أنظمة التمويل العقاري.. هل هي في صالح المستفيد أم الممول؟
تترقب قطاعات كثيرة من المستفيدين أنظمة التمويل الجديدة، وتراهن عليها في توفير المسكن الملائم بسعر مناسب، مع توفير ضمانات قانونية تحمي المستفيد من تعنت الممول، ولكن التحليلات والدراسات التي ظهرت أخيرا جعلت المستفيد في حيرة من أمره: هل أنظمة التمويل الجديدة في صالحه بالفعل؟ أم أنها مصمَّمة لحماية الممول ورعاية حقوقه ومصالحه فحسب؟
بطبيعة الحال تباينت وجهات النظر في الإجابة على هذا السؤال، فهناك من يرى أن الأنظمة تحابي الممول على حساب المستفيد، وتكتفي بتقرير حماية صورية وشكلية للمستفيد، وهناك بالمقابل من يؤكد إجحاف أنظمة التمويل بحق الممول وإهدارها الكثير من الضمانات القانونية التي تحمي حقوقه، فما الحقيقية بين هذين الرأيين؟
بداية، وقبل المضي في تحليل محتوى أنظمة التمويل لاختبار مدى قربها من المستفيد، لا بد من تقرير جملة من المفاهيم:
من الصعب الحديث عن طرف ضعيف وطرف قوي في علاقة التمويل، فكلا الطرفين (المستفيد/الممول) يقفان على قدم المساواة، رغم ما قد يبدو في الظاهر من رجحان كفة الممول بصفته الطرف القوي الذي ينفرد بفرض الشروط التعاقدية للتمويل، فتعقيد الإجراءات الحكومية، وبطء سير القضاء، وتفاوت الاجتهادات القضائية في حسم تفاصيل العلاقات التمويلية، وصعوبة التنفيذ على العقار المرهون أو إخلاء العقار المؤجر كلها سمات سلبية لبيئة قانونية تجعل من مماطلة المستفيد في السداد كابوسا حقيقيا للممول.
إن حماية مصالح المستفيد لا تكون بإهدار حقوق الممول، بل لا نغالي إن قلنا: إن من مصلحة المستفيد توفير ضمانات قانونية عادلة تحمي حقوق الممول، وتشجعه على الدخول في سوق التمويل، بما يؤدي إلى تخفيض التكلفة وتقليل المخاطر وزيادة المنافسة، وبالتالي انخفاض معدل الربح، وهذا كله في صالح المستفيد، وبالمقابل فإن محاباة المستفيد على حساب الممول، وتجريد هذا الأخير من الضمانات المعقولة سيجعل من التمويل نشاطا محفوفا بالمخاطر وغير منتج من الناحية التجارية، ما سيؤدي من حيث النتيجة إلى عزوف الممولين عن سوق التمويل.. باختصار ليس المطلوب محاباة طرف على حساب طرف آخر، وإنما المطلوب هو تحقيق توازن بين حقوق المستفيد وحقوق الممول.
إن تخفيض أسعار المساكن، ودعم الفئات ذات الدخل المحدود هي أهداف استراتيجية عليا تخرج عن النطاق المباشر لأنظمة التمويل، وتدخل في نطاق مؤسسات حكومية أخرى مثل وزارة الإسكان، وصندوق التنمية العقارية، أما أنظمة التمويل فهي تهدف بالدرجة الأولى إلى تحسين أداء الممولين، وضبط عملهم بقواعد تحمي المستفيد وتضمن استقرار السوق.
