إشكالية حقوق الإنسان
السياق التاريخي
في العصر الوسيط كان المفهوم عن العالم لاهوتيا بصورة أساسية، وحدة العالم الأوربي التي لم يكن لها وجود بالفعل في الداخل، تحققت ضج العدو والمشترك الخارجي، والكاثوليكية هي التي كانت البوثقة لوحدة العالم الأوربي، وهو مجموعة شعوب على علاقات متبادلة دائمة خلال تطورها، وهذا التجمع اللاهوتي كان له وجود فعلي تمثل، ليس فقط، في شخص البابا بل قبل كل شيء في الكنيسة المنظمة تنظيما إقطاعيا وعلى مراتب متدرجة والمالكة في كل بلد قدرة سياسية هائلة في التنظيم الإقطاعي، وكانت الكنيسة بملكيتها العقارية ذات النمط الإقطاعي، هي الرباط الفعلي بين مختلف البلدان، وكان هذا التنظيم الإقطاعي للكنيسة يعطي تكريسه الديني لإقطاعية التنظيم السياسي الدنيوي، إذن من البديهي والإكليروس الطبقة المثقفة الوحيدة، إن عقيدة الكنيسة كان لابد أن تكون المنطلق
الأساسي لكل فكر، ومن ثم معيار كل معرفة، من حقوق، وعلم طبيعة وفلسفة هو بالتالي: هل يتطابق محتواها مع تعاليم الكنيسة أم لا؟
في هذه الأثناء كانت تنمو في أحشاء الإقطاعية طبقة جديدة هي البورجوازية، كانت البورجوازية وهي ذاتها نظام إقطاعي في البداية، تدخل المسرح ضد كبار الملاكين العقاريين، فقد دفعت الصناعة الحرفية في الغالب وتبادل المنتجات داخـل المجتمع الإقطاعي إلى درجة عـالية نسبيا، حيث فتحت لها الاكتشافات البحرية الكبرى في نهاية القرن 15 مجالا جديدا وأكثر اتساعا، بينما كان نمط الإنتاج الإقطاعي قائما بصورة أساسية على الاستهلاك الذاتي للمنتجات المصنوعة ضمن حلقة ضيقة، ولم يعد المفهوم الكاثوليكي عن العالم ليكفي الطبقة الجديدة وظروفها الإنتاجية والتبادلية، ومع ذلك وبرغم الثورة الجبارة في ظروف حياة المجتمع الاقتصادية، لم يعقبها البتة وعلى الفور تبدل يتناسب معها في بنيتها السياسية، فقد ظل نظام الدولة إقطاعيا بينما كان المجتمع يصبح أكثر فأكثر بورجوازيا، وظلت هذه الطبقة ولوقت طويل بعض الشيء سجينة لعلم اللاهوت، وجميع الإصلاحات والصراعات التي جرت من القرن 13 حتى القرن 17 لسبب اجتماعي ديني ليست سوى محاولات متكررة من قبل البورجوازية وحلفائها لمطابقة المفهوم اللاهوتي القديم عن العالم مع الظروف الاقتصادية الجديدة ولكن هذا لم يدم طويلا فقد دخل المسرح في فرنسا مفهوم جديد عن العالم هو المفهوم الحقوقي الذي أصبح فيما بعد مفهوم البورجوازية الكلاسيكي عن العالم.
