استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون
يختلف نطاق الغبن وفق نظرية اللاستغلال من حيث حالات الضعف التي يستغل بها المتعاقد المغبون من القانونين المصري و السوري إلى القانون اللبناني . لذلك سوف نتعرض لهذا الشرط في القانون المصري و السوري أولا ، ثم نتعرض لهذا الشرط في القانون اللبناني .
( أولاً) في القانون المصري و السوري :
كما هو معلوم أن معظم نصوص القانون المدني السوري مطابق لنصوص القانون المصري ، لأنه في الأصل مقتبس منه ، لذلك كان لابد من البحث في القانونين لأنهما أصل واحد .
تنص المادة 129/1 مدني مصري و المادة 130/1مدني سوري على ما يلي :
“…قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً” وكان نص المادة 129 مدني مصري في المشروع التمهيدي للتقنين المصري يشترط على أن يكون الطرف المغبون قد استغل حاجته ، أو طيشه أو عدم إدراكه أو يكون قد تبين بوجه عام أن رضائه لم يصدر عن اختيار كاف .
ومما تقدم يتبين أن واضعي هذا المشروع قد أرادوا التوسع في تقرير نواحي الضعف التي يصح أن تكون محل استغلال في المتعاقد المغبون ، بيد أن لجنة من مجلس الشيوخ رأت ألا تصل إلى هذا الحد من التوسع و أن تجعل النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح ، إمعاناً في تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال خشية من التحكم ورغبته في انضباط التعامل و استقراره .
وهكذا فإن العنصر النفسي في الاستغلال محصور في الطيش البين أو الهوى الجامح ، لأن الغبن لا يعتبر سبباً قانونياً لإبطال العقد أو تعديله ما لم يكن مصحوباً بعوامل استغل بها أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً .
فإن ثبت أن العقد المتفق عليه جرى بدافع الطيش الذي استغله الطرف الآخر فإنه يقتضي إيجاد التعادل بين التزامات الطرفين،أما إذا كان المدعي كامل الأهلية حين إبرام العقد ، كان الفرق بين الثمن الحقيقي و المسمى في العقد لا يشكل غبناً يؤدي إلى اختلال التوازن الفاحش الذي أوجبه المتشرع في الاستغلال فإن ذلك يوجب رد الدعوى .
و يلاحظ أن نص المادة 129مدني مصري والمادة 130مدني سوري بوضعهما الحالي عجزاً عن مواجهة الحالات التي يبرم فيها الشخص وهو مسلوب الإرادة، دون أن يكون ذلك راجعاً إلى طيش بيّن أو هوى جامح، وقد عرض على القضاء حالات من هذا القبيل فلجأ إلى نظرية الاستهواء و التسلط على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي ، بأن قضى بإبطال عقد البيع لفساد رضا البائع كونه متقدماً في السن و مصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أن تضعف إرادته فيصير سهل الانقياد خصوصاً لأولاده المقيمين معه في المنزل .
وكان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يواجها هذه المسألة بنص صريح يهتدي به القضاء لكثرة وقوع مثل هذه المسائل في مجتمعنا بدلاً من الالتجاء إلى نظرية الاستهواء و التسلط على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي .
هل تكفي الحالات التي وردت في القانونين المصري والسوري لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
إن المتشرعين السوري و المصري كما رأينا قد قصرا الغبن وفق النظرية الشخصية على الهوى الجامج أو الطيش البين ، و استبعدا بصورة صريحة استغلال الحاجة و عدم الخبرة .
على الرغم ما لهاتين الحالتين من أهمية كبيرة في مقاومة الاستغلال بحجة الحفاظ على استقرار المعاملات لأنه في حال إقرارهما سيؤدي ذلك إلى إرباك المعاملات و عدم استقرارهما ، لذلك كان من واجب المتشرعين أن يقرا الحاجة و عدم الخبرة بجانب الهوى الجامح و الطيش البيّن لمقاومة الاستغلال و ذلك لعدم كفاية الطيش البيّن و الهوى الجامح لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
و هكذا و مما تقدم كان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يكونا أكثر شجاعة وأن يقرا بجانب الهوى الجامح والطيش البيّن،عدم الخبرة أو الضيق أو الحاجة كما كان من واجبهما أن يواجها حالة انعدام الإرادة على نحو بيّن .
ثانيا : في القانون اللبناني :
تصدى القانون اللبناني لهذا العنصر في المادة/214/ موجبات وعقود فقال ما يلي :
{إذا كان المستفيد قد أراد استثمار ضيق أو طيش أو عدم خبرة في المغبون} ، نلاحظ أن القانون اللبناني كان أوسع و أشجع من القانون المصري والسوري بأن تصدى لعدم الخبرة في المغبون بيد أنه لم يورد الضيق أو الحاجة مثله في ذلك مثل القانون السوري والمصري،وكان من الأجدر بحسب اعتقادي أن يتصدى للضيق المغبون لكثرة تكرار هذه الحالة في المعاملات وقسوتها على الأشخاص المغبونين .
و سوف نتصدى الآن بالشرح إلى معنى الضيق ، ثم الطيش ثم عدم الخبرة .
1- الضيق :
اختلف الفقه و القضاء اللبنانيان في تفسير المقصود بالضيق بالمادة /214/موجبات وعقود ، فرأى البعض أنه يقصد به العسر المالي الذي يؤثر في نفسية الشخص فيحمله على قبول التعاقد بشروط مجحفة و بهذا المعنى قضت محكمة التمييز ، فقالت أن : { الضيق المقصود إنما هو العسر الذي يحمل المرء على التعاقد مع شخص آخر بشروط مجحفة ، فإذا اضطر البائع لإجراء العقد مع شخص آخر بشروط مجحفة اجتناباً لمطالبات أو ملحقات قد تنال من كرامته الشخصية أو من سمعته المالية ، فإنه يمكن للمحكمة بما لها من حق التقدير وبالنظر لمركزه الاجتماعي وظروفه وحالته الصحية ، أنه في وقت العقد بحالة الضيق التي عناها المشترع } .
ورأى فريق ثان بأن الضيق المقصود بالمادة /214/هو الحاجة الماسة للمال والتي من شأنها أن تعرض للخطر حال الشخص الاقتصادية بصورة فعلية،وفريق ثالث يرى أن الضيق هو انعدام الثروة أو فقدا الثقة المالية الذي ينجم عنهما العوز الشديد لدى المتعاقد ، بحيث يتعذر عليه تأمين حاجاته الأساسية و العائلية .
أعتقد أن رأي الفريق الأول والذي يدعمه قرار محكمة التمييز سالف الذكر هو الأصوب و الأحوط حفاظاً على مصالح المتعاقدين الواقعين تحت الضيق بإضافة إلى أن المتشرع اللبناني قد أورد لفظ الضيق ولم يصفه بالشديد ومن الواجب علينا أن نطبق النص وفق مظاهره إلى أن يثبت تطيقه بدليل قوي وذلك حفاظاً على مصلحة أفراد المجتمع.
2-الطيش:
بينت محكمة البداية المدنية أن{الطيش الذي عنته المادة/214/موجبات يعتبر متوفراً إذا كان الشخص المغبون لم ينتبه عن إهمال منه و عدم مبالاة ، إلى النتائج التي قد تتولد ضد مصلحته عن العقود التي يجريها… وليس من الضرورة أن يكون الطيش حالته المعتادة،بل يكفي ظهوره عند المتعاقد المقرون بالغبن}.
كذلك قضت محكمة التمييز بأنه: إذا عللت محكمة الاستئناف قرارها القاضي بإبطال البيع بسبب الغبن لوجود تفاوت شائع بين قيمة البيع وثمنه يتحقق معه العنصر المادي للغبن،وأنه تبين لها أن البائع كان طائشاً و مبذراً و مقامرا ًو مرهقاً بالديون ، و أن حالته هذه كانت معروفة من المشتري الذي هو ابن بلدته وقريبه الذي استغل طيشه ، فإن هذا التعليل يكون كافياً للحكم بإبطال البيع بسبب الغبن .
وبطبيعة الحال لا تعتبر حالة الطيش متوفرة إذا كان الشخص قد أبرم العقد بعد عدة استشارات ، فإذا قام بتلك الاستشارات،فليس له أن يسند إلى طيشه لإبطال تصرف ألحق به الغبن و لو لم يتبع تلك الاستشارات،لأن الظروف تكشف عن أنه لم يقدم على التصرف بخفة و اندفاع .
3-عدم الخبرة :
ويراد بعدم الخبرة عدم توفر المعلومات اللازمة بالنسبة إلى العقد الذي تم إبرامه ، و إن عدم الخبرة يمكن أن يكون عاماً ، أو أن يحصر في نواحي معينة ، معنى أن الشخص الذي تنقصه الخبرة في إحدى النواحي يمكن أن تتوفر فيه الخبرة في غيرها .
و قد قضت محكمة الاستئناف بأن : {كبر سن البائع المصاب بتصلب الأنسجة الدماغية مما يجعله ضعيف الشخصية و الإرادة ، إذا اقترن بتغيبه عن بلدة مدة طويلة ، و بعدم إطلاعه مباشرةً على حالة عقاراته و تقدير أوضاعها ، دليل على عدم خبرته بالنسبة للعقد الذي أقدم على توقيعه} .
و قضت بأن زيادة التخمين عن الثمن المصرح به عشرة أضعاف تشكل الغبن الفاحش،كما أن وجود البائع في المهجر يشكل قرينة على عدم معرفته قيمة العقارات وعدم خبرته بأثمان الأراضي في لبنـان.
وهكذا نلاحظ بأن القانون اللبناني كان أوسع من القانون المصري والسوري ،بيد أن هذا التوسع أيضاً لا يشبع ولا يغني من جوع،فهناك حالات كثيرة بقيت بعيدة عن الحل،مثل ضعف الإدراك حيث خلط القضاء اللبناني ما بين عدم الخبرة و ضغف الإدراك { كما في حكم محكمة الاستئناف المدنية الشمال قرار رقم/17/في/20/شباط/1957/ المشار إليه بمجموعة اجتهادات حاتم } و بهذا كان من واجب المتشرع اللبناني أن يضم ضعف الإدراك إلى الحالات السابقة حتى يعالج حالات الغبن وفق النظرية الشخصية معالجة حسنة نوعاً ما.
اترك تعليقاً