قواعد حماية المستفيد في أنظمة التمويل:
تتركز قواعد حماية المستفيد كما قررتها أنظمة التمويل في المبادئ التالية:
أولا: الإفصاح عن تكلفة التمويل:
تُلزَم أنظمة التمويل بضرورة الإفصاح للمستفيد عن تكلفة التمويل، وطريقة احتسابه، لتمكين المستفيد من مقارنة الأسعار (المادة 2/7 من نظام التمويل العقاري، والمادة 22/5 من نظام مراقبة شركات التمويل)، ولم تبين الأنظمة عناصر “تكلفة التمويل” التي ينبغي الإفصاح عنها، وإن كان من المفهوم أنها تشمل جميع المبالغ التي يلتزم المستفيد بسدادها (كمعدل الربح على مبلغ التمويل وطريقة حسابه، ونفقات التأمين، والرسوم الإدارية، وغير ذلك) وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ بالنسبة للمستفيد، إلا أنه ليس من مبتكرات أنظمة التمويل، فقد استقر عمل الممولين (من مصارف وشركات تمويل) على الإفصاح للمستفيد وقبل الدخول في أي علاقة تعاقدية عن تفاصيل تكاليف التمويل، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الجديد في أنظمة التمويل فيما يتعلق بمبدأ الإفصاح؟ وما الإضافة القانونية التي قدمها في هذا الجانب؟ لعله كان من الأولى تقرير مبادئ أكثر أهمية من قبيل:
تحديد سقف أعلى لمعدل الربح بما يضع حدا للتفاوت غير المنضبط السائد في السوق (وهو اتجاه قانوني مستقر في غالبية الدول العربية).
تحديد سقف للرسوم الإدارية التي يشترطها الممولون مقابل تقديم خدمات التمويل، وتفعيل رقابة حكومية عليها للتمييز بين الرسوم العادلة والمحقة، والرسوم الصورية التي لا يقابلها أية خدمات.
ثانيا: الإفصاح للمستفيد عن معادلة السداد المبكر:
نصت المادة 33 من نظام مراقبة شركات التمويل على هذا المبدأ، محيلة التفاصيل إلى اللائحة التنفيذية للنظام، والإضافة التي قدمها النظام هنا هي:
أصبح السداد المبكر حقا للمستفيد لا أمرا اختياريا خاضعا لتقدير الممول.
يلتزم الممول بالإفصاح للمستفيد قبل التعاقد معه عن معادلة حساب السداد المبكر.
ولكن يُلاحظ هنا أن النص على السداد المبكر جاء في نظام مراقبة شركات التمويل (وهو نظام خاص بشركات التمويل غير الودائعية) وهذا ما يثير التساؤل حول مدى سريان قواعد الإفصاح عن معادلة السداد المبكر على المصارف (وبالتالي عقودها مع المستفيدين)، وفي جميع الأحوال علينا أن ننتظر انتهاء مؤسسة النقد من صياغة اللائحة التنفيذية لنظام مراقبة شركات التمويل للوقوف على تفاصيل معادلة السداد المبكر كما ستنظمها اللائحة، ونأمل أن تقرر اللوائح التنفيذية حق المستفيد في السداد المبكر في أي وقت، دون اشتراط مرور مدة معينة كما هو متبع حاليا لدى غالبية الممولين.
ثالثا: حظر حلول الأقساط المؤجلة عند تعثر المستفيد:
درجت غالبية المصارف وشركات التمويل على تضمين عقود التمويل المضمونة برهن (كالمرابحة والاستصناع) شرطا يقضي بحلول جميع الأقساط المؤجلة في حال تعثر المستفيد، وهو شرط يجافي قواعد العدالة، فالأقساط المؤجلة تتألف من عنصرين: صافي مبلغ التمويل، والربح مقابل الأجل، ويستحق الممول هذا الربح باعتباره قيمة مضافة على مبلغ التمويل مقابل الأجل (أي مدة التمويل)، وبالتالي فإن إلزام المستفيد – عند التعثر – بسداد ربح كامل المدة المتبقية من التمويل بشكل فوري وحالّ يعني ببساطة: إلزام المستفيد بسداد أرباح دون وجه حق، فكيف عالجت أنظمة التمويل هذه الجزئية الحساسة؟
الإشارة الوحيدة لهذه النقطة وردت في نظام الرهن العقاري المسجل، إذ يفهم من المادة 38/2 أن تعثر المستفيد لا يجيز حلول الأقساط المؤجلة، إذ يقتصر حق الممول في هذه الحالة على استيفاء الأقساط الحالّة التي تأخر المستفيد في سدادها من ثمن العقار المرهون بعد بيعه، ومن ثم يودع المتبقي من ثمن العقار في حساب بنكي للمحكمة، وللمدين طلب الإفراج عن المبلغ إذا قام بالسداد المبكر لباقي مديونيته، أو قدم كفالة مصرفية لسداد باقي الدين، وبالتالي يمكن القول – من حيث المبدأ – إن سداد الأقساط المؤجلة سيتم وفق قواعد السداد المبكر لا وفق مبدأ حلول جميع الأقساط المؤجلة كما هو معتاد في الممارسة العملية للممولين، لكننا نعتقد أن نظام الرهن العقاري لم يكن موفقا في معالجته لهذه الجزئية، إذ إن حبس باقي ثمن العقار المرهون إلى حين سداد المستفيد المتبقي من المديونية هو حل يفتقر إلى الواقعية، فالمستفيد المتعثر أصلا في السداد سيعجز عن توفير سيولة نقدية لسداد باقي المديونية، فضلا عن عدم قبول أي مصرف منحه كفالة مصرفية، وهذا ما يؤدي إلى الإضرار بكل من المستفيد (الذي سيخسر باقي ثمن العقار) والممول (الذي سيخسر المتبقي من مديونيته) وكان الأولى أن تتم تسوية كامل المديونية من ثمن العقار المرهون، بحيث يستوفي الممول كلا من الأقساط الحالّة وفق شروطها الاتفاقية في العقد، والأقساط المؤجلة وفق أحكام السداد المبكر، ومن ثم يُرد الباقي إلى المستفيد.
رابعا:التسوية المالية في حال انتهاء العقد:
تعتبر التسوية المالية العادلة بين المستفيد والممول عند انتهاء عقد التمويل لأي سبب من الأسباب من المسائل التي تتطلب معالجة قانونية دقيقة تضمن حماية المستفيد، فكيف حلت أنظمة التمويل هذه المشكلة؟
حتى نتمكن من فهم الصورة بشكل أفضل سنقوم بفرز حالات انتهاء العقد المتوقعة، وتحليل آلية معالجة كل حالة على حدة، وذلك على النحو التالي:
تعثر المستفيد في السداد: إن تعثر المستفيد في السداد في عقود التمويل المضمونة برهونات عقارية كالمرابحة والاستصناع لا يؤدي إلى فسخ العقد، وإنما يقتصر أثره في التنفيذ على العقار المرهون، وقد ذكرنا آنفا أن النظام يقرر في هذه الحالة التسوية بين الطرفين وفق قواعد السداد المبكر، أما التعثر في عقود الإجارة التمويلية فيتطلب معالجة أكثر دقة، بالنظر إلى أن الأجرة التمويلية تزيد في الغالب على الأجرة التشغيلية المعتادة (خصوصا في العقارات) ذلك أن المستأجر في واقع الأمر لا يسدد أجرة وإنما دفعات مقسطة من ثمن العقار، فإذا فُسخ عقد الإيجار التمويلي نتيجة تعثر المستفيد في السداد، فهل يُلزم الممول برد الفرق بين الأجرة التمويلية الاتفاقية والأجرة التشغيلية (أي أجرة المثل) باعتبار أن هذا الفرق كان مقابل التملك، وقد تعذر التملك نتيجة فسخ العقد؟ يجيبنا نظام الإيجار التمويلي في المادة 22/4 بإقرار مبدأ عام بضرورة التسوية العادلة بين الطرفين عند فسخ العقد أو انفساخه، بغض النظر عن سبب الفسخ أو الانفساخ، محيلا في التفاصيل إلى اللائحة التنفيذية لنظام الإيجار التمويلي، مع ملاحظة أن الضوابط الشرعية لا تلزم الممول في هذه الحالة بتعويض المستفيد، نظرا لأن الفسخ كان بسبب المستفيد.
هلاك العقار: في عقود التمويل المضمونة برهونات عقارية يترتب على هلاك العقار المرهون هلاكا كليا التزام العميل الراهن (المستفيد) بتقديم رهن مقابل، فإن لم يفعل أُلزم بسداد الدين وفقا لأحكام السداد المبكر (المادة 14/2 من نظام الرهن العقاري المسجل)، أما في عقود الإجارة التمويلية فيترتب على هلاك العقار المأجور (فضلا عن فسخ العقد) تسوية مالية تحقق العدالة بين الطرفين وفق ما ذكرنا آنفا (22/4 من نظام الإيجار التمويلي) ومجددا يحيل النظام إلى اللائحة التنفيذية في التفاصيل، مع ضرورة التنويه إلى أن الضوابط الشرعية تميز بين هلاك المأجور بسبب المستأجر (وهنا يخسر المستأجر الفرق بين الأجرة التمويلية والأجرة التشغيلية، فضلا عن ضمان الأصل المؤجر فيما لا يغطيه التعويض التأميني) وهلاك المأجور بسبب المؤجر أو لقوة قاهرة (وهنا يلزم الممول برد الفرق بين الأجرة التمويلية والأجرة التشغيلية).
وفاة المستفيد: تعتبر وفاة العميل من المسائل الحساسة في عقود التمويل، وتتفاوت معالجة الممولين لها بين إعفاء الورثة من كامل المديونية، أو سريان ذات شروط العقد عليهم، وبالتالي التنفيذ على العقار في حال تعذر استيفاء المتبقي من المديونية، ولهذه القضية بعد إنساني مما يتطلب معالجة قانونية حاسمة، والغريب أن أنظمة التمويل خلت تماما من أي إشارة أو معالجة لهذه النقطة.
هذه هي مجمل مبادئ حماية المستفيد التي قررتها أنظمة التمويل، ومن الواضح أنها دون المستوى المأمول، إذا فات الأنظمة الكثير من المبادئ التي يحتاجها المستفيد، ولكن حتى لا نبخس الأنظمة حقها قد يكون من الأنسب ترقب اللوائح التنفيذية لأنظمة التمويل، فقد تحمل إضافات وتفاصيل قانونية جديدة، وحسبنا هنا اقتراح مجموعة من المبادئ المهمة (إضافة إلى ما بيناه أعلاه)، ونأمل أن يتم استدراكها في اللوائح التنفيذية لأنظمة التمويل:
ضبط وتنظيم حالة التعثر بشكل قانوني واضح من حيث تعريف التعثر، وتحديد عدد الأقساط المتأخرة التي تجيز للممول مباشرة إجراءات التنفيذ على الضمانات (كبيع العقار المرهون، أو إخلاء المستأجر)، إذ أغفلت أنظمة التمويل معالجة هذه الجزئية على الرغم من أهميتها وخطورتها.
صياغة أحكام تفصيلية تغطي جميع حالات انتهاء عقد التمويل (وعلى وجه الخصوص وفاة المستفيد) بما يحقق تسوية مالية عادلة بين الطرفين.
التمييز من حيث الأحكام القانونية بين المعسر المتعثر عن السداد لأسباب قاهرة خارجة عن إرادته (كالفصل من العمل أو الإصابة بعجز دائم)، والموسر المماطل في السداد دون وجه حق، وذلك بمنح المتعثر مزايا خاصة (كإسقاط عدد معين من الأقساط، أو الاكتفاء بسداد المتبقي من صافي المديونية دون أي ربح، وهو مستوى متقدم عن السداد وفق معادلة السداد المبكر).
تقرير أحكام خاصة لحالات التعثر التي يشترك الممول مع المستفيد في تحمل مسؤوليتها (كالموافقة على منح تمويل لعميل مرتبط بعقود تمويل أخرى، مما ضعف من قوته الائتمانية ويزيد من احتمالية تعثره).
ضبط نسبة الاقتطاع من الراتب بالسقف النظامي المحدد في الأنظمة ذات العلاقة (نظام العمل، نظام الخدمة المدنية، نظام التقاعد) إذ يميل غالبية الممولين إلى تجاوز النسبة النظامية للاستقطاع من الراتب، خصوصا في التمويل العقاري، محتجين بوجود تعاميم صادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي يجيز ذلك.
اقتصرت أنظمة التمويل على تقرير مبدأ الإفصاح للمستفيد عن مسألتين فقط وهما: تكاليف التمويل، ومعادلة السداد المبكر، وحبذا لو يتم إقرار مبدأ حق المستفيد بالاطلاع على كامل بنود عقد التمويل، والحصول على نسخة منه قبل الدخول في أية علاقة تعاقدية مع الممول، إذ يميل غالبية الممولين إلى حجب نسخة العقد عن طالب التمويل، وحرمانه من الحق في الاطلاع عليه قبل التعاقد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً