نظرة في قانون العزل السياسي
د . الهادى على بوحمره
بعد الاطلاع على القانون رقم 13 لسنة 2013م بشأن العزل السياسي وعلى الظروف التي سبقت وعاصرت إصداره، يمكن ملاحظة التالي:
أولا/ أن القانون صدر في ظل ظروف سياسية لا تسمح بممارسة أعضاء المؤتمر الوطني العام لمهامهم باعتبارهم ممثلين للشعب الليبي. ذلك أنهم لا يتصور أن يكونوا نوابا عن مواطنيهم إلا عند عملهم في ظروف تكفل لهم حرية الاختيار والتصرف. فظروف الإكراه المعنوي التي تعرض لها المؤتمر الوطني قبل ووقت إقرار القانون تنفي عن الأعضاء صفة الممثلين للشعب الليبي وتؤدي إلي انعدام الوجود القانوني لما يصدر عنهم نتيجة للإكراه. ومن المقرر قضاء والمتفق عليه فقها أن الإكراه المعنوي عن طريق الإنذار بشر إن لم يقم المكره بفعل معين ينقص حرية الاختيار على نحو يجردها من القيمة القانونية، الأمر الذي يعدم الوجود القانوني لما تنتجه هذه الإرادة في ظل هذه الظروف. ومن صور ممارسة هذا الإكراه على أعضاء المؤتمر الوطني دفعهم لتبني هذا القانون بالاعتصام أمام مقره باستخدام الأسلحة ومحاصرة بعض الوزارات من أجل الضغط لتبني القانون ( أنظر أقوال بعض أعضاء المؤتمر الوطني المنشورة). ومما زاد من وقع الإكراه على إرادة أعضاء المؤتمر الوطني الاستجابة لشروط من قاموا بالتهديد بأن تم التصويت العلني على القانون بشكل يتبين من خلاله للكافة من يقف ضد القانون، الأمر الذي حرمهم من الضمانات التي يوفرها التصويت على القانون بشكل سري، ومكن لمن مارسوا التهديد بمراقبة سلوك كل عضو من الأعضاء.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر يستوجب انتفاء صفة الممثل للشعب على أعضاء المؤتمر الوطني بشأن كل الأعمال التي يباشرونها تحت تأثير الإكراه وهو ما يترتب عليه بالضرورة القول بعدم الوجود القانوني لهذه الأعمال ووجوب تدخل القضاء لإنهاء وجودها المادي لغرض منعها من إنتاج أثار مادية تبدو أنها شرعية بحكم الظاهر.
ثانيا/ قبل إصدار قانون العزل السياسي، قام المؤتمر الوطني بتعديل المادة السادسة من الإعلان الدستوري بإضافة التالي: ( لا يعد إخلالا بما ورد بهذا الإعلان منع بعض الأشخاص من تولي المناصب السيادية والوظائف القيادية والإدارات العليا في الدولة لفترة زمنية مؤقتة بمقتضى قانون يصدر بالخصوص بحيث لا يخل بمبادئ حقوق الإنسان في حق التقاضي للمعنيين.).
ويبدو أن المقصود من هذا التعديل للإعلان الدستوري الذي سبق إصدار قانون العزل السياسي هو محاولة تفادي الطعن في دستورية القانون الأخير.
وبالتمعن في النص الذي أدخل على نص المادة السادسة من الإعلان الدستوري نجده يتجاوز التعديل ليصل إلي درجة تعطيل العمل بمبادئ حقوق الإنسان التي تضمنها الإعلان الدستوري ومنها مبدأ المساواة بين الليبيين ومبدأ عدم تقييد الحقوق إلا في إطار الضوابط الدستورية.
ومن المناسب هنا التفرقة بين نصوص الإعلان الدستوري وفق معيار محتواها حيث أن منها ما يتعلق بمسائل إجرائية كالجداول الزمنية للمرحلة الانتقالية والتي قد تستوجب ظروف الواقع ومتغيراته تعديلها، ومنها ما يتعلق بضمانات الحقوق والحريات وهو ما لا يجوز تعديلها. ذلك لأنها تشكل جوهر مشروعية التغيير في ليبيا والمساس بها هو مساس بمشروعية التغيير وبالركائز التي يجب أن تقوم عليها الدولة الليبية الحديثة والتي تضمنتها ديباجة الإعلان الدستوري.