فقد حلت الحقوق البشرية محل العقيدة، وحلت الدولة محل الكنيسة، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي كان الناس في السابق يتصورونها مخلوقة من قبل الكنيسة والعقيدة باتوا الآن يتصورنها قائمة على أساس الحقوق ومخلوقة من قبل الدولة. وبما أن التجارة، وبالتالي التجارة الدولية، تتطلب أصحاب بضائع أحرار متساوين في الحقوق، والانتقال من الحرفية إلى المشاغل اليدوية يفترض وجود عدد من الشغيلة الأحرار القادرين على التعاقد مع صاحب المعمل على تأجير قوة عملهم متساوين معه في الحقوق بوصفهم متعاقدين، وكلما توسع نطاق التجارة واشتد التنافس بين البورجوازيين كلما أصبح التحرر من العوائق الإقطاعية وإقامة المساواة في الحقوق بإزالة التفاوتات الإقطاعية أكثر إلحاحا، وبما أن الأمر يخدم تقدم الصناعة والتجارة فقد كان لابد من المطالبة بالمساواة ذاتها في الحقوق للجمهور الكبير من الفلاحين ولما كان الناس لم يعودوا يعيشون في إمبراطورية شاملـة، بل في منظومة دول مستقلـة وعلى مستوى واحد تقـريبا من التطور البورجوازي، فقد كان بديهيا أن تتجاوز ضرورة التحرر من العوائق الإقطاعية حدود دولة بمفردها، وواقع أن نضال هذه الطبقة الصاعدة ضد الأسياد الإقطاعيين كان لابد بالضرورة أن يصبح ككل نضال طبقي نضالا سياسي، نضالا في سبيل امتلاك الدولة وأنه كان لابد من خوضه في سبيل تلبية مطالب حقوقية وهو الواقع الذي أسهم في تعزيز المفهوم الحقوقي عن العالم (1).
ومع تطور ظروف المجتمع الاقتصادية تكونت طائفة من رجال القانون المحترفين، ومعهم يـولد علم الحقوق، وهذا العلم لدى تطوره يقارن بين النظم القانونية لمختلف الشعوب ومختلف العصور، ناظرا إليها لا كصورة للعلاقات الاقتصادية في حينها، بل كنظم تجد مبرر وجودها في ذاتها، والحال أن المقارنة تفترض عنصرا مشتركا، والحقوقيون يظهرونه ببناء حقوق طبيعية مما هو مشترك بين جميع هذه النظم، والمقياس الذي يرجع إليه لمعرفة ما هو من الحقوق الطبيعية هو بالضبط التعبير الأكثر تجريدا عن الحقوق ذاتها، أي العدالة، والحال نفسه إذا خصصنا الأمور قليلا وانتقلنا للحديث عن الأفراد حيث سنجد أن الحقوقيين، انطلاقا من أن الناس بوصفهم ناسا لديهم شيء مشترك وأنه بمقدار هذه الصفة فهم متساوون، يؤكدون على الحق في قيمة سياسية واجتماعية متساوية لجميع الناس، أو على الأقل لجميع مواطني دولة من الدول.
وهكذا مع مرور العهود أصبحت فكرة حقوق الإنسان أمرا بديهيا في نظر الجمهور الكبير، ولكن ليس بفعل صحتها البديهية، بل بفعل الانتشار الشامل والآنية الملحة لأفكار القرن 18 التي روجتها الطبقة البورجوازية لخدمة مصالحها الاقتصادية، ومن ثم فإن الدفاع الحقيقي لمسألة حقوق الإنسان هي الوقائع الاقتصادية وأكثر ما يشير إلى الطابع البورجوازي نوعيا لحقوق الإنسان هو أن الدستور الأمريكي وهو أول الدساتير التي اعترفت بها، سرعان ما يؤكد عبودية الناس المملوكين الذين كانوا موجودين في أمريكا: لقد كرست الامتيازات العرقية وألغيت الامتيازات الطبقية، على المستوى القانوني (الدستور) إلا أن الواقع بين عكس ذلك إذ ظل المجتمع الرأسمالي كغيره من مجتمعات ما قبل الرأسمال يكرس استغلال واضطهاد الإنسان للإنسان، فعلى مر التاريخ عرفة المجتمعات البشرية شتى أشكال انتهاكات حقوق الإنسان.
عرف المجتمع ابشري مجموعة من أنماط الإنتاج، تميز كل نمط إنتاج بمجموعة من الخصائص، مستوى تطور القوى المنتجة وتطور العلاقات التي تنتظم بين البشر أثناء سلسلة الإنتاج، وهي المحددة في البناء الفوقي من حقوق، ثقافة وسياسة… ففي المجتمع البدائي، مجتمع المشاعة البدائية، حيث كانت العلاقات تنتظم على أساس الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، حيث تميزت العلاقات بين البشر بالتعاون من اجل البقاء والصراع ضد الطبيعة، إذ لم يكن هناك مجال الاستغلال واستعباد الناس لبعضهم: “إن عظمة النظام العشائري ومحدوديته في آن واحد، إنما تقومان في أنه لا مكان فيه لأجل السيادة والاستعباد، وداخل النظام العشائري لا يوجد أي فرق بين الحقوق والواجبات…” ( 2).
ومع ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج انقسم المجتمع إلى طبقات، طبقة الأسياد وطبقة العبيد حيث مورست أبشع صور الاستغلال ضد العبيد إذ حرموا من أبسط الحقوق، فالعبد كان كبقية الأثاث في ملكية السيد يتصرف فيها حسب هواه، إن النظم القديمة لم تعترف للرقيق بحق الزواج بل كان الاتصال بين ذكورهم وإناثهم لا يعتبر زواجا وإنما كان يتم باختيار مواليهم بقصد تكاثر عدد الرقيق كما يحدث بين الأنعام.
وكان يحظر على الحر أن يتزوج من آمة، وعلى الحرة أن تتزوج برقيق، بل إن معظم هذه النظم كانت توقع على الحرة التي تتزوج برقيق عقوبة شديدة وصلت في بعض الأحوال إلى حد الإعدام. “… إذا كان المبلغ الذي تباع به قطعة الأرض المرهونة لا يغطي الدين، أو إذا كان الدين لم يؤمن برهن، كان يتعين على المدين أن يبيع أولاده عبيدا في بلدان أخرى لكي يسدد للدائن دينه (…) وإذا لم يرتو مصاص الدماء ، فقد كان بمقدوره أن يبيع المدين نفسه كعبد ” ( 3).
كذلك عرف المجتمع الإقطاعي استغلال واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان، فرغم امتلاك القن لحريته إلا أن عيشه مرتبط بالأرض وبالتالي مصيره مرتبط بالسيد، هذا الوضع جعله يستغل أبشع استغلال فلم يكن يحق للفلاح أن يتزوج دون إذن الملاك العقاري، ففي ذلك العهد كان الفلاح ملزما بالعمل بصورة مطلقة لحساب سيده في الأيام التي يعينها وكيل السيد، كما لم يكن له الحق في مغادرة القرية أو الحصول على أية ممتلكات دون إذن السيد أو أن يشتري الأرض، وفي حالة مخالفة هذه القواعد يحق للملاك العقاري إنزال العقوبات الجسدية بالفلاح/القن.
في المجتمع الرأسمالي الذي لا يختلف في الجوهر عن المجتمعات الأخرى حيث سياسة الاستغلال والاضطهاد والعنف ضد الإنسان، رغم تبلور مفهوم حقوق الإنسان في خضم صراع البورجوازية ضد الإقطاعية هذا الصراع الذي أفرز شعارات أو بالأحرى منح وعود للشعب، أفراد المجتمع، لها علاقة بمجموعة من الحقوق لخصت في شعار الثورة الفرنسية، العدالة، المساواة، الحرية، ومع تطور الأفكار والمفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان، ظهرت مجموعة من الإعلانات والمواثيق والمنظمات التي تعنى بالأمر، إلا أنه وبعد ما توطدت سلطة البورجوازية وأرست دعائمها على المستويات الاقتصادية، والسياسية، والإيديولوجية والعسكرية تبين للشعب وبالأخص الطبقة العاملة، أن الحقوق التي وعدتهم إياها البورجوازية لم تكن سوى حقوقا للطبقة البورجوازية ولم تكن سوى أساليب لتضليل وتوهيم وعي العمال، وبالتالي سوى رداءا لاستثمارهم من قبل الرأسماليين، فاستغلال الإنسان يتم بشكل أكثر خفاءا حيث العامل يمتلك حريته في التصرف، وكذلك في اختيار مع من يعمل إلا أنه تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية يضطر لبيع قوة عمله بشروط مالك الرأسمال أي مالك وسائل الإنتاج.
