا القصور والنقص فادحاً وكبيراً من الناحية النظرية والتشريعية والدستورية، فإننا نستطيع تلمس مدى الضرر الكبير في هذا المضمار على الصعيد العملي والممارسة الفعلية.
** التقنين الدولي
بعد مرور ثمانية عشر عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 عهدين دوليين لاستكمال وتعزيز الإعلان العالمي.
الأول: هو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
والثاني: هو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وانعقد الحوار مجدداً في الامم المتحدة وخارجها حول تفعيل الاحترام العالمي لحقوق الإنسان ساهمت فيه المنظمات غير الحكومية إضافة إلى العاملين في ميدان حقوق الإنسان والهيئات الحقوقية الدولية والبرلمانات وغيرها، حتى التأم »مؤتمر طهران« في العام 1968 أي بعد عشرين عاماً على صدور الإعلان العالمي وكان مؤتمر طهران خطوة هامة على طريق تعزيز حركة الإنسان، ولفت النظر للتجأوزات السافرة التي ما تزال الحكومات ترتكبها حيال الإنسان، سواء كان ذلك على صعيد الحقوق الجماعية كحق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام السيادة واختيار النظام السياسي والاجتماعي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. أو على صعيد الحقوق الفردية التي تتعلق بكرامة الفرد وحريته.
وإذا كانت حركة حقوق الإنسان قد تقدمت كثيراً على المستوى الدولي كما أشرنا، فإن هذه الحركة ما تزال بعيدة عن معيار الحد الأدنى النظري على أقل تقدير، ناهيكم عن الطموح المنشود في البلدان العربية. فرغم مضي ما يزيد عن ثلاثة عقود ونيف على صدور العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإن ثلاث عشرة دولة عربية فقط انضمت إليه واثنتى عشرة دولة عربية فقط انضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كذا الحال بالنسبة للمواثيق والمعاهدات الدولية الأخرى، فاتفاقية منع التعذيب مثلاً لم ينضم إليها سوى سبعة دول عربية، اثنتان منها لم تصدقا عليها. أما اتفاقية منع التمييز ضد المرأة فلم تنضم إليها سوى خمس دول عربية، واحدة لم تصدق عليها لحد الآن!
وخلال عقد السبعينات حدث تطور مهم بخصوص موضوع حقوق الإنسان، حيث جرى تقديمه كمبدأ مستقل ضمن وثيقة مؤتمر هلسنكي الختامية للأمن والتعاون الأوروبي المنعقد في الفترة من نهاية تموز إلى أوائل آب (يوليو إلى أغسطس) 1975، والتي توجت مرحلة جديدة من مراحل »الوفاق الدولي« حيث حضر المؤتمر ثلاثة وثلاثين دولة أوروبية، إلى الولايات المتحدة وكندا.
ويعتبر إقرار مبدأ حقوق الإنسان كمبدأ آمر ملزم من مبادىء القانون الدولي (jus cogens) مسلطاً الأضواء على انتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية وبخاصة الحقوق الفردية في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية في حين ظل الاتحاد السوفيتي يتشبث بالحقوق الجماعية وبخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وكانت تلك إحدى أكبر المعارك الأيديولوجية على المستوى الدولي، تلخصت في نجاح تروست الأدمغة الذي عمل بمعية كنيدي وجونسون من بعده تحت نظرية »بناء الجسور «بإيجاد فرص جديدة لشن هجومه، خصوصا من الثغرات والعيوب الكبيرة في ميدان حقوق الإنسان.
ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وتكريس النظام العالمي الجديد ضمن ترتيباته الراهنة للولايات المتحدة زعيمه بلا منازع، فقد أخذ موضوع حقوق الإنسان يطرح من زأوية جديدة وضمن أطر جديدة مختلفة، خصوصاً بانتهاء عهد الحرب الباردة ومعها نظام القطبية الثنائية.
وكان انهيار جدار برلين إيذاناً بتداعي أركان النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبداية لمرحلة جديدة من النظام الدولي الجديد، التي جرى تكريس أسسها نظرياً في مؤتمر باريس الذي انعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 (بعد اجتياح القوات العراقية للكويت وقبيل حرب الخليج الثانية) الذي وضع آليات جديدة لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، منها إيجاد مكتب أوروبي خاص للإشراف على شرعية الانتخابات وتحديد معالم النظام الديمقراطي التعددي لاحترام حقوق الإنسان.
وفي اتفاقية برلين الموقعة في حزيران (يونيو) 1991 وقبل إسدال الستار على مسرحية الخليج ووضع اللمسات الأخيرة على تفكيك الاتحاد السوفيتي وإنهاء الإمبراطورية الاشتراكية، جرى إقرار المبادئ الجديدة في إطار ميزان جديد للقوى الدولية، حيث تم هدم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي أقره ميثاق الامم المتحدة في مادته الثانية- الفقرة السابقة حين أكد المؤتمر على “أحقية الدول الأعضاء في التدخل لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان والقوانين الدولية” وذهبت الاتفاقية إلى أبعد من ذلك حين أكدت على أهمية وضرورة وضع خطة للطوارىء لمنع حدوث الصدام المسلح، متجأوزة مبدأ السيادة التقليدي الذي نظمته المادة الثانية من ميثاق الامم المتحدة.ولم يكن ذلك ممكناً لولا الاختلال الذي حصل في ميزان القوى العالمي لصالح المعسكر الغربي، ولولا الحاجة المتزايدة لوضع حد للخروقات السافرة لحقوق الإنسان التي أدت إلى اختناقات شديدة في العديد من البلدان والمجتمعات.
وهكذا لم تعد قضية حقوق الإنسان ضمن التطور الدولي الراهن، وضمن معايير القانون الدولي والتجديدات التي أدخلت عليه وبخاصة في ظل هيمنة الولايات المتحدة وتوجيهها للنظام العالمي الجديد، قضية داخلية تحجم الدول والحكومات والمنظمات الدولية عن التدخل فيها خصوصاً وأنها قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المبادىء الآمرة الملزمة وضمن الاتفاقات الشارعة (الاشتراعية) أي المنشئة لقواعد جديدة في القانون الدولي المعاصر.
ضمن هذا التطور المليودرامي بما فيه من عناصر مختلفة ومتناقضة سلبية وإيجابية، انعقد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان في فينيا في الرابع عشر من حزيران (يونيو) 1993، أي بعد ربع قرن على المؤتمر الأول، وبعد مرور خمسة وأربعين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي ظرف دولي مختلف تماماً، حيث غاب المعسكر الاشتراكي الذي شكل مع جبهة البلدان النامية قوة مقابلة للفريق الثاني »المعسكر الغربي«. خصوصاً في ظل مفاهيم متناقضة كان التوازن أساسها.
ثمة قاسم مشترك أصبح اليوم أكثر وثوقاً وأشد صرامة، رغم تناقض المفاهيم واختلال موازين القوى، وهو ازدياد الحاجة والشعور لتأكيد احترام حقوق الإنسان واتساع نطاق العاملين في هذا الميدان والمهتمين به. ورغم المرارات والاحباطات واستمرار المعايير المزدوجة، وفيما يخص حق الشعوب والبلدان النامية، فإن حركة حقوق الإنسان أخذت في التطور، وانعكس ذلك في اهتمام الحكومات بتشريعات حقوق الإنسان والسعي لامتصاص النقمة وتخفيف بعض الإجراءات التعسفية والإعلان عن إصلاحات دستورية، كما تجسد ذلك في عقد أربعة مؤتمرات دولية تمهيدية للمؤتمر العالمي الذي انعقد في فينيا.
الأول: المؤتمر الآسيوي الخاص بالمجموعة الآسيوية الذي انعقد في بانكوك.
الثاني: مؤتمر سان خوزيه الخاص بمجموعة دول أمريكا اللاتينية.
الثالث: المؤتمر الأفريقي الذي انعقد في تونس.
الرابع: المؤتمر العربي الذي انعقد في القاهرة في نيسان (أبريل) 1993.
** حقوق الإنسان بين الاختيار والاضطرار الخصوصية والعالمية
يستهدف الحوار بخصوص حقوق الإنسان أولاً تحديد المفاهيم وتعميق التوجهات وبالتالي فهو ليس نزوة عابرة بل حاجة وضرورة ماسة. وتزداد هذه الحاجة في البلدان العربية، إذ مازال البعض حتى الآن يعتقد أن حركة حقوق الإنسان هي ابتداع غربي واختراع مشبوه لتحقيق مآرب سياسية. وللأسف الشديد يتناسى هؤلاء أن مفاهيم حقوق الإنسان التي تعمقت على مر العصور هي نتاج تطور الفكر البشري الذي لا يقتصر على قارة أو أمة أو شعب أو جماعة، بل هي مزيج من التفاعل الحضاري وإن الإسلام بشر ببعض المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان، تلك التي كانت مفاهيم متقدمة في حين كان يسود أوروبا عصر الإقطاع والظلام.
فكما هو مدون في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، »يولد جميع الناس أحراراً متسأوون في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الاخاء« المادة الأولى. وحول المساواة، ذهبت المادة السابعة من الإعلان العالمي للقول »كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة بدون تفرقة. كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متسأوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا«.
مقابل ذلك وبفارق أربعة عشر قرناً، ومن خلال القراءة الارتجاعية، فقد وجد مبدأ المساواة تقنينه في القرآن الكريم حيث نص على (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وفي الحديث النبوي الشريف »لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى« و »الناس سواسية كأسنان المشط« وكما قال عمر بن الخطاب » متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً«، وقد كتب الامام علي إلى عامله في مصر مشدداً على مبدأ المساواة في الحقوق يقول: » ولا تكونن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياُ تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق« .
وتلكم لعمري مفاهيم متقدمة لم يجر تطبيقها أو تعميقها إلا في حدود ضيقة وفي ظروف تاريخية مختلفة وهو ما يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي فولتير حين كان يردد »قد اختلف معك في الرأي ولكنني مستعد لتقديم حيأتي ثمناً للدفاع عن حريتك وحقك في التعبير«.
وإذا كان الماغنا – كارتا »العهد العظيم « ومبادىء الثورة الفرنسية عام 1789 »الحرية، الإخاء، المساواة« وميثاق حقوق الإنسان والمواطن، والدستور الأمريكي الصادر عام 1776، انتصاراً لحقوق الإنسان، فإن تعميق الوجهة الاجتماعية الذي أكدته ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 والحقوق الجماعية يعتبر استكمالاً وتتمة للتقدم في ميدان حقوق الإنسان وبالتفاعل والتواصل أصبحت مفاهيم ذات صفة عالمية لا تخضع إلى أيديولوجية ما، رغم أن الدول والقوى الكبرى تحاول تمرير أيديولوجيتها وسياستها من خلالها.
وفي مقابل مفهوم العالمية هناك من يحاول الاستناد على الخصوصية القومية والثقافية كذريعة للتحفظ على بعض الالتزامات الدولية الأخرى.
وإذا كانت الخصوصية مسألة ينبغي مراعاتها، إلا انها لا ينبغي أن تسير باتجاه تقويض المبادئ العامة لحقوق الانسان بدعوى الخصوصية، وعلى العكس من ذلك فالخصوصية عليها أن تتوجه لتدعيم المعايير العالمية لا الانتقاص منها خصوصاً في القضايا الأكثر إلحاحاً وراهنية. إن الخصوصية تؤكد التنوع الاجتماعي والثقافي والديني والمذهبي والسياسي، في العقلية والتقاليد بين شعوب بلدان العالم وثقافتها المختلفة، لكنها لا ينبغي أن تكون عقبة في طريق المعايير العالمية أو أن تستخدم حجة للتحلل من الالتزامات الدولية التي يفرضها ميثاق الامم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقواعد العامة الآمرة – الملزمة في القانون الدولي المعاصر. وبالقدر الذي تجد فيه الخصوصية قابليتها على التناغم والتوافق والتكيف مع العالمية والشمولية والكونية لحركة ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان تستطيع في الوقت نفسه التعبير عن خصائص أي شعب أو أية أمة وتفاعلها مع ركب التطور العالمي.
ورغم ان بعض الحكومات تتظاهر على النطاق الدولي بالالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتوقع وتصدق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وذلك بهدف صرف الأنظار فعلياً عن حقوق الإنسان على المستوى الداخلي ولغرض الاستهلاك المحلي وتجميل الصورة، خصوصاً وأن التوقيع على الاتفاقيات الدولية لا يلزمها بمواءمة تشريعاتها الوطنية مع العهود والمواثيق الدولية، أو أنها تمهل نفسها أطول فترة لتسويق هذه القضية والالتفاف عليها. وقد تجسد هذا الأمر على نحو أكثر إلحاحاً في التسعينات وفي ظل النظام الدولي الجديد واتساع المطالبة باحترام حقوق الإنسان واضطرار بعض البلدان إلى مسايرة الموجة العالمية بهذا الخصوص2.
اترك تعليقاً