و هنا يجب ملاحظة أن حق التقاضي هو حق يكفل اللجوء للقضاء على أساس مبادئ حقوق الإنسان من جهة، وعلى أساس مدى انطباق القواعد القانونية على الحالات الفردية من جهة أخرى. وحرمان الفرد من أي من المكونين هو حرمان من حق التقاضي. بمعنى أن للفرد أن يطعن في أساس وجود القاعدة وفي عدم مراعاتها للضوابط التي تحكم عمل المشرع، كما يمكن له أن يطعن-أيضا- في شرعية انطباق معاييرها على حالة بعينها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن تعديل المادة السادسة من الإعلان الدستوري المشار إليه سابقا يعتبر صورة من صور حرمان من حق التقاضي.
وبالإضافة إلي أن المؤتمر الوطني العام لا يملك تعطيل الحقوق والحريات والتي منها حق المساواة بين المواطنين الليبيين وضمانات هذه الحقوق والتي منها حق التقاضي الواردة في الإعلان الدستوري، هو لا يملك تعطيل هذه الحقوق باعتبارها مقررة بموجب مبادئ تسمو على كافة الدساتير الوضعية وذلك باعتبار أن الصكوك الدولية والتشريعات الوطنية لا تعدو أن تكون كاشفة لها. ويدلل على هذا المعني ما قررته المحكمة العليا نفسها في الطعن الدستوري رقم 1 لسنة 14 ق ( جلسة 9/ 4/ 1395 هجرية 13/ 6/ 1970م)، والذي قضت فيه بما يلي:
)إن إغلاق باب التقاضي دون أي مواطن مخالف لكل دساتير العالم في نصوصها المكتوبة وغير المكتوبة في مفهومها وفي روحها ، على أنه إذا خلا أي دستور مكتوب من النص على حق كل مواطن في الالتجاء إلي قضاء تؤمن له فيه حقوق الدفاع، فإن هذه القاعدة مستمدة من أوامر العلي القدير وم الحقوق الطبيعية للإنسان منذ أن خلق.). ومن المهم التذكير للمرة الثانية هنا إلي أن حق التقاضي لا يقتصر على حق المنازعة في دخول حالة محددة في نموذج قانوني معين وإنما يمتد إلي حق المنازعة في مشروعية وجود هذا النموذج القانوني، وتعطيل أي من الحقين هو انتهاك لحق التقاضي.
من جهة أخرى، يعتبر أي تدخل تشريعي لحرمان القضاء من رقابة دستورية القوانين هو تعطيل للضوابط التي يجب أن تحكم المشرع، ومنح المؤتمر الوطني لنفسه سلطة مطلقة في شأن من الشؤون تعدم الفائدة من وجود الإعلان دستوري من الأساس، لان من أهم وظائف الإعلان الدستوري إيجاد إطار يعمل فيه المشرع ولا يوجد له تجاوزه. وتحصين قانون قبل إصداره هو عبارة عن إعطاء السلطة التشريعية سلطة مطلقة في تضمينه ما تشاء من تدابير وإجراءات. ومتى كان ذلك ممكنا، فإن الأمر يعني بكل وضوح فقدان الأهمية القانونية لوجود القيد.
كما أن التعديل الدستوري محل النظر هو تعديل ألحق بالمادة السادسة من الاعلان الدستوري ولا مجال لمده للمادة الثالثة والثلاثين التي تنص على أن حق التقاضي مصون ومكفول للناس كافة وعلى حظر تحصين أي قرار من رقابة القضاء. وهو المبدأ الذي يعتبر ركيزة لسيادة القانون القائم عليها الإعلان الدستوري في مبناه ومعناه ولا يمكن تصور أن يتحول الإعلان الدستوري إلي هادم لها. وغني عن البيان القول أن سيادة القانون قائمة على استقلال القضاء ومن ضمانات استقلال القضاء حرمان أي سلطة أخرى من إمكانية تعطيل إمكانية اللجوء إليه. باعتبار أن سيادة القانون في الدولة أي المشروعية تصبح كلاما بغير مضمون أو شعارا عديم الفاعلية ما لم يوجد قضاء يراقب المشروعية ويضع حدودها.
ثالثا/ بالانتقال من دستورية وجود التعديل الدستوري في حالة فهمه على أنه يتضمن تحصين قانون قبل صدوره ومن الجدل في سلامة إرادة أعضاء المؤتمر الوطني العام عند إصداره إلي محتوى القانون، فإن البحث في مشروعية وشرعية قانون العزل السياسي يستوجب تحديد طبيعته والهدف من إصداره.
فقانون العزل السياسي هو قانون يتضمن حرمان من بعض الحقوق المدنية والسياسية، والحرمان من هذه الحقوق تحت وصف العقوبة أو التدبير هو استثناء لا يقرر إلا لضرورة والضرورة تقدر بقدرها دون إفراط وتفريط. فحتى مع التسليم بأن البلاد تمر بظروف استثنائية تستوجب حرمان بعض الأفراد من تقلد المناصب السيادية والمراكز القيادية في الدولة وهو ما يعني ضرورة الخروج مؤقتا من تطبيق القواعد العادية، فإن ذلك لا يجب أن يتجاوز ضمانات دستورية تمثل الحد الأدنى للشرعية الدستورية والتي لا يجوز التفريط فيها أو وقفها أو الحد من قيمتها ومنها أصل البراءة والضمان القضائي، لأن القضاء مهما كانت الظروف هو حصن الحريات وحاميها وحارسها، ولأنه بإلغاء الضمان القضائي تتحول السلطة التشريعية إلي سلطة تحكمية.
وعند محاولة ضبط الهدف من قانون العزل السياسي، فإننا نجد أنه لا يتجاوز حماية التغيير ومنع الفاعلين في ظل النظام السابق من عرقلة بناء الدولة الجديدة والتمكين لنظامهم من العودة من جديد، وهو ما لا يمكن تصوره من أشخاص عملوا مع النظام السابق تم ساهموا بشكل واضح بدور فعال وبارز في إسقاطه، الأمر الذي يعني أن شمولهم بقانون العزل يعطي مثالا على تجاوز حالة الضرورة في معايير العزل السياسي وتعسف في استعمال المشرع لسلطته بتقرير حرمان بعض الموطنين من بعض حقوقهم المدنية والسياسية.
وبالرجوع إلي بناء قانون العزل السياسي نجد أنه بني على الصفة ولم يبن على السلوكيات التي يمكن أن تسند للأشخاص محل العزل للتدليل على خطورتهم، وهو الأمر الذي أنتج تدابير تتضمن حرمانا من بعض الحقوق على أساس من الافتراض الذي يناقض بشكل فاضح أصل البراءة ويتجاوز حالة الضرورة التي يمكن قبول الاستثناء في الظروف الاستثنائية استنادا إليها. كما الاستناد إلي الاشتهار الذي يقوم عليه الاشتباه المفضي- وفق قانون العزل- إلي الحرمان من حقوق سياسية ومدنية هو إخلال بأدنى الضمانات الدستورية التي وضعت في الإعلان الدستوري الذي خرج به الليبيون من الشرعية الثورية إلي الشرعية الدستورية والتي لا يجوز العودة إليها إلا بإسقاط النظام الدستوري المؤقت القائم حاليا. بمعنى أن الحرمان من الحقوق والحريات الذي ورد في قانون العزل السياسي والذي – وأن وصف بأنه تدبير وقائي- فإنه يتسم بخصائص العقوبة وينطوي على عبئها وهو إيلام مقصود لا يتقابل مع فعل أثم محدد بشكل دقيق وواضح. والشخص لا يمكن- وفق كافة الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والدساتير الحديثة- أن يسأل على غير أفعاله ولا يجوز أن يعلق مصيره على غيرها.
وبما أن الحرمان من الحقوق والحريات استثناء، فإنه يجب أن يخضع للوازم مبدأ شرعية العقوبات والتدابير أيا كان الوصف القانوني لهذه العقوبات والتدابير بحيث يجب أن تكون النصوص القانونية المقررة لها واضحة ومحددة وبعيدة عن الغموض، لأن كل غموض فيها يمكن أن يفضي إلي التحكم القضائي عند تطبيقها بسبب إمكانية تعدد تأويلاتها، ويمكن –كما تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية في القضية رقم 114 لسنة 21 قضائية- أن تتحول إلي شباك أو شراك يلقيها المشرع ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون موقعها. وهو الأمر الذي يزعزع ما يسمى بالأمن القانوني الذي وضع الإعلان الدستوري لحمايته. كما يجب أن تحكم هذه النصوص معايير ومقاييس محددة وصارمة تلتئم مع طبيعتها وهو ما يتطلب أن تصاغ النصوص في حدود ضيقة يبعدها عن أن يكون أمرها فرطا(المحكمة الدستورية المصرية 2009).
وبالرجوع إلي نصوص قانون العزل السياسي، نجد أن معاييره أفرغت في نصوص مرنة مترامية الأطراف وتحتمل عدة تأويلات وتتجاوز الهدف الذي قرر الحرمان من الحقوق لأجله. ويكفي للتدليل على ذلك الجملة التي تبدأ بها عدة فقرات من المادة الأولي من القانون (كل من تولى ، كل من كان، كل من تكرر منه
اترك تعليقاً