في خضم هذا الوضع (استغلال الرأسمال للعامل المأجور) ظهرت الحركة العمالية والأحزاب الاشتراكية لتحسين وتغيير أوضاعهم المعيشية وتعظيم سلطة الرأسمال، فكان ذلك بمثابة الكشف عن الوجه الحقيقي للبورجوازية، هذه التي قابلت هذا النضال بشتى أنواع القمع من أجل استعبادهم لصالح الرأسمال، حيث قامت بسن مجموعة من القوانين الاقتصادية ضد مصلحة العمال (عدم تحديد ساعات العمل، عدم تحديد الحد الأدنى للأجور، عدم تحديد السن القانوني للعمل…) بالإضافة إلى مجموعة من القوانين للحفاظ بشكل جوهري على النظام الرأسمالي، ناهيك عن حملات القمع ضد إضرابات العمال وخير دليل على ذلك المجزرة التي ارتكبت في الولايات المتحدة الأمريكية في حق العمال في فاتح ماي، والمجزرة التي ارتكبت في حق العاملات يوم 8 مارس، والمجازر التي كانت تحدث في المستعمرات (الإبادة الجماعية في حق الهنود الحمر والاضطهاد الذي تعرض له السود في إفريقيا). إلى غير ذلك من أشكال قمع حركة العمال في كل بقاع العالم، وكذلك قمع قادة الحركة العمالية ومنظريها، وكل المتعاطفين معها من المثقفين، ليصل هذا الصراع بين العمال و الرأسماليين إلى أوجه في ظل وجود المعسكر الاشتراكي.
هذا التعاطي الذي مارسته البورجوازية عبر العالم، خاصة الدول التبعية، مع الحركات العمالية وكذلك الحركات الديمقراطية التي تناضل من أجل مطالب ديمقراطية كالحرية السياسية وتحطيم نظم الحكم المطلق… أفرز انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (التعذيب الجسدي والنفسي، الاعتقالات التعسفية، الاختطافات…) لكن مع انهيار المعسكر الاشتراكي في شخص الاتحاد السوفياتي، ظهرت فلسفة إعادة تنظيم العلاقات بين الدول وبين الدول والشعوب، عكست في مفهوم النظام العالمي الجديد، ومن بين الإشكالات العالقة والضروري إيجاد حل لها هي الترسانة القانونية، الأمر الذي تم عكسه في شعارات الديمقراطية، حقوق الإنسان… هذه الأخيرة التي تعالت الأصوات المنادية باحترامها وطي صفحة الماضي عبر محاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات وتسوية وضعية ضحايا تلك السنوات من القمع، بصفة أخرى طغى على السطح ملف حقوق الإنسان و الانتهاكات الجسيمة لهاـ، خاصة مع تراجع المنظمات والأحزاب اليسارية عن شعارات دكتاتورية البروليتاريا والثورة الاجتماعية، والحديث عن الانتقال السلمي إلى المجتمع الديمقراطي الذي يحترم حقوق أفراد المجتمع كحرية التعبير والرأي… ولنا في ذلك تجارب دولية عديدة ذهبت في اتجاه “الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” مثل السلفادور السيراليون، الكواتيمالا، الأرجنتين… إلا أننا سنتطرق للتجربتين الأكثر أهمية وهما جنوب إفريقيا والشيلي.
___________________________
(1) -فريديريك إنجلز، نصوص مختارة، ص 376.
(2) – فريديريك إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ص 209.
(3) – فريديريك إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ص145.
السياق التاريخي, إشكالية حقوق الإنسان, حقوق الإنسان, تاريخ إشكالية حقوق الإنسان, تاريخ حقوق الإنسان, تعريف حقوق الإنسان, مفهوم حقوق الإنسان, حماية حقوق الإنسان, حقوق, الإنسان
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً