التعويض عن المماطلة
قد يراه البعض حراما لكنه ليس بربا”
يورد البعض في عقودهم العقارية بعض الشروط الملزمة بالتعويض في حال حصل التأخر عن السداد والمماطلة فيه, وهي من المسائل التي تحتاج إلى بحث موسع لكن للأسف لا يمكن أن تتسع هذه الزاوية لذكر تفاصيل وضوابط يقتضيها إيضاح الفكرة المشار إليها فضلا عن ذكر الأقوال والأدلة, ولهذا أرجو من القارئ الكريم أن يتفهم ذلك ويعلم أنني لا أريد إلا ما أكتبه نصا, وليس له أي امتدادات غير مكتوبة قد تبرز في أذهان البعض اجتهادا منهم.
لا جدال ولا نقاش في تحريم “الربا ” والنصوص في ذلك معروفة ومشهورة, إلا أن هناك جدلا كبيرا في بعض الصور الحادثة ومدى اعتبارها من الربا المحرم, وهذا الجدل والبحث أمر مشروع ولا ينبغي التثريب فيه على المخالف سواء كان من القائل بالتحريم أو التجويز ما دام أنه التزم بأصل البحث العلمي وما يقتضيه الحوار والأخلاقيات العلمية من تفهم رأي المخالف ومناقشته على مستوى الرأي والفكرة والقول, وألا يطول ذلك الأشخاص ونياتهم ومراداتهم غير المنطوقة, وهذا أيضا من المسلمات في ديننا الحنيف وها هي كتب الفقهاء مليئة بالخلافات والنقاشات في المسائل العويصة, ومن يشكك في هذا المبدأ فعليه أن يقرأ كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية “رفع الملام”.
موضوع المقال يتناول الحكم بالتعويض عن المماطلة وإلزام المماطل الموسر بدفع مبلغ من المال يقدره القضاء للدائن تعويضا عن المدة التي فاته فيها استغلاله, ولبيان المسألة لا بد من الإشارة إلى صورتين, الأولى: أنه من الربا الصريح المحرم أن يتفق الطرفان على أنه في حال تأخر المدين عن سداد المبلغ فيلزمه دفع مبلغ من المال يحدد في العقد تعويضا عن الضرر, وهو ما يعبر عنه بـ” الشرط الجزائي في الديون”, وقد صدرت فتاوى المجامع الفقهية بتحريمه, والثانية: تعويض الدائن عن الضرر الفعلي, ويسمى: ” المادي, أو: الجسيم ” مثل: أجرة المحامي, أو التزام صاحب الحق بدفع مبلغ مالي لطرف ثالث في معاملة أخرى بسبب هذه المماطلة, وهذه الصورة أجازها عدد من الفقهاء, وهو قول وجيه تقتضيه القواعد العامة للشريعة, أما الحديث في هذا المقال فهو إذا ما حصل من المدين الموسر مماطلة في سداد حق الدائن فهل من العدالة أن يقال للدائن ليس لك إلا مالك فقط, ولا ينظر في الضرر الذي حصل عليه لقاء تعطيل المدين لهذا المال, ولا سيما في مثل هذا العصر الذي جدت فيه أدوات وآليات لاستثمار المال في سرعة هائلة بحيث تغيرت معايير التأخير في هذا العصر عن معاييره وصوره في العصور السابقة, كما اختلف الأثر في التأخير عما سبق, وستبرز التحديات في العقود الدولية الضخمة, وتجارة الشركات عابرة القارات, إن قواعد العدالة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية تجيز مثل هذا التعويض, والقضاء هو المعني بتحديده وفق معادلات اقتصادية يحددها أهل الخبرة.
وقد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته”, وقد ذكر بعض الفقهاء في تأويل هذا النص على أنه مانع من الحكم بالتعويض على المماطل الموسر على أساس أن النص اقتصر على العقوبة وهي عقوبة تعزيرية, وفي رأيي فهذا فهم غير صحيح, فليس في النص ما يدل على ذلك كما أنه لم يتضمن حصرا لكل ما يلزم المماطل, وغاية ما هنالك هو تجريم هذا الفعل وبالتالي تشريع العقوبة, وأما التعويض فمستنده ومصدر الإلزام فيه قواعد ونصوص أخرى.
كما أنه قد يلتبس على البعض التشابه بين هذه الصورة وصورة الربا المحرم في مطلق الصورة كونها تضمنت إعادة المبلغ وزيادة, وهو غير مقنع للتحريم لأن التشابه وصف غير مؤثر ولا يمكن اعتباره موجبا للتحريم, ودليل ذلك: التشابه الأكثر بين صورة الربا المحرم وبين ما هو متفق عليه من جواز إعادة الدين وزيادة “حسن الوفاء” إذا لم يكن ذلك باتفاق بين الطرفين, فالصورة هنا هي ذات الصورة والفرق هو عدم وجود الاتفاق, والزيادة جاءت مقابل الإحسان, ولا يخفى أن هذا كاف في إخراجها من الربا المحرم. وفي رأيي أن تعويض المدين من قبل القضاء مشابه لذلك بل هو أولى لأن الزيادة هنا مقابل الضرر وهو أوجب من أن يكون مقابل الإحسان.
بقدر ما أردت الإشارة إلى مسألة التعويض عن الضرر “المدني” وبالذات في العقود التجارية الضخمة – ومنها العقارية – , وأنها من المسائل التي تعيد التوازن العدلي في الحقوق وهو مطلب شرعي سينعكس إيجابا على الاقتصاد بعامة , فقد قصدت أيضا الإشارة إلى ضرورة الموضوعية والدقة في التكييف واستخدام المصطلحات وإسقاط النصوص والبعد عن التهويل والتهديد بنصوص لا تنطبق على المسألة , فقد – وهي للتقليل – تكون الصورة موضوع المقال محرمة ولكن ليست بربا كما سبق , وبينهما فرق بين وكبير يعرفه المختصون.
أيها السادة: إن توسيع دائرة النص بإدخال صور لا ينطبق عليها يضعف هيبة النص فيما هو داخل فيه أساسا, والله أعلم.
اترك تعليقاً